الجمعة 03 أكتوبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

الزعيم فى مصيدة جيل «زد».. الاغتيال الأخير لجمال عبدالناصر

حرف

- عبدالناصر أمام هذا الجيل هو الرئيس المهزوم اليائس المحبط الذى يستجدى العرب ويهاجمهم

ليس فيما يجرى أى جديد. 

كان هذا هو تعليقى على التسجيل الأحدث الذى أذاعته قناة «ناصر تى فى» عبر اليوتويب فى الذكرى الخامسة والخمسين لرحيل الرئيس جمال عبدالناصر. 

أصبحنا نعرف كل شىء عن القناة، ملكية أسرة الرئيس عبدالناصر لها، وإشرافها عليها. 

ولم يفاجئنا ما جاء فى هذا التسجيل على لسان عبدالناصر، فقد سبقته تسجيلات أخرى أذاعتها نفس القناة فى إبريل من العام ٢٠٢٥، وأثارت وقتها ضجة هائلة، فقد استمعنا فيها إلى عبدالناصر آخر لم نعرفه، ولم نتعود منه على هذا الخطاب تحديدًا فيما يخص إسرائيل والقضية الفلسطينية. 

فى إبريل الماضى انشغل الناس بما قاله عبدالناصر فى جلسة مباحثات مغلقة جمعته بالعقيد معمر القذافى فى أغسطس ١٩٧٠، قبل أسابيع من وفاته، حيث بدا مختلفًا فى موقفه من إسرائيل عما يعرفه الناس عنه. 

كانت الصورة الراسخة التى تم الترويج لها عن عبدالناصر أنه محارب شرس ضد إسرائيل، لم يقبل صلحًا ولا تفاوضًا، ولا سلامًا ولا استسلامًا، بل كان صاحب مقولة شهيرة بأنه سيلقى بإسرائيل فى البحر، وإذا كان لا يعجبهم فى تل أبيب ما يقوله، فليشربوا من البحر الأبيض، فإن لم يكفهم ماؤه فليشربوا من البحر الأحمر. 

ورغم أن البحث التاريخى أثبت أن عبدالناصر لم يقل هذه الكلمات أو يتفوه بها من الأساس، فإننا أصبحنا نرددها وكأنها قرآن يتلى فى صلواتنا بمحراب الرئيس الأسطورى، ورسّخ ذلك لدينا حرص الناصريين عبر العقود المتعاقبة على تأكيد صحتها ونسبتها إلى الزعيم الخالد. 

فى جلسته مع القذافى وجدنا عبدالناصر جديدًا ومختلفًا. 

عبدالناصر مغاير تمامًا للمواقف المعلنة والمعروفة عنه حول حتمية استمرار الحرب مع إسرائيل، وطردها من الأراضى المحتلة، وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر. 

عبدالناصر يتحدث بحذر عن دخول أى مواجهة عسكرية جديدة مع إسرائيل، لأن ذلك معناه أن نجد أنفسنا أمام نكبة جديدة لا تختلف فى شىء عن نكبة العام ١٩٤٨. 

عبدالناصر يدعو الدول العربية- التى رأى أنها لا تفعل شيئًا إلا المزايدة على مصر- أن تحشد قواتها ومحاربة إسرائيل، ما دام أنها تعتبر السياسات المصرية انهزامية. 

عبدالناصر مستعد لتقديم دعم مالى إذا اتفقت الجزائر والعراق وليبيا وسوريا على حشد قواتها والدخول فى حرب ضد إسرائيل، فهو لن يحارب بعد الآن. 

عبدالناصر يقول بوضوح وبلا مواربة أو إخفاء: إذا كان حد عايز يكافح فليكافح.. وإذا كان حد عايز يناضل فليناضل. 

عبدالناصر يطالب بوضع أهداف محددة للمعركة مع إسرائيل، بدلًا من الشعارات الرنانة، والأهداف التى لا يمكن تحقيقها فى ظل توازنات القوى والدعم الأمريكى الهائل لإسرائيل. 

عبدالناصر يستبدل شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة بشعار آخر ملخصه: اللى عاوز يحارب ييجى يحارب.. وحِلو عننا بقى.

حاول مريدو عبدالناصر والراقصون فى حلقة الدروشة التى نصبوها باسمه منذ أن أصبح رقمًا مهمًا وعظيمًا فى معادلات المجال العام السياسى فى مصر والمنطقة والعالم، أن يخففوا من وطأة ما سمعه الناس، فى محاولة تدليس تاريخية متقنة، لكن استطعنا وقتها أن نؤكد أن عبدالناصر الجديد ليس جديدًا ولا يحزنون، وأن ما قاله مسجل وموثق فى صفحات الكتب التى كتبها أنصار عبدالناصر قبل خصومه، لكن المشكلة أنه لا أحد يقرأ. 

مرة أخرى يظهر لنا عبدالناصر الجديد، من خلال تسجيل صوتى، وهذه المرة لجلسة جمعته مع الرئيس الموريتانى مختار ولد داده فى ٦ سبتمبر ١٩٧٠، أى قبل وفاته بـ٢٢ يومًا فقط، ما يعنى أن ما قاله فى أغسطس لم يكن رأيًا طارئًا قاله فى لحظة يأس، ولكنه رأيه الأخير والحقيقى وقناعته الكاملة فيما يتعلق بإسرائيل وموقف الدول العربية من المعركة والقضية الفلسطينية. 

كان الحديث مرًا مثل العلقم. 

ومرة أخرى يتجدد أمامنا عبدالناصر فى طبعته المختلفة. 

عبدالناصر يرد على المزايدين وخصوصًا فى الجزائر وسوريا والعراق، ويصفهم بأنهم يريدون من مصر القتال بمفردها وإلا اتهموها ببيع قضية فلسطين. 

عبدالناصر يعلن بوضوح أننا فقط نحارب ومعنا الأردن، أما السورى والعراقى فيكتفيان بالمزايدة، والبعثيون فى العراق وسوريا مُعادون لمصر، ولم يطلقوا طلقة واحدة على إسرائيل. 

عبدالناصر يكشف عن طلبه من الجيوش الجزائرية والعراقية والسورية القدوم لمحاربة إسرائيل ما دام لا يعجبها موقف مصر، لكنه لم يتلق ردًا منها. 

عبدالناصر يهاجم العرب الذين لا يكتفون بعدم الدعم، بل يهاجمون مصر بشكل يومى، وهو ما يصيب المصريين بمواقف نفسية أشد ضراوة من الإسرائيليين. 

عبدالناصر رأى أنه من العيب أن يطلب دعمًا عربيًا، ولا يريد أن يتكلم عما قدمته مصر من دعم إلى الدول العربية المختلفة. 

عبدالناصر الذى أيد الثورة الجزائرية بكل شىء، فلم يكن عندهم بندقية ولا رصاصة، منحهم أسلحة واعتمادات مالية، وهم أنفسهم الذين لم يساعدوا مصر بمليم واحد بعد عدوان ٦٧. 

عبدالناصر الذى يرد على العرب الذين يقولون إنهم يريدون تحرير فلسطين كلها، ويسأل: طب إزاى أحرر فلسطين كلها؟ بقالنا ٢٢ سنة ومقدرناش نعمل شىء، طب إذا كنا مش قادرين نحرر فلسطين، لو تقدروا أنتم تحرروها.. تعالوا حرروها. 

عبدالناصر الذى يقول للعالم إن الفلسطينيين رفضوا أى حلول لاستعادة جزء من الأرض، ويريدون إما استعادة كل الأراضى أو بقاء الاحتلال، ويقول بوضوح: لو بقى الاحتلال ستضيع الضفة والقدس. 

كان المسئولون عن قناة «ناصر تى فى» قد رفعوا هذا التسجيل الصوتى فجر ٢٨ سبتمبر ٢٠٢٥، التقطناه على الفور، وبدأنا فى نشر محتواه فى نقاط محددة، وبعد ساعات أصبح ما قاله عبدالناصر حديث وسائل الإعلام العربية. 

رد الفعل هذه المرة كان مختلفًا، لم يناقش أحد ما قاله عبدالناصر من حيث حقيقته أو عدم دقته، ولم يبحث أحد خلف ماهية القناة ومدى تبعيتها للدولة المصرية، وبالتالى مسئوليتها وتبنيها لما يقوله عبدالناصر، ولذلك فهى تروج له لأنه يتسق مع موقفها الحالى من القضية الفلسطينية وما يحدث فى حرب غزة بعد عملية طوفان الأقصى.. فقد أصبحنا نعرف كل شىء. 

لكن رد الفعل الذى جعلنى أتوقف أمامه هو مستوى تلقى الأجيال الجديدة وبخاصة «جيلى الألفية وزد». 

جيل الألفية من مواليد الفترة بين ١٩٨١ و١٩٩٦. 

وجيل زد من مواليد الفترة بين ١٩٩٧ و٢٠١٢. 

لم يهتم المنتمون إلى هذين الجيلين بجمال عبدالناصر، فى الغالب لم يقرأوا عنه، لم يرسموا له صورة من كتابات السابقين، سواء المؤيدون له أم المختلفون معه، ولذلك لم يكن لديهم رأى محدد فى تجربة الزعيم الأسطورى. 

بعد تسجيلات إبريل وسبتمبر ٢٠٢٥ بدأ أبناء «الألفية وزد» يرسمون صورة لعبدالناصر من واقع ما يقوله، وما تروجه وسائل الإعلام المختلفة عنه، وهى صورة للأسف ليست دقيقة ولا جيدة، بل هى أقرب إلى صورة منقوصة ومشوّهة. 

لقد تعرض عبدالناصر فى حياته إلى محاولات اغتيال مادية عديدة، كان هناك من يخطط للتخلص منه، مر عليهم خصوم كثيرون: 

البريطانيون الذين طردهم من مصر، وكانوا قد بدأوا احتلالهم لها فى العام ١٨٨٢، واعتقدوا كما كان يعتقد المصريون أنهم لن يخرجوا منها أبدًا. 

والإخوان المسلمون الذين حاولوا أن يزاحموه فى الثورة وحكم مصر من خلاله على طريقتهم وبهواهم، وعندما أزاحهم من الصورة جربوا أن يغتالوه فى المنشية خلال العام ١٩٥٤ وفشلوا، ثم عادوا إلى المحاولة مرة أخرى فى العام ١٩٦٥ وفشلوا أيضًا. 

والإسرائيليون بعد أن أصبح خصمًا واضحًا لهم، وبعد أن أدركوا أنه يجمع العرب على هدف واحد وهو مواجهتهم وإجلاؤهم عن الأرض.. كل الأرض. 

والأمريكان الذين جندوا إمكاناتهم وأجهزة مخابراتهم للتخلص من الزعيم الذى أصبح شوكة فى ظهورهم، وهم الذين خرجوا من الحرب العالمية الثانية بقرار أن يكونوا أسياد العالم الجديد. 

وبعد وفاته تعرض عبدالناصر لعدة محاولات لاغتياله معنويًا، كان أكبرها وأعنفها الحملة التى حركها الرئيس السادات من وراء ستار، فقد صمت فى مواجهة الهجوم على سلفه، لأنه كان يبحث عن شرعية جديدة فى الحكم بدلًا من شرعية خلافة الزعيم، وكان لا بد ليحصل على هذه الشرعية أن يحطم صورة عبدالناصر التى يعرفها الناس. 

ظل عبدالناصر فى مساحة الجدل السياسى لم يغادرها منذ رحيله، من يكرهه يراه شيطانًا كاملًا، ومن يحبه يراه ملاكًا مكتملًا، ولم يلتفت أحد إلى أنه كان رئيسًا بشرًا، تجربته إنسانية، الانتصارات فيها متاحة، والإخفاقات أيضًا، فلا يوجد على وجه الأرض من يمكننا اعتبارهم أصحاب تجارب كاملة حتى الأنبياء، وكم كان أحمد فؤاد نجم بليغًا عندما لخص تجربة عبدالناصر بقوله: «عمل حاجات معجزة.. وحاجات كتير خابت». 

هكذا نحن جميعًا فى حياتنا الخاصة والعامة على السواء، نأتى بما يمكننا اعتباره معجزات.. لكن هناك أشياء كثيرة تخيب وتتبدد وتتبخر، لكن يبدو أن هذا لم يكن متاحًا لعبدالناصر، فهو إما صاحب معجزات وكرامات، وإما صاحب هزائم وإخفاقات، لا يقبل فيه أحد منطقة وسطى بين الجنة والنار. 

الخطر الذى يواجهه عبدالناصر الآن على يد الأجيال الجديدة، أنه يدخل إليهم من خلال مصادر يعرفونها ويجيدون التعامل معها، ويأخذون منها وحدها معلوماتهم ومعارفهم وخبراتهم، لن يبحثوا عن عبدالناصر فى الكتب والمراجع والدراسات والشهادات والمذكرات، سيظل أمامهم الرئيس المهزوم اليائس المحبط الذى يستجدى العرب ويهاجمهم ويفضحهم خذلانهم له، رئيس فشل فى أن يحقق شيئًا، وفى آخر حياته جلس ليبكى على ما جرى لمصر بسببه ومن صنع يديه. 

هذه الصورة ظالمة لعبدالناصر تمامًا، فالرؤية الأخيرة التى صاغها للصراع مع إسرائيل، هى الصورة الصحيحة، وأعتقد أنها تحققت بعد ذلك على يد الرئيس السادات، فقد كان عبدالناصر يسعى إلى السلام، وعندما جاء السادات حققه. 

والآن وبعد كل ما جرى للقضية الفلسطينية وفيها بعد أحداث ٧ أكتوبر تأكد للجميع صحة موقف مصر منذ عصر عبدالناصر أو لنقل موقفه فى السنوات التى تلت النكسة، أدرك عبدالناصر متأخرًا أنه لا يحارب إسرائيل وحدها، فهمَ ما يمكن أن يقوم به العرب وما يمكنهم أن يحجموا عنه، فصاغ موقفه على هذا الأساس، وهو ما فعله السادات ومن خلفه حسنى مبارك، ويفعله الآن الرئيس السيسى، فليس معقولًا أن ندخل فى حرب عبثية بلا أهداف محددة، لمجرد أن هناك من يضغط لندخل هذه الحرب. 

ما يحدث للرئيس عبدالناصر الآن، وأقصد رسم صورته فى عقول وأذهان الأجيال الشابة أقرب إلى عملية اغتيال جديدة يتعرض لها الزعيم الخالد، وأعتقد أنها عملية اغتيال أخيرة، فإن لم نجتهد ونرسم حدود تجربته كاملة أمام الأجيال الجديدة، فإننا لن نجد له أثرًا بعد ذلك فى ذهنية ومخيلة ما سيأتى من أجيال. 

إننى لا أدافع عن جمال عبدالناصر، ولا أدينه بشىء، ولكننى أنظر إلى ذاكرة الأمة التى تعانى من كثير من الثقوب، ويجب ألا نتركها على حالها البائس هذا.

عبدالناصر جزء مهم من تاريخنا، تجربته لها خصوصيتها، ومن الظلم أن نحكم عليه من خلال ما جرى له بعد هزيمة ٦٧، وهو ما يعرفه فقط أبناء الأجيال الجديدة، لأن الوسائط التى يعتمدون عليها فى تشكيل صورهم وتكوين قناعاتهم لن تمدهم بصورة عبدالناصر الحقيقية. 

قد تكون هذه الوقفة مهمة، ليس لعبدالناصر وحده، ولكن للأجيال الجديدة التى تركناها تحصل على المعلومات والمعارف بطريقتها الخاصة، وهى طريقة لا تنتظم تحت منهج ولا يحكمها منطق، بل هى أقرب إلى العشوائية، وسيكون من الصعب أن نستأمنهم على المستقبل. 

لا يعنى ما أقوله أننى أريد فرض وصاية على الأجيال الجديدة، ولكن ما أعنيه هو أن نبذل ما نستطيعه من جهد لوضع كل الحقائق أمامهم ومن خلال وسائطهم التى هى فى النهاية سهلة ومريحة وجزئية وعشوائية ومتشظية، وهو ما يجعلهم يميلون إليها ويرتاحون للتعامل معها. 

فهل نفعل ذلك أم نترك عبدالناصر وغير عبدالناصر ضحايا لما تفعله التكنولوجيا فى عقول من نضع عليهم مسئولية بناء هذا الوطن واستمراره؟ 

كل ما أتمناه أن نتحرك الآن وقبل أن يفوت من بين أيدينا الأوان.