المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

عن الخطأ الذى ما كان للأثرى الكبير أن يقع فيه

زاهى حواس.. المُفترَى عليه والمُفترِى علينا

افتتاحية العدد السابع
افتتاحية العدد السابع عشر

أكد الدكتور حواس أن كل ما اكتشفه الأثريون المصريون لا يتجاوز 30 بالمائة من آثارنا وأننا حتى الآن لم نكتشف ما يخص ما يتعلق بفترتى سيدنا إبراهيم أو سيدنا موسى وما إذا كانا بالفعل وُجدا فى مصر أم لا

 نفيه قصة الخروج يعنى من ناحية أخرى نفيًا للتجلى فى سيناء وهو ما يصب فى روايات أخرى تقول إن التجلى جرى فى منطقة أخرى

 زاهى حواس تورط إعلاميًا فى تصريحاته وخرج عما اعتاده بسبب استفزازات إسرائيل له وهو ما كان يجب ألا يتورط فيه أو يلجأ إلى نفى ما سبق وتحدث عنه

اعتقد كثيرون أن الدكتور زاهى حواس خرج علينا بتصريحاته الصادمة- جزمه بأنه لا دليل على وجود بنى إسرائيل أو سيدنا إبراهيم أو سيدنا موسى فى مصر، وأن قصة خروج موسى مجرد تكهنات لا دليل واحد عليها- ليحصد مزيدًا من الأضواء، وهو الذى عاش طوال عمره فى دائرة اهتمام عالمية لم تتح إلا لنجوم مصريين يمكن أن نعدهم على اليد الواحدة. 

لكن ما جرى يقول إن القضية أكبر من هذا بكثير. 

فما قاله زاهى حواس لعدد من الزملاء فى برامج التوك شو، ونقلته المواقع الإلكترونية ليس جديدًا عليه. 

فهو ليس أول مرة يقول إن هناك فارقًا كبيرًا بين المنهج العلمى والمعتقد الدينى، وإنه رغم احترامه المعتقد الدينى، فإنه رجل علم، والعلم له قواعده الصارمة. 

الدكتور زاهى حواس

وهو ليس أول مرة يقول إنه لا يوجد أى دليل ملموس فى الآثار يدعم وجود بنى إسرائيل، أو وجود أنبياء الله إبراهيم وموسى فى مصر، ومثل هذه الأمور لا يمكن أن يعترف بها الأثريون إلا بوجود بردية أو نقش على جدران المعابد. 

وهو ليس أول مرة يذهب إلى أن ما يتردد عما نتعامل معه على أنه حقائق مؤكدة، ليس إلا تكهنات على مستوى الآثار. 

وحتى ما تدارك به الدكتور زاهى حواس إثر تصريحاته لم يكن جديدًا. 

فعبر حيلة علمية يمكننا أن نقدرها، أكد الدكتور حواس أن كل ما اكتشفه الأثريون المصريون لا يتجاوز ٣٠ بالمائة من آثارنا، وأننا حتى الآن لم نكتشف ما يخص ما يتعلق بفترتى سيدنا إبراهيم أو سيدنا موسى، وما إذا كانا بالفعل وُجدا فى مصر أم لا. 

لقطة من مسلسل الوصايا

وقد تسأل: لماذا خرج الدكتور زاهى بهذه التصريحات الآن بالتحديد؟

وهل لها علاقة بفيلم «الوصية.. قصة النبى موسى» الذى شاهده العالم على منصة نتفليكس؟ خاصة أن صناع الفيلم انحازوا إلى أن التجلى جرى على جبل يجاور أرض مدين التى كان يعيش فيه شعيب، فى إيحاء إلى أن التجلى لم يكن فى سيناء، رغم أنهم لم ينكروا وجود موسى فى مصر، بل وتبنوا الروايتين التوراتية والقرآنية عن قصة النبى موسى، ولا يمكننا أن نتوقف عند اختلافات قليلة، مثل أنهم تجاهلوا أن القرآن ينحاز إلى أن من ربّت موسى كانت زوجة فرعون، فجعلوها فى سرديتهم الوثائقية أخت فرعون وليست زوجته. 

الواقع يقول إن زاهى حواس كان يواجه هجومًا إسرائيليًا مكثفًا خلال الأيام الماضية كانت ذروته من منصة موقع «Hidabroot» الإسرائيلى المعنى بشئون الثقافة والتاريخ. 

الموقع نشر تقريرًا حادًا ضد حواس منذ أيام، حيث أخذ عليه أنه ينكر كل ما هو مذكور عن مصر فى العهد القديم، ويعتبره غير صحيح، متجاهلًا أن التوراة مقدسة أيضًا عند المسلمين. 

زاهى حواس 

وحتى لا يكون هجوم الموقع الإسرائيلى عشوائيًا على زاهى، فقد ذهبوا إلى التأكيد أن هناك العديد من قطع البردى المعروفة التى قد تكون لها صلة بأوصاف إسرائيل فى مصر، أو الضربات العشر التى حدثت خلال فترة وجود نبى الله موسى فى مصر، قبل هروبه مع بنى إسرائيل من بطش فرعون. 

قلت لكم منذ قليل إن ما يقوله حواس الآن عن الـ٣٠ بالمائة التى نعرفها فقط من تاريخنا، حاول الموقع الإسرائيلى أن يضربه بها من ناصيتن. 

الناحية الأولى: أن ما يقوله حواس يُدينه، فكونه يعترف بأن ما نعرفه من تاريخنا المصرى لا يتجاوز الـ٣٠ بالمائة، فليس له علميًا أن يتحدث بالجزم عن الـ٧٠ بالمائة المتبقية، فقد يكون فيها ما ينفى كلامه عن إبراهيم وموسى وبنى إسرائيل فى مصر. 

الناحية الثانية: وأعتقد أن الموقع الإسرائيلى أراد بها توريط زاهى حواس، فهو يشير إلى أن كلامه هذا كان قد صرح به الأثرى المصرى لصحيفة «هآرتس» الإسرائيلية فى ٢٥ ديسمبر ٢٠٠٨، فى إشارة إلى أن زاهى كان يتحدث مع صحف إسرائيلية ويدلى لها بتصريحات، وهو ما يمكن أن يأخذه كثيرون عليه، فكيف له أن يتعامل مع صحف إسرائيلية ويجرى معها حوارات؟

ولا يمكننى أن أدفع بحسن نية الموقع الإسرائيلى، فلا شىء يرتبط بإسرائيل يمكن أن يكون حسن النية أبدًا.

لوحات الخروج

الهجوم الإسرائيلى على حواس الذى وصفوه بأنه كاره لإسرائيل، فتح جبهة جديدة على الأثرى المصرى الكبير، فكاتب التقرير يقول إن المشكلة ليست فيما هو مدفون تحت الرمال، ولكن فيما تحت يد حواس والأثريين المصريين من وثائق يحتاجها الباحثون الإسرائيليون المعاصرون للتحقيق فيها، فهم فى حاجة إليها للمقارنة بينها وبين ما هو موجود فى الكتاب المقدس، لكن المصريون يرفضون بشدة، ولا يسمحون لأى باحث إسرائيلى بالوصول إلى تلك البرديات خشية أن تؤدى أبحاثهم إلى تقوية الصهيونية. 

الموقع الإسرائيلى يفجر مفاجأة أعتقد أننا سنتوقف عندها كثيرًا. 

فقد استعان بما قاله البروفيسور الإسرائيلى «مانفريد بيتاك»، وقال إنه قام بالبحث فى مدينة «أفاريس» عاصمة الهكسوس منذ القرن الثامن عشر قبل الميلاد لسنوات عديدة، لكنه قال إنه من الصعب للغاية الحصول على مزيد من المعلومات بسبب أن المصريين يقيدون أعمال التنقيب بشدة من جانب أى بعثة آثار إسرائيلية. 

والسؤال الذى لا بد أنه تبادر إلى ذهنك كما تبادر إلى ذهنى تمامًا هو: إذا كان «مانفريد» يدّعى أن المصريين يقيدون أعمال التنقيب بشدة من جانب أى بعثة آثار إسرائيلية، فكيف عرف البروفيسور الإسرائيلى ما جرى فى مدينة «أفاريس»؟ 

فالتقرير ينسب إليه أنه وجد مقابر جماعية مثل تلك التى يتم إنشاؤها بعد الأوبئة، حيث يتم دفن عدد كبير من الذكور فقط، وتخمينه أن هذه يمكن أن تكون مقابر جماعية نتيجة لطاعون، ومن الواضح أنها صنعت على عَجَل وتحت ضغط شديد، ووضعت بها الجثث فى حالة من الفوضى، وبسبب عدم التحنيط والظروف المناسبة لم يتمكن من اختبار فرضياته. 

فهل هناك بعثات تنقيب إسرائيلية عملت فى مصر فى فترة ما؟ فـ«مانفريد» حاول الإيحاء بذلك، عندما قال إن المصريين يقيدون أعمال التنقيب من جانب أى بعثة آثار إسرائيلية، بما يعنى أن هناك بعثات إسرائيلية، لكنها ليست مطلقة السراح، وأعتقد أن هذا تدليس كامل. 

فى العام ٢٠١٧ تفجر جدل بسبب تصريح للمؤرخ بسام الشماع، عندما قال «إن ٧٠ بالمائة من علماء بعثات التنقيب عن الآثار فى مصر يهود». 

وقتها خرجت تصريحات رسمية من وزارة الآثار على لسان الدكتور عبدالرحيم ريحان، مدير عام البحوث والدراسات الأثرية والنشر العلمى بالوزارة، قال فيها إنه لا يوجد عالم آثار يهودى واحد فى مصر، وإن الوزارة تراعى جيدًا التأكد من خلفية وثقافة وعلم كل شخص يدخل ضمن البعثات الأجنبية للتنقيب عن الآثار فى مصر، وإن هناك موافقات واشتراطات أمنية إضافية لرقابة الوزارة، ولا يمكن الموافقة لعالم على المشاركة فى حملات التنقيب دون الحصول على تلك الموافقات. 

هذا التصريح أصبح فى حاجة لمراجعة، خاصة مع إعلان الموقع الإسرائيلى الذى هاجم حواس بأن «مانفريد بيتاك» عالم آثار إسرائيلى، لأن العاملين فى الآثار بمصر يعرفون أنه عالم آثار نمساوى، وعمل بالفعل فى مصر لعدة سنوات رأس خلالها بعثة نمساوية للتنقيب. 

بسام الشماع

ورغم أن هناك مفاجأة تصل إلى درجة الصدمة لدى كثيرين من العاملين فى الآثار بعد كشف هوية «مانفريد»، فإنه جرى التشكيك فى هوية «بيتاك»، ففى العام ٢٠١٤ اتهم الباحث الأثرى أمير جمال البعثة النمساوية الأثرية برئاسة «مانفريد بيتاك» بالعمل لصالح إسرائيل، بل واتهم وزيرى الآثار السابقين زاهى حواس ومحمد إبراهيم بالمساهمة فى إخفاء هوية بيتاك، لكنّ أحدًا لم يلتفت لذلك. 

يعرف زاهى حواس «مانفريد» جيدًا إذن، ولا بد أنه يشعر بالصدمة الآن، لأن الهجوم الذى شنه الموقع الإسرائيلى عليه يستند إلى ما قاله عالم الآثار الذى عمل فى مصر لسنوات تحت هوية نمساوية. 

فهل هناك ما لا نعرفه بينهما جعل «مانفريد» يعود ليصفى حساباته مع حواس؟ 

الله أعلم بالطبع.. والدكتور زاهى .. وبيتاك أيضًا. 

فى هذه المعركة يبدو لى الدكتور زاهى حواس كضحية، لكنه فى نفس الوقت يظهر لى كجانٍ أيضًا. 

فهو ضحية لأنه كان هدفًا لحملة منظمة من الإعلام الإسرائيلى، حاولوا النيل منه، وإن كنت أعتقد أن اتهامه بأنه كاره لإسرائيل ومُعادٍ للسامية أمر لا يجب أن يزعجه خاصة فى هذه الأيام التى تقف فيها شعوب العالم ضد إسرائيل، فالكيان الصهيونى يعانى عملية تعرية كاملة أمام شعوب العالم، صورته التى حاول أن يرسمها تصدعت تمامًا، وهو ما يجعل حواس بطلًا قوميًا، وكان يجب ألا ينزعج مما يقال عنه، لأن الهجوم فى هذه الحالة لن يكون مؤثرًا بالمرة. 

لكن الدكتور زاهى انزعج وبشدة، وهو ما دفعه لأن يتحدث عبر أكثر من برنامج تليفزيونى، وكاد يصرخ مما يقوله الإسرائيليون عنه، بل ويطلب الدعم فى مواجهة هذه الحملة التى تنتقص منه ومن قدره العلمى. 

فى دفاعه عن نفسه كان الدكتور زاهى من زاوية ما جانيًا، فقد تعامل بعصبية شديدة مع ما يتعرض له، وأعتقد أن نفيه التام قصة الخروج، وتأكيده أنه لم يكن هناك أى وجود للنبى إبراهيم وللنبى موسى فى مصر كان انعكاسًا لما يريده الإسرائيليون من تأكيد قصة الخروج ووجود موسى فى مصر ونسج قصته كما جاءت فى التوراة كتابهم المقدس. 

فالدكتور زاهى حواس يعرف من خلال تجربته الميدانية فى الآثار أن إسرائيل تسعى منذ عقود إلى إثبات أن نبى الله موسى ولد فى قرية «قنتير» مركز فاقوس بمحافظة الشرقية، وأن السياح اليهود يزورونها بصفة دائمة، ويعملون جادين على إقامة مولد للنبى موسى، ويترددون على أثر فى القرية يطلقون عليه اسم « أبوشافع» وهو عبارة عن يد ورجل من أيام الفراعنة. 

ويعرف حواس أيضًا أن إسرائيل تسعى إلى إثبات أن قرية « قنتير» بنيت على أنقاض عاصمة الملك رمسيس الثانى الذى شرّد اليهود من مصر، وتحاول إثبات أنها مدينة الخروج، وأنها لا تفعل ذلك إلا من أجل هوى لديها، فهى تريد التأكيد للعالم أن اليهود تعرضوا للاضطهاد فى مصر، وأنهم أُجبروا على الخروج، وهو ما حاول الفيلم الوثائقى الذى عرضته نتفليكس «الوصية.. قصة النبى موسى» تأكيده، فعبر أبطاله يأتى التأكيد على أنهم استُعبدوا فى مصر لما يقرب من ٤٠٠ عام. 

ما تسعى إسرائيل إلى تأكيده يخدم هدفها السياسى. 

فبعد أن تؤكد ذلك، ستسعى إلى المطالبة بثمن مقابل هذا الاضطهاد، ما يجعل المقابلة التى عقدها أحد المتحدثين فى مسلسل «موسى» الوثائقى، وهو عالم إسرائيلى، بين رمسيس الثانى وهتلر، منطقية بالنسبة لهم، فهم يريدون المقاربة بين ما تعرض له بنو إسرائيل فى مصر على يد رمسيس الثانى، الذى يدعون أنه فرعون الخروج، وما جرى لليهود على يد هتلر. 

يحاول حواس هدم الرواية الإسرائيلية أو ما تحاول إسرائيل تأكيده، وتشفع بذلك إلى أنه رجل علم وليس رجل دين، وعليه فلا علاقة له بما روته الكتب المقدسة عن القصة كلها، فهو لا يهتم إلا بالبرديات أو النقوش، التى لم تثبت شيئًا من هذا. 

ضربة زاهى حواس كان لها أثرها فى مساحة تخصنا، فنفيه قصة الخروج يعنى من ناحية أخرى نفيًا للتجلى فى سيناء، وهو ما يصب فى روايات أخرى تقول إن التجلى جرى فى منطقة أخرى، وهذا ليس كلامًا عابرًا. 

العالم الاثرى الكبير زاهى حواس

ففى كتابه «أحسن القصص.. تاريح الإسلام كما ورد من المصدر مع ترتيب الصور حسب النزول» لابن قرناس، وهو كاتب سعودى مجهول الهوية إلى درجة ما، وصدر فى العام ٢٠١٠، محاولة للتأكيد على أن مكان التجلى لم يكن فى سيناء. 

يقول ابن قرناس فى كتابه: بعد أن خرج موسى عليه السلام من أرض مَدين، لم يتوجه إلى أرض مصر التى خرج منها، ويوضح الأمر على النحو التالى:

كان شيخ مَدين وأفراد عائلته بمن فيهم زوجة موسى عليه السلام مؤمنين بدين الله، وقد وصف القرآن موسى بأنه أوتى علمًا وحكمًا منذ كان شابًا، وقبل هروبه من مصر «ولما بلغ أشده آتيناه حكمًا وعلمًا وكذلك نجزى المحسنين»، والقرآن عندما يصف أحدًا بأنه أوتى حكمًا وعلمًا، فهو يشير إلى أنه أصبح على علاقة بالسماء، وبذلك يكون موسى عليه السلام عندما تزوج كان مؤمنًا بالله، وكان على دين جده إبراهيم، وكانت زوجته وأهلها يدينون بنفس الدين، ما يشير إلى أن موسى وأهله غادروا مقر إقامتهم، الواقع فى أعالى جبال السروات، متجهين إلى مكة لزيارة البيت بعد المحن التى مرت به، ومن يريد الذهاب إلى مكة من هناك، فإن أسهل طريق هو طريق قوافل اللبان القادمة من سبأ باليمن والمتجهة إلى الشام، وهو طريق يعبر السفوح الشرقية لجبال السروات، إلى أن يجتاز سوق عكاظ، ثم قرية السوء «السبيل الكبير» نزولًا إلى الشمال من مكة، ثم شرقًا من مقر إقامة شيخ مَدين الصيفى فى أعالى السروات، إلى أن تعترضه جادة القوافل، ليتجه معها إلى اليسار ميممًا وجهه نحو مكة.

انتهى موسى عليه السلام من طقوس زيارة البيت الحرام، وقرر الخروج من مكة والمبيت خارجها، ولكى يعود موسى وأهله من مكة إلى المسجد الأقصى، حيث أهل زوجته، كان عليه أن يسلك نفس طريق قوافل اللبان، الذى قدم منه، ولا بد أن موسى قرر المسير حتى يقترب من طريق القوافل والمبيت هناك، لكى يتسنى له الانضمام لقافلة عابرة، لأن السفر وحيدًا مع زوجته ليس بالأمر المحمود ولا المأمون.

ويسأل ابن قرناس: إذا كان موسى ينوى الرجوع مع طريق القوافل، فلماذا خرج من مكة عن طريق عقبة كدى باتجاه الشمال الغربى، الذى يوصله للطريق المتجه للمدينة أو جدة، بدل أن يخرج من مكة باتجاه الشمال مع نفس الوادى الذى يقع فيه البيت، إلى أن يصل إلى طريق القوافل، وهناك يمكنه المبيت بانتظار سيارة عابرة؟.

وهنا تجيب آيات القرآن الكريم فى سورة طه: «وهل آتاك حديث موسى، إذ رأى نارًا فقال لأهله امكثوا إنى آنست نارًا، لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى»، فهو قصد النار لواحد من أمرين: إما أن يأتى منها بقبس يستطيع بواسطته إشعال النار له ولزوجته، ليتسامرا عليها قبل النوم، كعادة أهل البادية إلى اليوم، والأمر الثانى وهو المهم «أو أجد على النار هدى».

فما الذى جعل موسى عليه السلام بحاجة للتأكد منه والسؤال عنه أكثر من أن يستدل على الطريق الصحيح المؤدى لطريق القوافل المتجه إلى الجنوب؟

والإجابة: كان قرار موسى عليه السلام الخروج من مكة فى المساء، والسير إلى أن يقترب من طريق القوافل صائبًا، لكنه خرج من مكة مع الطريق الخطأ، وقد كانت إرادة الله وراء ذلك، وفى واد يسمى طُوى يقع إلى الغرب من الحرم، وبالقرب من بئر عند تقاطع طرق يردها المسافرون، وتحمل نفس الاسم إلى الآن، قرر موسى عليه السلام قضاء الليل، وما إن استقر به المقام، حتى رأى نارًا من بعيد، فذهب إليها ليأتى منها بقبس أو جذوة يشعل منها النار له ولزوجته، ليصطليا من برودة الليل، ويتسامرا على ضوئها، وفى نفس الوقت سيسأل من يجد حول النار أن يدلوه على الاتجاه الصحيح المؤدى للطريق.

جبل موسى

كانت المفاجأة أن موسى عليه السلام وجد شيئًا لم يتوقعه: «فلما آتاها نودى يا موسى، إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى، وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى»، وطلب منه أن يخلع نعليه لأن البقعة التى يسير فيها أصبحت مقدسة بهذا التكليم.

تقع هذه البقعة المباركة على الشاطئ الأيمن من الوادى، بالقرب من شجرة وحيدة هناك: «فلما آتاها نودى من شاطئ الوادى الأيمن فى البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إنى أنا الله رب العالمين»، والجانب الأيمن من الوادى بالنسبة للقادم من مكة مثل موسى: «واذكر فى الكتاب موسى إنه كان مخلصًا وكان رسولًا نبيًا، وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيًا، ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيًا».

والطور هنا يعنى الجبل المنتصب، وكل من يقف تحته فهو طور بالنسبة له، ولو كان ارتفاعه لا يزيد على بضع مئات من الأمتار، وموسى نودى من الجانب الأيمن للوادى، الذى يمر تحت سفح الطور «الجبل» الأيمن بالنسبة لاتجاه سيره هو.

ويذهب ابن قرناس إلى أن تضاريس مكة تغيرت ولم تعد الصورة التى كانت عليها، مع التسابق المحموم وراء إقامة البنايات الشاهقة سعيًا وراء الكسب المادى دون الالتفات لأى قيم أثرية أو دينية، بعد أن استطاعوا ترويض رجال الدين لمصالحهم، وكل ما بقى من هذه الأماكن المقدسة بئر طوى خلف باب مغلق كُتب عليه: «الماء غير صالح للشرب»، وتقع فى حى جرول، مقابل مستشفى النساء والولادة والأطفال، قرب التقاء شارع عمر بن عبدالعزبز بشاعر حسان بن ثابت.

إذا وقفت أمام هذا الباب المغلق المكتوب عليه بئر طوى- كما يقول ابن قرناس- واتجهت إلى الشمال بانحراف ناحية الشرق، فإنك ستكون فى البقعة المباركة التى تم فيها تكليم موسى، وهى على بعد لا يزيد على بضع مئات من الأمتار، ومكانها الآن إحدى العمارات الشاهقة التى قضت على معالم مكة وتضاريسها. 

دير سانت كاترين

دون أن يقصد زاهى حواس فى الغالب، يصب ما يقوله فى مصلحة روايات أخرى لا يقدم أصحابها عليها دليلًا، وأعتقد أنه حاول أن يترك الباب مفتوحًا عندما قال إن هناك ٧٠ بالمائة من التاريخ لا يزال تحت الرمال، فى محاولة منه لتمكين الرواية الدينية لتواصل تأثيرها، وهو تأثير أعتقد أننا لا يمكننا أن نمحوه تمامًا، لأن العلم لم يصل بعد إلى حقيقة ما تقوله. 

إننى أنحاز بالطبع إلى أن القرآن ليس كتاب تاريخ، ولا يمكن أن نعتمد عليه فى التأريخ لأحداث وقعت على الأرض، لكن ليس معنى هذا أنه يتحدث فى فراغ، أو أن ما قاله لم يكن له ظلًا تاريخيًا، فأنا أميل إلى أن قصص القرآن جاءت للعظة والعبرة، ولذلك لم يهتم لا بالتواريخ ولا التحديد الصارم للأماكن، ولكن ليس معنى هذا أنها خيال مطلق، وهو الأساس الذى يتعامل به اليهود مع كتابهم المقدس. 

الدكتور زاهى حواس مع أحد المومياوات

لقد منح العلم لزاهى حواس جرأة جعلته يتحدث بالنفى التام لقصة الخروج، لكنه كان يجب أن يعرف أنه يتحدث عما يعرف، والعلم نفسه يفرض عليه أن يتواضع فيما لا يعرف، ويمكن أن تكون هناك فرصة لآخرين أن يصلوا إلى ما لم يصل إليه. 

ولأننا نتحدث عن العلم، فإننى أعود إلى ما سبق وقاله زاهى حواس نفسه هنا فى «حرف». 

فقد نشرنا له مقالًا، قال فيه: «بالنسبة لهوليوود وكل صناع الفن الأجانب، ليس هناك من هو فى شهرة رمسيس الثانى لكى يمثلوا شخصيته باعتباره فرعون الخروج، لذا فإن الزج باسمه فى مسألة الخروج نتيجة لشهرته ولمعرفة اسمه بين الناس فى العالم كله، وهذه قاعدة عامة سار عليها مسلسل النبى موسى، على الرغم من أنه لا يوجد أى أدلة أثرية أو تاريخية تشير إلى أن رمسيس الثانى هو فرعون الخروج، بل إن المصادر المصرية القديمة تتجاهل الحدث بأكمله، فلا يعرف اسم الفرعون ولا الزمان». 

مشروع التجلى الاعظم

ويستدرك حواس قائلًا: «ولكن المكان هو مصر، واسم موسى اسم مصرى قديم أطلقته عليه زوجة فرعون عندما عثرت عليه فى النيل وأخذته لتربيه، وأطلقت عليه اسمه بمعنى (الوليد)، وهناك من الباحثين من يرى أن الاسم يعنى (ابن الماء) نظرًا لأن كلمة (مو) تعنى مياه، و(سا) تعنى ابن، إلا أن الترجمة الأقرب إلى الصواب هى (الوليد) أو (وليد)، وهو اسم منتشر أيضًا فى كل اللغات المنتمية إلى السامية، والأهم أن فرعون هو لقب التصق بملوك مصر منذ الدولة الحديثة، ولا يمكن أن يكون اسمًا لفرعون موسى».

يقر زاهى حواس بقصة الخروج من مصر، يظهر لنا ذلك من قوله: «هناك من يقول إن فرعون الخروج هو الملكة حتشبسوت، وأنا شخصيًا لا أميل لهذا الرأى لعدة أسباب، منها إجماع الكتب السماوية على أن فرعون الخروج كان ذكرًا، وكان محاربًا، خرج وراء قوم موسى بعربته الحربية وجيشه، وبالتالى فمن المستبعد أن تكون الملكة حتشبسوت هى فرعون الخروج، خاصة بعد أن كشف عن موميائها واتضح لنا تقدمها فى السن ومعاناتها من أمراض السكر والسمنة، ويرى فريق آخر أن الملك سيتى الثانى هو فرعون الخروج، إضافة إلى ملوك مثل مرنبتاح، ابن الملك رمسيس الثانى، وقيل أيضًا إن فرعون الاضطهاد الذى تربى موسى فى قصره يختلف عن الفرعون الذى خرج وراء موسى وقومه مطاردًا، فلا يزال العلماء يتباحثون فيما بينهم ما إذا كان هذا الفرعون شخصية واحدة أم شخصيتين؟ أحدهما تربى موسى فى قصره ووسط أبنائه، والآخر ناصب موسى العداء بعدما أبلغه الأخير برسالة ربه إليه وحارب بنى إسرائيل؛ حتى كان الخروج من مصر. وفى ظنى أن فرعون موسى هو فرعون واحد، ولعل فى قوله تعالى «قال ألم نربك فينا وليدًا ولبثت فينا من عمرك سنين»، ما قد يشير إلى كونه فرعونًا واحدًا هو الذى شهد قصة موسى وبنى إسرائيل كلها حتى الخروج». 

صعود جبل موسى

هنا زاهى حواس، الذى قال إن هناك فارقًا بين المعتقد الدينى والحقيقة التاريخية، يستشهد بالآيات القرآنية ويأخذ منها مرجعًا لما يقوله، ما يؤكد ما قلته إنه تورط إعلاميًا فى تصريحاته، وخرج عما اعتاده بسبب استفزازات إسرائيل له، وهو ما كان يجب ألا يتورط فيه، أو يلجأ إلى نفى ما سبق وتحدث عنه. 

لن أغادر مقال زاهى إلا بعد أن نستمع إلى تأكيده على ما ينفيه الآن، يقول: «نحن إذًا نتحدث عن فرعون عاش وحكم لفترة كبيرة، ومثل هؤلاء فى التاريخ الفرعونى القديم قليلون، مثل الملك بيبى الثانى الذى عاش أكثر من ثمانين عامًا، ولا يمكن أن تكون قصة موسى قد حدثت فى الدولة القديمة، حيث يتفق علماء المصريات والتاريخ على أن موسى وبنى إسرائيل عاصروا الدولة الحديثة بعد تاريخ ١٥٥٠ ق.م، خاصة بعد أن أجمع هؤلاء العلماء على أن العبرانيين جاءوا إلى مصر مع الهكسوس بعد الدولة الوسطى، وعاشوا خلال ما نطلق عليه عصر الاضطراب الثانى، وبالتالى لا بد أن يكون فرعون الخروج أحد ملوك الدولة الحديثة، والملك الوحيد الذى عاش عمرًا مديدًا وحكم حوالى ٦٦ عامًا هو الملك رمسيس الثانى، الذى يميل إلى اعتباره فرعون الخروج معظم الباحثين، بل اليهود أنفسهم وصانعو أفلام هوليوود. 

لقد كان زاهى فى مقاله علميًا وواضحًا عندما ختم كلامه بقوله: «إننى دائمًا ما أقول إننا عثرنا فقط على ٣٠٪ من آثارنا، ولا تزال هناك أسفل رمال الصحراء وطمى الدلتا ومياه الأحمر والمتوسط أسرار لم تكتشف بعد، وقد تكشف لنا الرمال يومًا عن أسرار فرعون الخروج». 

هنا زاهى حواس يرد على زاهى حواس، وأعتقد أن عالمنا الكبير الذى نقدره ونجله ونحترمه يجب أن يضبط انفعالاته كثيرًا، فهجوم إسرائيل عليه شرف يجب أن يعتز به، ولا يخرجه عن وقاره العلمى، فيتورط فيما لا ينبغى ويورطنا معه.