المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

محمد عبده ملهم المجددين.. قراءة فى كتاب مجهول لتشارلز آدمس

الإمام محمد عبده
الإمام محمد عبده

عندما كنت أقلب فى أرشيف التجديد والمجددين، عثرت على كتاب «الإسلام والتجديد فى مصر» الذى صدر عن لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية فى العام 1935. 

الكتاب ألفه الدكتور تشارلز آدمس، وترجمه عباس محمود، وقدم له شيخ الأزهر مصطفى عبدالرازق. 

أهمية الكتاب تتبدى لنا من المقدمة التى كتبها مؤلفه، حيث يصفه بأنه القسم الأول من رسالة قدمها فى أغسطس 1928 إلى قسم الدراسات الخاصة بالعهد القديم فى جامعة شيكاغو بالولايات المتحدة، للحصول على درجة الدكتوراه فى الفلسفة، وقد كتب له الظهور بفضل مدرسة الدراسات الشرقية بالجامعة الأمريكية بمصر التى اتصل بها بضع سنين، حيث قررت أن يكون حلقة من سلسلة الأبحاث الشرقية التى تصدرها. 

التجديد الإسلامى تحت زعامة الشيخ محمد عبده سعى إلى تحرير الدين من أغلال الجمود

القسم الثانى من الرسالة كان ترجمة إنجليزية لكتاب عن الخلافة، ألفه على عبدالرازق أحد الكتّاب المحدثين فى مصر، الآخذين من حرية الفكر بحظ أوفر من غيرهم، كما وصفه مؤلف الكتاب، ويقصد كتابه «الإسلام وأصول الحكم». 

لكن هذا القسم لم يقدر له أن ينشر ضمن فصول كتاب «الإسلام والتجديد فى مصر»، كما يقول المؤلف لأسباب عديدة، فقد أخرج على عبدالرازق كتابه «الإسلام وأصول الحكم» فى العام 1925، وهو بحث فى الخلافة والحكومة فى الإسلام، فأثار معارضة شديدة عند ظهوره، وذلك لما تضمنه من الأفكار الحرة، وربما يكون السبب الأقرب إلى المنطق أن الكتاب منشور بالعربية، فلا داعى لإعادة نشره مترجمًا. 

يركن المؤلف قليلًا إلى كتاب على عبدالرازق، ويتساءل: إلى أى أصل ترجع هذه الآراء الخارجة على القديم؟ وهل تمت بصلة ما إلى حركة الإصلاح الحديثة التى أنشأها الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية المتوفى عام 1905؟ أم هى أكثر اتصالًا بما ألفه العلماء الأوروبيون؟ 

كان سؤال «تشارلز آدمس» سببًا فى أن يبدأ كتابه ببحث يحاول فيه بيان نشأة حركة الإصلاح الحديثة فى مصر وتطورها، ويقدر مدى تأثيرها، ويميط اللثام عن الصلات التى قد تكون بين آراء الشيخ محمد عبده وبين آراء على عبدالرازق وآراء أقرانه من الكتاب المحدثين فى مصر. 

يمنحنى هذا الكتاب الذى يكاد يكون مجهولًا تمامًا فى مصر بداية الخيط إلى الطريق الذى سنسلكه معًا، وهو البحث عن أصحاب العمائم الثائرة، وكيف كانوا بداية الخيط لكل تجديد جرى فى مصر بعد ذلك. 

 القرآن يدعو إلى إطلاق العقل ليجرى شوطه الذى قدر له فى طريق الوصول إلى ما كانت عليه الأكوان

يشير الكتاب إلى أن هناك مدرسة حديثة للإصلاح فى مصر، هى المدرسة التى أسسها محمد عبده، ويهمنى منها أنها أثرت فى أجيال عديدة من بعده، وهؤلاء ليسوا من رجال المؤسسات الدينية الرسمية، ولكن من الكتاب والأدباء والروائيين والفلاسفة، لكن قبل أن نقرأ ما رصده «تشارلز آدمس» من أثر لمحمد عبده فيهم، قد يكون من المهم أن نتعرف على ملامح هذه المدرسة وإسهامات محمد عبده فيها، وهو ما يمدنا به هذا الكتاب المجهول بأكثر مما نتصور.

يذهب «تشارلز آدمس» إلى أن التجديد الإسلامى فى مصر اتخذ خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر تحت زعامة الشيخ محمد عبده صورة حركة معينة تسعى إلى تحرير الدين من أغلال الجمود، وتتجه إلى استكمال إصلاحات توفق بينه وبين مطالب الحياة العصرية المعقدة. 

وهذه الحركة تختلف فى هذه الناحية عن حركة الإصلاح التى قام بها طائفة العقليين من مصلحى الهند الذين كان همهم الأول منصرفًا إلى الحركة الثقافية وإلى التوفيق بين الإسلام وبين مطالب المدنية الأوربية الحديثة، ومهما يكن من شىء، فقد توافقت الحركتان على أن الإسلام دين عام يناسب كل الناس ويلائم جميع العصور والثقافات. 

ويرصد «تشارلز آدمس» الدافع الأول إلى حركة الإصلاح المصرى، الذى لم ينشأ– فى رأيه– من مصر نفسها، بل كان صدى لتعاليم السيد جمال الدين الأفغانى الذى كان محمد عبده أحد شباب الطلاب المصريين الكثيرين الذين تأثروا تأثرًا عميقًا بآرائه، ولكنه كان أيضًا أكثرهم دلالة على القرابة الروحية والعقلية، لذلك المعلم الكبير، فقد خلد روح أستاذه ومثله الأعلى بمساهمته فى الحياة الساسية والاجتماعية والدينية فى بلده، وخلدها أكثر من هذا بإصلاحاته العملية القوية. 

يتعامل «تشارلز آدمس» مع محمد عبده على أنه كان بالنسبة لمصر والإسلام نبى عهد جديد، ولم يخطئ– بالنسبة له– المؤرخون الذين وصفوه بأنه أحد مبدعى مصر الحديثة، ولا يجاوز هو الحق عندما يراه أحد مؤسسى الإسلام الحديث، وذلك لأن جهوده فى التوفيق بين أصول الإسلام وبين الآراء العلمية الغربية كان لها خطرها فى العالم الإسلامى أجمع. 

يقترب مؤلف «الإسلام والتجديد فى مصر» من محمد عبده أكثر، فيضيف إلى ملامح صورته ملامح جديدة، ستفيدنا كثيرًا فيما نسعى إليه. 

إن الإسلام صرف القلوب عن التعلق بما كان عليه الآباء وما توارثه عنهم الأبناء وسجل الحمق والسفاهة على الآخذين بأقوال السابقين

لقد ظلت نزعة الإصلاح التى ترعرعت فى مصر على يد محمد عبده قائمة حتى الآن- الكلام عن العام ١٩٣٥ وأعتقد أنها لا تزال- وأصبحت بادية الأثر فى كثير من النواحى، فأيده كثير ممن كانوا يميلون إلى حركته الإصلاحية، وواصلوا الدفاع عن تعاليمه بعد موته. 

ويظهر أن أنصاره المجاهرين بالولاء له لم يكونوا من الكثرة أو من الشللية والانسجام، بحيث يستطيعون أن يكونوا مدرسة أو حزبًا إصلاحيًا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، ومع هذا فقد صادفت تعاليمه أذنًا واعية ولقيت عطفًا واسع المدى بين المستنيرين فى مصر وفى غيرها من البلاد الإسلامية، وقوى سلطانها فى كثير من البيئات وأصبحت ذات أثر فعال حتى فى الدوائر التى لم تكن موالية له. 

كانت آراء محمد عبده خصيبة تتوالد وتتكاثر، وكانت روحه قوية شديدة التأثير، وقد أخذت تنبعث فى مصر خلال الربع الأول من القرن العشرين، أو قبل هذا بقليل، يقظة صادقة تجلت فى صورة نهضة عقلية وأدبية، وفى حركات اصلاح اجتماعى وفى تطورات سياسية كشفت عن نمو روح الوطنية. 

ويختم «تشارلز آدمس» رأيه فى أثر محمد عبده بقوله: على أن آماله فى الإصلاح الشامل للدين لم تتحقق إلى المدى الذى كان يشتهيه ويتوقعه، وإن كانت بواعث الإصلاح ونزعات التحرير التى أطلقها من عقالها فعلت فعلها فى النواحى التى كان يرمى إليها، وما زالت تستكمل الكثير مما يمكن أن يعد جزءًا من مراميه. 

لكن كيف أصبح محمد عبده هذا المصلح العظيم والمجدد الذى سرق النار من الجميع، بحيث لم يصبح رائد التجديد الأول، بل أصبح هو الأب الروحى له؟ 

الإجابة سنعتمد فيها على ما أورده «تشارلز آدمس» فى كتابه. 

استهل محمد عبده حياته بالتصوف الممزوج بالفلسفة والتوحيد واشتغل كذلك بالمسائل التى طالما شغلت بال الحكماء

فقد استهل محمد عبده حياته بالتصوف الممزوج بالفلسفة والتوحيد، واشتغل كذلك بالمسائل التى طالما شغلت بال الحكماء، وإن كان أكثرهم منهم عناية وعلمًا بمسائل العلم الحديث، ولو أنه واصل هذه الحياة دون أن يزعجه شىء، لاستطاع أن ينشئ مدرسة فلسفية جديدة، ربما نجحت فى التوسط بين تفكير القرون الغابرة وبين التفكير الحديث، ولكن الحياة العامة جذبته، فألقى بنفسه فى أحضانها، واشتغل بكثير من الأعمال، فقل فراغه للدرس والتحصيل. 

ويبدو من سيرة حياته أن مؤلفاته وتعاليمه سارت جنبًا إلى جنب مع جهوده العامة، وأثر كل منهما فى الآخر، أو على وجه أصح تأثر كل منهما بالغرض الأسمى الذى جعله نصب عينيه، وهو إصلاح الإسلام وإمداده بالقوة والحياة، وإعادة الشعوب الإسلامية إلى ما كانت عليه من عزة ومجد. 

لم تكن مشكلة الإصلاح كما تمثلت أمام محمد عبده أمرًا هينًا، وذلك لأن المسلمين كانوا فى تأخر شديد. 

فمن الناحية السياسية كان أكثرهم تحت سلطان دول تخالفهم فى الدين، ومن نجا منهم فى الخضوع للحكم الأجنبى المباشر، لم يكن ينجو من النفوذ الأجنبى، فلم يكن بد إذن من بعض روح هذه الأمم المتأخرة، وإحلال التآلف بينها، ونظمها فى وحدة واحدة، حتى تشعر بما يجمعها من الأخوة فى الدين والاشتراك فيما خلفه من تراث. 

ومن ناحية ثانية كانت حياة المسلمين الاجتماعية والخلقية والفكرية فى حال تثير الأسى، وتبعث فى النفس الألم، كان فيهم كثير من العيوب والعلل، وقد أصبحوا عبيدًا للكثير من العادات المشينة التى لا تمت إلى الإسلام بصلة ما، وإنما هى وليدة الجهل بالإسلام الصحيح، وعجز المسلمين على اتباع ما عرفوه من أحكامه. 

كان الشيخ محمد عبده يرى أن علاج هذه العلل الكثيرة هو الرجوع إلى الإسلام الصحيح. 

وكان السؤال الذى كان مهمًا أن يجيب عنه هو: وما هو الإسلام الصحيح؟ 

أدرك محمد عبده أن المسلمين انقسموا شيعًا، تزعم كل شيعة منها أنها وحدها على الحق، وأحس فوق هذا بأن الإسلام كما فقهه الفقهاء، قد أصبح من التشعب والاتساع بحيث يصعب على أى إنسان، وبخاصة إذا لم يكن له حظ من التعليم أن يعرف تمامًا ما هو الإسلام. 

وإذا كان الأمر كذلك، فقد أصبح الرجاء الوحيد فى إحياء الإسلام معقودًا باستعادة أصول هذا الدين، أى أصول العقائد التى بغيرها لا يكون المسلم مسلمًا، وهذا هو الإسلام الصحيح الذى يعترف به الجميع وتتفق كلمتهم عليه. 

وحتى يتحقق ذلك كان لا بد من إذكاء يقظة فكرية بنشر التعليم بين العامة، وبالاشتغال بالدراسة العلمية الحديثة لتستطيع الأمم الإسلامية مباراة غيرها من الأمم، وليس فى روح المدنية الحديثة، أو فى ثمرات العلم الحديث، ما يناقض الإسلام الصحيح إذا أحسن فهمه، وأحسن بيانه، وإن ضرورة تصوير الإسلام على صورة تتجانس مع العلم الحديث، تستلزم أيضًا استعادة ما فى الإسلام من أصول جوهرية وليس ما كان منه مقصورًا بطبيعته على زمن ما أو مكان ما. 

لا تعارض بين الدين والعلم لأن كلًا منهما يعتمد على العقل ويدرس إلى حد ما نفس الظواهر

كانت الحاجة ماسة على وجه خاص لإعادة النظر فى نظام الشريعة، وهى جزء مهم من الإسلام، حتى يثبت عمليًا أنها أداة صالحة للحكم فى الظروف الجديدة. 

وعلى هذا لم يكن الأمر مجرد تخفيف أو تسكين للمفاسد التى كانت فاشية، بإدخال إصلاحات ظاهرية كما يفعل بعض المصلحين، ولم يكن أيضًا مجرد صوغ للفلسفة والتوحيد فى صورة جديدة، على نحو ما فعلت المذاهب، إنما كان الأمر أعظم من هذا خطرًا، وأكثر صعوبة، فهو من ناحية إصلاح للدين ورجوع به إلى بساطته الأولى وتأثيره الفعال، وهو من ناحية أخرى حمل جماهير الناس على قبول الدين الخاص، واتباع أحكامه فى حماس وإخلاص.

كان الأمر إذن إحياء الإسلام فى قوة جديدة، حتى يمكن بذلك أن ينجو المسلمون من حالتهم السيئة، وأن يعود إليهم مجدهم الغابر. 

ولكن بأى الوسائل يمكن تحقيق هذا الإصلاح؟

- طبقًا لما كا يراه محمد عبده فإن الإصلاح لا يمكن له أن يتحقق إلا بالوسيلة الوحيدة التى يرجى نجاحها، وهى إحياء العاطفة الدينية فى كل قطر إسلامى. 

استعرض محمد عبده أمامه جهود المستنيرين فى إيران والهند وبلاد العرب ومصر، وخلص إلى أنه يمكن أن يقال أن الغرض الذى يرمى إليه جميعهم، إنما هو تصحيح الاعتقاد وإزالة ما طرأ عليه من الخطأ فى فهم نصوص الدين، حتى إذا سلمت العقائد من البدع، تبعها سلامة الأعمال من الخلل والاضطراب، واستقامت أحوال الأفراد، واستضاءت بصائرهم بالعلوم الحقيقية دينية ودنيوية، وتهذبت أخلاقهم بالملكات السليمة، وسرى الصلاح منهم إلى الأمة. 

ويضيف إلى خلاصته قوله: فإذا سمعت داعيًا يدعو إلى العلم بالدين، فهذا مقصده، أو مناديًا يحث على التربية الدينية، فهذا غرضه، أو صائحًا ينكر ما عليه المسلمون من المفاسد، فتلك غايته، وهذه سبيل لمريد الإصلاح فى المسلمين لا مندوحة عنها، فإن إتيانهم من طرق الأدب والحكمة العارية عن صبغة الدين يحوجه إلى إنشاء بناء جديد، ليس عنده من مواده شىء، ولا يسهل عليه أن يجد من عماله أحدًا، وإذا كان الدين كافلًا بتهذيب الأخلاق وصلاح الأعمال، وحمل النفوس على طلب السعادة من أبوابها، ولأهله من الثقة به ما بيناه، وهو حاضر لديهم، والعناء فى إرجاعهم إليه أخف من إحداث ما لا إلمام لهم به، فلم العدول عنه إلى غيره؟ 

من بين الأسس المهمة التى استند عليها محمد عبده فى تأسيس مدرسته لإصلاح ما استقر بين يديه من إسلام، كان إعلاء قيمة وشأن العقل. 

فى كتابه « رسالة التوحيد»، يقول: الإسلام دين يعتمد على العقل قبل كل شىء، وقد رفع القرآن من شأن العقل ووضعه فى مكانه بحيث ينتهى إليه أمر السعادة، والتمييز بين الحق والباطل والضار والنافع». 

وفى كتابه «الإسلام والنصرانية» يشهد بأن الإسلام يقرر أن الإنسان قادر على الوصول إلى معرفة الله بالعقل، ولذلك فلم يكن غريبًا أن يستند فى دعوته للاعتقاد بوجود الله ووحدانيته إلى استنهاض العقل البشرى. 

يقول محمد عبده: توجيه العقل إلى النظر فى الكون، واستعمال القياس الصحيح، والرجوع إلى ما حواه الكون من النظام والترتيب وتعاقد الأسباب والمسببات، ليصل بذلك إلى أن للكون صانعًا واجب الوجود، عالمًا حكيمًا قادرًا على كل شىء، وأن ذلك الصانع واحد لوحدة النظام فى الأكوان، وأطلق للعقل البشرى أن يجرى فى سبيله الذى سنته له الفطرة، واستنهضه للنظر فى الخلق والتأمل فيما فى الكون من آيات تدل على قوة الله وحكمته، وأن يتدبر فيها ليصل إلى معرفة الله. 

يخطو محمد عبده خطوة أوسع، عندما يقدم العقل على النقل عند التعارض بينهما، ومع ما نجده فى قوله: اتفق أهل الملة إلا قليلًا ممن لا ينظر إليه، على أنه إذا تعارض العقل والنقل، أخذ بما دل عليه العقل، وبقى فى النقل طريقان، طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر لله، وطريق تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل. 

كان طبيعيًا أن يسلك محمد عبده بعد أن استقر على هذا الرأى- تقديم العقل على النقل- سبيلًا غير السبيل التى سلكها المسلمون منذ قرون عديدة، أى القول بالتقليد والأخذ برواية السلف فى قبول العقائد من غير مناقشة أو اعتراض. 

فعل محمد عبده هذا وهو يعترف بأنه كان طبيعيًا أن يأخذ عامة الناس بالتقليد، لأنهم لا يستطيعون فهم العقائد عن طريق العقل، وهو ما فعله العلماء أيضًا عندما سلكوا نفس السبيل فى أمور الدين وفى مسائل العلم. 

لم يستسلم محمد عبده إلى هذه الروح بل تمرد عليها، وبدأ يناهضها، ويقاومها مقاومة تامة، وربما يدلل لنا على سلوكه هذا بما قاله إن الإسلام جهر بان الإنسان لم يخلق ليقاد بالزمام، ولكنه فطر على أن يهتدى بالعلم والأعلام، أعلام الكون ودلائل الحوادث، وإنما المعلمون منبهون ومرشدون وإلى طريق البحث هادون. 

سرب محمد عبده رؤيته هذه وهو يفسر القرآن إلى الكريم. 

تعرفون الآية الكريمة «كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون». 

لكن هل تعرفون ماذا قال محمد عبده فى تفسيرها؟ 

يقول: وأين أهل التقليد من هدى القرآن؟ هو يذكر لنا الأحكام بأسلوب يعدنا للعقل، ويجعلنا من أهل البصيرة، وينهانا عن التقليد الأعمى، وهم يأمروننا بأن نخر على كلامهم وكلام أمثالهم صمًا وعميانًا، ومن حاول منا الاهتداء بالكتاب العزيز، وما بينه من السنة المتبعة أقاموا عليه النكير، ولعله لا يسلم من التبديع والتكفير، يزعمون أنهم بهذا يحافظون على الدين، وما أضاع الدين إلا هذا، فإن بقينا على هذه التقاليد، لا يبقى على هذا الدين أحد، فإننا نرى الناس يتسللون لواذًا، وإذا رجعنا إلى العقل الذى هدانا الله إليه فى هذه الآية وأمثالها، رجا لنا أن نحيى ديننا، فيكون دين العقل وهو مرجع الأمم أجمعين. 

ويدل محمد عبده من لم يفطن إلى مقصده على الطريق من زاوية أوضح، عندما يقول: الإسلام أطلق سلطان العقل من كل ما كان قيده، وخلصه من كل تقليد كان استعبده، ورده إلى مملكته يقضى فيها بحكمه وحكمته، مع الخضوع مع ذلك لله وحده والوقوف عند شريعته، ولا حد للعمل فى منطقة حدودها، ولا نهاية للنظر يمتد تحت بنودها. 

ويدخل محمد عبده المعركة من بابها الواضح الصريح، عندما يحمل على دعاة التقليد ورافعى رايته، يقول عنهم: إن قلوب الجمهور من الخاصة قد التاثت بمرض التقليد، فهم يعتقدون الأمر ثم يطلبون الدليل عليه ولا يريدونه إلا موافقًا لما يعتقدون، فإن جاءهم بما يخالف ما اعتقدوا نبذوه ولجوا فى مقاومته، وإن أدى إلى جحد العقل برمته، فأكثرهم يعتقد فيستدل، وقلما نجد من يستدل فيعتقد. 

وحتى يثبت محمد عبده أركان دعوته، نراه يستخدم فى سبيل ذلك كل آية من آى القرآن تؤيد حرية الفكر ولا يغفل عن انتهاز الفرصة للزراية يمن يقاومون ذلك. 

هل أدلكم على ما قاله فى تفسير الآية الكريمة «ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، صم بكم عمى فهم لا يعقلون»؟ 

يقول الإمام محمد عبده: الآية صريحة فى أن التقليد بغير عقل ولا هداية هو شأن الكافرين، وأن المرء لا يكون مؤمنًا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به، فمن ربى على التسليم بغير عقل، والعمل ولو صالحًا بغير فقه، فهو غير مؤمن، لأنه ليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان، بل القصد منه أن يرتقى عقله ونفسه بالعلم والعرفان، فيعمل الخير لأنه يفقه أنه الخير النافع المرضى به، ويترك الشر لأنه يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته، ويكون فوق هذا على بصيرة وعقل فى اعتقاده، فلا يأخذه بالتسليم لأجل آبائه وأجداده، ولذلك وصف الله الكافرين بعد تقرير المثل بقوله «صم» لا يسمعون الحق سماع تدبر وفهم، و«بكم» لا ينطقون به عن اعتقاد وعلم، و«عمى» لا ينظرون فى آيات الله، وفى أنفسهم فهم لا يعقلون. 

الفكرة التى أعتبرها الأهم فى مشروع محمد عبده الإصلاحى، هى الفكرة التى لخصها بمطالبته بـ«نصيب متساو من فضل الله لجميع القرون». 

تحتاج الفكرة إلى مزيد من التفسير... أعرف ذلك. 

كان محمد عبده يعرف أن الأصل الذى أقام عليه دعاة التقليد دعواهم واحترام السابقين فى الإسلام، وهم يزعمون أنهم وحدهم القادرون على تفسير الدين، ولهذا أنكروا على الأجيال اللاحقة حق الاجتهاد، أى البحث المستقل لتكوين رأى خاص فى أى أمر من أمور الدين. 

دعم محمد عبده حق الجيل الحاضر- وكل جيل حاضر- فى الاجتهاد. 

اسمعه وهو يقول: إن الإسلام صرف القلوب عن التعلق بما كان عليه الآباء وما توارثه عنهم الأبناء، وسجل الحمق والسفاهة على الآخذين بأقوال السابقين، ونبه على أن السبق فى الزمان ليس آية من آيات العرفان، ولا سيما لعقول على عقول، ولا لأذهان على أذهان، وإنما السابق واللاحق فى التمييز والفطرة سيان، بل للأحق من علم الأحوال الماضية واستعداده للنظر فيها والانتفاع بما وصل إليه من آثارها فى الكون ما لم يكن لمن تقدمه من أسلافه وأبنائه. 

ولأن الإمام محمد عبده كان متسقًا مع نفسه، فقد قال ما يمكننا اعتباره دليلًا على أنه لا يخدعنا ولا يخدع نفسه، فهو لا يمارس وصاية بما يقوله على الآخرين. 

كان محمد عبده يكتب رسالة إلى علماء تونس، وختمها بقول: أقول قولى هذا ولا أريد إلزام سامعه بقبول وإلا خالفت ما أدعو إليه من استقلال الفكر وحرية الرأى، على أنى لا أظن أن فى السامعين من يلتزم به لو طلبت إلزامه، ولكنه رأى أعرضه على مسامعهم فإن وجده السامع صوابًا، أخذ به، وإلا فإنه لم يخش شيئًا سوى احتماله مشقة الحر فى هذا المجلس، وهو قدر مشترك بينى وبينه. 

كان طبيعيًا ومحمد عبده يأخذ هذا الموقف من العلم أن يتطلع إلى العمل على نشر جميع العلوم بين المسلمين لأنه كان يقدر أن العقل إذا استخدم فى درس ظواهر الطبيعة، أفضى هذا من ناحية إلى معرفة الله وفى ذلك منافع دينية، ومن ناحية أخرى إلى كشف أسرار الطبيعة وما يستتبع هذا الكشف من المنافع العلمية الكثيرة. 

تحتشد أقوال محمد عبده فى شأن العلم. 

فهو يقول: إن رسالة النبى اشتملت على دعوة الناس إلى العلم بأن الله عرض عليهم جميع ما بين أيديهم من الأكوان، وسلطهم على فهمها، والانتفاع بها، بدون شرط ولا قيد إلا الاعتدال، والوقوف عند حدود الشريعة العادلة. 

ويقول: إن القرآن يذكر مثل هذا، فى أصل الكون والخلق، وهو إطلاق العقل ليجرى شوطه الذى قدر له فى طريق الوصول إلى ما كانت عليه الأكوان، والقرآن لا يقيد العقل، وهو فى كثير من آياته يدعو الإنسان إلى النظر فى آيات الكون، ولو أردت سرد جميعها، لأتيت بأكثر من نصفه. 

ويقول: لا تعارض بين الدين والعلم، لأن كلًا منهما يعتمد على العقل، ويدرس إلى حد ما نفس الظواهر، ولكن لكل منهما غاية خاصة يتجه إليها. 

ويقول: ولما كان القرآن قد حث على درس ما فى الكون الطبيعى من آثار، دون أن يجعل لهذا حدًا، فلا بد وأن يكون الدين صديقًا للعلم، من أجل هذا يقرر الشيخ محمد عبده أن الدين من موازين العقل البشرى التى وضعها الله لترد من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه، وأنه على هذا الوجه، يعد صديقًا للعلم، باعثًا على البحث فى أسرار الكون، داعيًا إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالبًا بالتعويل عليها فى آداب النفس وإصلاح العمل. 

ويقول: قد وعد الله بأن يتم نوره، ولن ينقضى العالم حتى يتم ذلك الوعد، ويأخذ الدين بيد العلم، ويتعاونان معًا على تقويم العقل والوجدان. 

وفى إحدى مقالاته بجريدة الأهرام يقول: إننا لا نجد سببًا لرقيهم- أمم الغرب- فى الثروة والقوة، إلا ارتقاء المعارف والعلوم فيما بينهم، فأول واجب علينا هو السعى بكل جهد واجتهاد فى نشر هذه العلوم فى أوطاننا. 

وتحت عنوان «الإسلام الصحيح» يبحث «تشارلز آدمس» عن ملامح تصور محمد عبده لما يرى أنه كذلك، فينقل عنه ما قاله فى إحدى مناظراته: عند النظر فى أى دين للحكم له أو عليه فى قضية من القضايا، يجب أن يؤخذ ممحصًا مما عرض عليه من بعض أهله، أو محدثاتهم التى ربما تكون جاءتهم من دين آخر، فإذا أريد أن يحتج بقول أو عمل لأتباع ذلك الدين فى بيان بعض أصوله، فليؤخذ فى ذلك بقول أو عمل أقرب الناس إلى منشأ الدين، ومن تلقوه على سذاجته التى ورد بها من صاحب الدين نفسه. 

وقد سلك الشيخ محمد عبده هذا المسلك فى كلامه عن النصرانية فى كتاب «الإسلام والنصرانية»، وأخذ به أيضًا عندما حدد أصول الإسلام التى يجب الرجوع إليها، وعندما دعا إلى الكثير مما يعد الآن من الإسلام، وهو فى الواقع دخيل عليه مناقض لروحه. 

وإذا رجعنا إلى المقاصد التى رمى إليها الشيخ محمد عبده نجده يقول: ارتفع صوتى بالدعوة إلى أمرين عظيمين، الأول تحرير الفكر من قيود التقليد، والثانى فهم الدين على طريق سلف الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع فى كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى. 

وهنا من المهم أن نتوقف عند ما قاله محمد عبده من أن الأركان الضرورية فى الإسلام هى العلم بما فى الكتاب وقليل من السنة فى العمل. 

والأهم بالطبع هو ما قاله فى تفسير مقصده. 

ما رأيكم أن تسمعوا ما قاله محمد عبده فى الآية الكريمة «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم، فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول». 

فسر محمد عبده هذه الآية تفسيرًا يتوافق مع العصر الحاضر. 

يقول: إطاعة الله هى الأخذ بكتابه كله، وفيه ما رأيت من النهى عن الاختلاف والتفرق فى الدين، وإطاعة رسوله بعد وفاته هى الأخذ بسنته، والأمور الاعتقادية والتعبدية يجب إرجاعها إلى هذين المصدرين، أو بعبارة أخرى ينبغى إرجاعها إلى ما كان عليه السلف الصالح بلا زيادة ولا نقصان. 

أما أولو الأمر- كما يقول عبده- الذين جاء ذكرهم فى الآية فهم أهل الرأى والبصيرة، وهم الذين يسمون فى عُرف الإسلام أهل الشورى، وأهل الحل والعقد، وهم العلماء وأرباب الرياسة الذين يسمون عند الأمم الأخرى بنواب الأمة، ويجب أن ترد إلى هؤلاء جميع الأمور القضائية والإدارية والسياسية، بما فى ذلك إعادة النظر فى الشريعة التى يقيمونها على القواعد الشرعية فى حفظ المصالح ودرء المفاسد، بحسب حال الزمان والمكان. 

ويقول محمد عبده: ولو أخذنا بهذا المبدأ الذى يقضى بالرجوع إلى الإسلام فى أبسط صوره وأهم أركانه، لوجدنا أساسًا يربط المسلمين جميعًا، وتتفق عليه كلمتهم ويصبح دين الناس كافة، ويظهر من هذا أن ما فى الإسلام الآن من الأحكام الخاصة بالطلاق، وتعدد الزوجات والرق، وأشباه ذلك من المسائل ليست من أصول الدين، وأنه يمكن تعديلها وفق ما تقتضى به الظروف. 

ولمحمد عبده رؤية مهمة أعتقد أنه من الضرورى توثيقها هنا. 

يقول: عندما تظهر طبيعة الإسلام الحقيقية باعتباره آخر صورة لدين الله الحق، وهو دين واحد فى الأولين والآخرين، لا تختلف إلا صوره ومظاهره، أما روحه وحقيقة ما طولب به العالمون أجمعون على ألسن الأنبياء والمرسلين فهو لا يتغير، فالإسلام آخر صورة لهذا الدين الحق.

«جاءت المسيحية فى دور أسبق من أدوار تطور البشر، فوجهت كل همها إلى إذكاء عاطفة الإنسان، وقالت بالزهد والتجرد من الدنيا وغير ذلك مما ينافى طبيعة الناس، فأنكر المسيحيون ذلك أو عدلوه ليتفق مع رغباتهم وحاجاتهم، ولكن عندما كان سن الاجتماع البشرى قد بلغ بالإنسان أشده، وأعدته الحوادث الماضية إلى رشده، جاء الإسلام يخاطب العقل، ويستصرخ الفهم واللب، ويشركه مع العواطف والإحساس». 

«وتبدو اليهودية والنصرانية والإسلام فى بعض النواحى، كأنها أغصان تفرعت عن دوحة واحدة هى الدين الحق، وإن تفرع هذه الأغصان لا يضر بوحدة نوعها، على أننا إذا أمعنا النظر فى الإسلام، ألفينا فيه أصول هذه الأديان جميعًا، فهو لهذا أفضل ما يعد الروح الإنسانية إلى بلوغ ذروة الكمال الأعلى من الإيمان، وبهذا كانت وظيفته العليا هى جمع الناس تحت لواء الدين الواحد الحق».

فى الفصل العاشر والأخير من كتاب «الإسلام والتجديد فى مصر» يمهد لنا «تشارلز آدمس» الأرض لنرصد أثر الإمام محمد عبده فى الأجيال التى تلته من المجددين. 

يقول «آدمس» هناك طائفة من الكتاب والعلماء فى مصر فى عصرنا الحاضر يظهرون نشاطًا أدبيًا فائقًا فى نزوعهم إلى التجديد والتقدم قد يصل أحيانًا إلى التطرف فى الحرية، ومن الطبيعى أن نفصح عن مبلغ تأثر هؤلاء الكتاب بتعاليم الشيخ محمد عبده. 

وأول ما يبدو هنا من الحقائق التى لا تقبل المناقشة والجدل هو أن الشيخ محمد عبده توفى فى العام ١٩٠٥ حينما كان أكثر هؤلاء الكتاب فى سن الشباب، وفى أوائل عهدهم بالدرس والتحصيل، فلم يكن من الميسور أن تنشأ بينهم وبينه صلات شخصية طويلة العهد، ولا أن يكون أثره المباشر قد ذهب فى نفوسهم إلى غور بعيد. 

ولا يخالجنا شك- والكلام لتشارلز آدمس- فى أن بعض هؤلاء الكتاب، إن لم يكونوا جميعًا، إذا كان فاتهم أثر الإمام المباشر، فقد تأثرت بآرائه أرواحهم ونزعاتهم إزاء المشكلات الحديثة، وغايتنا هى أن نكشف عن مدى أثر الشيخ محمد عبده فى بعض هؤلاء الكتاب إذا كان هذا ميسورًا. 

ويضيف آدمس: ولو كان غايتنا أن نتقصى الكلام فى الأدب المصرى الحديث لوجب أن نذكرهم جميعًا، ولكننا قصرنا بحثنا على ناحية محدودة معينة، ولهذا رأينا أن نتخير ثلاثة من أهم الكتاب المحدثين، وهم فى الوقت نفسه يمثلون هؤلاء الكتاب تمثيلًا كافيًا، وهؤلاء هم: مصطفى عبدالرازق أستاذ الفلسفة بالجامعة المصرية، وطه حسين أستاذ الأدب العربى فيها إلى عهد قريب، وعلى عبدالرازق وهو أخو مصطفى وكان قاضيًا فى المحاكم الشرعية. 

ويكمل آدمس الصورة بقوله: وممن يجب أن تذكر أسماؤهم محمد حسين هيكل محرر السياسة، وهو دكتور فى الاقتصاد السياسى من جامعة باريس، وقد لاحظنا من قبل أن صلته بالجريدة كانت تدل على ميل إلى الآراء الجديدة التى كان يذيعها أحمد لطفى السيد وشيعته، وكانت تتصل بالأدب والوطنية أكثر من اتصالها بالدين، وقد ظل هيكل يواصل العطف على هذه الآراء فى جريدة السفور التى خلفت الجريدة وفى صحيفته السياسة. 

ويجزم آدمس بأن هيكل لم يستمد آراءه من تعاليم الشيخ محمد عبده مباشرة، غير أنه ليس بعيدًا كل البعد عن العطف على بعض وجوه الحركة، وبخاصة تلك الناحية التى عنى بها قاسم أمين الذى كان يعجب به هيكل أيما إعجاب، لهذا نجده مثلًا عند بيانه كيف انتهى إلى تأليف الكتاب الذى سماه «تراجم مصرية وغربية»، وبعد هذا الكلام على أهم الشخصيات البارزة فى تاريخ مصر الحديث، يقول إنه عنى بقراءة كتب قاسم أمين وكل ما كتب عنه منذ كان طالبًا يدرس الحقوق فى مصر، فتكونت فى نفسه فكرة يحسبها هيكل دقيقة غاية الدقة. 

أما تأثير محمد عبده المباشر فيما يتعلق بعباس محمود العقاد وإبراهيم عبدالقادر المازنى، فربما كان أبعد احتمالًا من تأثيره فيما يتعلق بهيكل، لقلة الصلة الشخصية وروابط المعرفة بينهما وبين جماعة الشيخ عبده، وقد كان العقاد صديقًا لسعد باشا زغلول، ولكن فى السنوات الأخيرة التى أصبح للسياسة المكان الأول فى تاريخ سعد. 

أما المازنى فيقول إنه رأى محمد عبده فى مناسبتين.. كانت أولاهما عندما كان صبيًا فى العاشرة من عمره، أرسله أخوه الأكبر إلى بيت الشيخ محمد عبده ليرجو إليه مساعدة لهذا الأخ، فاستقبله الشيخ عبده فى حنو وعطف، مع أنه كان حينذاك محاطًا بعظماء الزائرين ووسط صديقه الشيخ أبا خطوة فى إجابة طلبه. 

أما الدكتور منصور فهمى، أستاذ الفلسفة بالجامعة المصرية فربما كان أشد قربًا إلى روح محمد عبده من هؤلاء جميعًا، وقد قضى الدكتور منصور خمس سنوات فى فرنسا فى جامعة السوربون، ونال فى نهاية هذه المدة درجة الدكتوراه بعد أن قدم رسالة عن «المرأة فى الإسلام»، وقد سببت له رسالته هذه كثيرًا من المتاعب بعد عودته إلى وطنه، وهاجت ثائرة الناس عليه، واشتدت المعارضة له حتى انتهى الأمر بالحيلولة بينه وبين منصبه فى الجامعة سنوات عدة. 

وفى سنة ١٩٢٢ كان الدكتور منصور من خطباء الحفلة التى أقيمت لإحياء ذكرى الشيخ محمد عبده، فأثنى ثناءً مستطابًا على ما كان للشيخ عبده من خلق عظيم، وعلى استقلال رأيه ومثله فى التربية والتعليم، ثم روى أنه رأى الأستاذ مرة واحدة، فقد كان صبيًا فى أيام دراسته الأولى عندما رأى الرجل العظيم الذى سمع عنه كثيرًا يمر بجانبه. 

وفى سنة ١٩٣٠ أصدر الدكتور منصور مجموعة مقالاته التى سماها «خطرات نفس» وهى تكشف عن خلق ورقى ورعاية للدين، وتهكم بالمحافظة الجامدة، واحترام لحرية الفكر، ولأن يكون لكل فرد الحق فى استخدام مواهبه العقلية، وهذا يذكرنا بالكثير من جيد ما كتب الشيخ عبده نفسه، لما بينهما من تشابه فى النظر إلى الأمور أكثر من التشابه فى صوغ العبارة أو إبراز الفكرة. 

على أن الدكتور منصور له كثير من الآراء التى لا تكاد تتفق مع آراء الشيخ عبده، كاحترامه التقدير الفنى الذى يحركه التأمل فى الجمال الإنسانى، احترامًا يكاد يكون روحانيًا ويؤدى إلى الشعور بالعبادة والتقديس للمصور الأكبر. 

ويصور خطاباته إلى الفتيات المبعوثات، وكن على وشك مبارحة البلاد للتعلم فى الخارج، محافظته على القيم ونزوعه إلى التجديد فى وقت واحد، وذلك عندما يقول: إن الأوراد التى قرأها لكل الأمهات قبل أن تبرحن أرض مصر ستصرخ فى آذانكن من قوم لهم ماض وتقاليد، وأن للماضى عليكن أن تطورنه ولكن لا تحقرنه.

نأتى إلى الثلاثى الذى اهتم «تشارلز آدمس» بتلمس أثر الإمام محمد عبده عليهم. 

الأول هو مصطفى عبدالرازق، الذى يقول عنه «آدمس»: لا يخالجنا شك فى علاقته بالشيخ محمد عبده، وهى تمتاز عن صلات الكتاب الذين تكلمنا عنهم بالوضوح والتعيين، فهو وأخوه على أبنا حسن عبدالرازق باشا الذى كان صديقًا حميمًا للأستاذ الإمام ونصيرًا له فى مجلس شورى القوانين ورئيسًا لحزب الأمة فى ١٩٠٧، ومصطفى وعلى كلاهما من تلاميذ الإمام فى الجامع الأزهر، وعهد أولهما به أقدم، لأنه أكبر سنًا من أخيه، وكان مصطفى فى حقيقة الأمر واحدًا من التلاميذ المقربين إلى الشيخ محمد عبده. 

فى شتاء العام ١٩١٨ ألقى مصطفى عبدالرازق سلسلة من المحاضرات فى الجامعة المصرية تكلم فيها على حياة الإمام وعلى آرائه، ولما أقيم الاحتفال بالذكرى السنوية السابعة عشرة لوفاة الإمام، ألف مصطفى الخطبة الرئيسية التى لخص فيها حياة الشيخ محمد عبده، وطبعت مع غيرها من الخطب التى ألقيت يومها فى سنة ١٩٢٢. 

ويذهب «آدمس» إلى أنه على ما يبدو لنا أن مصطفى مع تمسكه بالدفاع عن مبادئ الشيخ عبده يعنى عناية خاصة بالنواحى العقلية من النهضة التى أنشاها الإمام، أكثر من عنايته بناحيتها الدينية، وهذه الحقيقة هى التى تضع فارقًا جوهريًا بين نزعات الشيخ مصطفى ومراميه، وبين غيره من شيعة الإمام الذين دانوا بالزعامة للمنار، فإنهم جعلوا اهتمامهم بالإصلاح الدينى أكثر من اهتمامهم باى شىء آخر. 

ويضيف «آدمس»: وهذا الاهتمام العقلى الذى يظهره مصطفى عبدالرازق يجعل نوعًا من القرابة بينه وبين المحدثين، الذين اهتموا اهتمامًا قليلًا بالاصلاحات الاجتماعية والخلقية، وجعلوا غرضهم الأول حرية الفكر واستقلال الرأى فى البحث العلمى، على أنه بالرغم من كل هذا يجب أن نقرر أن مصطفى عبدالرازق هو أقرب المحدثين إلى الشيخ عبده، وأنه يسلك سبيله ويسير على سنته ويتبع تعالميه. 

الثانى هو طه حسين، ويكشف «آدمس» بعض أسراره كتابه الشهير «فى الشعر الجاهلى، الذى صدر فى العام ١٩٢٦. 

فقد كانت النظرية الأساسية فى كتاب طه حسين هى أن الجانب الأكبر من الشعر المنسوب إلى الجاهليين ليس من الجاهلية فى شىء، وهو يصرح بأن الشكوك قد ساورته من قبل فى صحة الأدب الجاهلى، وأنه وصل بعد البحث إلى نتيجة تكاد تبلغ عنده مبلغ اليقين، وهى أن الكثرة المطلقة مما نسميه الأدب الجاهلى ليس من الجاهلية فى شىء، وإنما هى منتحلة بعد ظهر الإسلام، فهى إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين. 

المفكرون والفلاسفة أخذوا من روح محمد عبده وبدأوا فى طريق التجديد

وينقل «آدمس» عن طه حسين قوله: وما بقى من الأدب الجاهلى الصحيح قليل جدًا لا يمثل شيئًا، ولا يدل على شىء، ولا ينبغى الاعتماد عليه فى استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلى. 

ويرى طه حسين أن طائفة من العوامل كانت سببًا فى انتحال الشعر ونسبته إلى شعراء اشتهرت أسماؤهم فى الجاهلية، كالرغبة فى نشر الدعوة السياسية أو إرضاء العصبيات، أو خدمة الغايات التى كان يرمى إليها الرواة والقصاص والنحويون والمحدثون وعلماء الكلام وأصحاب التأويل. 

على أن مناقشته للعامل الدينى هى التى أثارت عليه غضب المحافظين على وجه خاص، فقد جاء فى سياق كلامه بعض الآراء التى اعتبرها خصومه دليلًا على إلحاده، كإنكاره القصة التى تذهب إلى أن إبراهيم وإسماعيل بنيا الكعبة، وشكه فى وجودهما التاريخى، ومثل إنكاره ما تعارف عليه الناس من أن القراءات السبع جاءت عن النبى، وإنكاره أن الإسلام كان دين إبراهيم وأنه وجد قبل محمد فى بلاد العرب. 

ويتبنى «آدمس» وجهة نظر تقوم على أن القيمة الحقيقية لكتاب طه حسين ليست فيما حواه من الشكوك والإنكار للعقائد الإسلامية، تلك الشكوك التى أثارت عليه ثائرة المحافظين، وإنما فى دعوته إلى اتباع مناهج النقد فى درس الأدب العربى. 

فقد نقد طه حسين فى الفصول الأولى من كتابه المذاهب والأساليب المتبعة فى درس الأدب العربى نقدًا عنيفًا، ووجه فى الكتاب كله سهامًا من السخرية والتهكم إلى تلك النزعة التى تتجه إلى قبول كل ما قاله القدماء والتسليم به دون نقد وتمحيص، وكان القدماء أنفسهم لا يعرفون إلا شيئًا قليلًا من أساليب النقد. 

يقول طه حسين: أريد ألا نقبل شيئًا مما قال القدماء فى الأدب وتاريخه إلا بعد بحث وتثبت، ثم يؤكد أن المنهج الذى يدعو إلى اتباعه فى البحث النقدى سيقلب العلم القديم رأسًا على عقب، ويقرر أنه إذا أريد أن يظفر الأدب العربى بما ينبغى أن يكون عليه من القوة والنمو والحياة، يجب أولًا أن يتحرر من هذه القيود التى تربطه بالعلوم الدينية، فإن الأدب يدرس الآن باعتباره وسيلة لفهم القرآن والحديث، ولا يدرس الأدب لنفسه، وإن الاستغناء عن درس الأدب قد يكون ميسورًا لو أمكن أن يفهم القرآن والحديث بدونه، بل إن اللغة نفسها قد اعتبرها القدماء لغة مقدسة لأنها لغة القرآن والدين، ولذلك لم تخضع للبحث العلمى الصحيح. 

ويضيف الدكتور طه: أنا أريد أن أدرس تاريخ الآداب فى حرية وشرف، كما يدرس صاحب العلم الطبيعى علم الحيوان والنبات، لا أخشى فى هذا الدرس أى سلطان، وأنا أريد أن يكون شأن اللغة والآداب شأن العلوم التى ظفرت بحريتها واستقلت بها من قبل، والتى اعترفت لها كل السلطات بحقها فى الحرية والاستقلال، وعلى هذا الشرط وحده يستطيع الأدب العربى أن يحيا حياة ملائمة لحاجات العصر الذى نعيش فيه. 

كان طه حسين يعرف ما الذى سيجره عليه كتابه، فاستبق الجميع وقال: ما لى أدرس الأدب لأعيد ما قال القدماء؟ ولم لا يكتفى بنشر ما قال القدماء؟ ومالى أدرس الأدب لأقصر حياتى على مدح أهل السنة وذم المعتزلة والخوارج، وليس فى هذا كله شأن ولا منفعة ولا غاية علمية؟، ومن ذا الذى يكلفنى أن أدرس الأدب لأكون مبشرًا بالإسلام أو هادمًا للالحاد، وأنا لا أريد أن أبشر، ولا أريد أن أناقش الملحدين، وأنا أكتفى من هذا كله بما بينى وبين الله من حظ دينى؟ 

لم يكن طه حسين معنيًا إذن فى كتابه فى الأساس بالنواحى الدينية، فقد كانت غايته الأولى فى الناحية العلمية والرغبة فى رفع الدراسات العلمية المصرية فى نظر العلماء الغربيين. 

ولأنه كان يعرف أن تحقيق هدفه هذا ليس سهلًا، فقد حاول أن يخفف ما يمكن أن تحدثه طريقته فى البحث من سوء الأثر عند الجمهور، فيقرر أنه من الممكن أن يكون للإنسان نزعتان فى وقت واحد. 

إحداهما نزعة العالم الذى ينهج سبيل النقد. 

والأخرى نزعة الرجل الذى يتقبل تعاليم الدين بالتسليم. 

وكان طبيعيًا أن نجده يكتب فى «السياسة الأسبوعية» فى ١٧ يوليو ١٩٢٦: كل امرئ منا يستطيع إن فكر قليلًا أن يجد فى نفسه شخصيتين ممتازتين، إحداهما عاقلة تبحث وتنقد وتحلل وتغير اليوم ما ذهبت إليه أمس، وتهدم اليوم ما بنته أمس. 

والأخرى شاعرة تلذ وتألم، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وترغب وترهب فى غير نقد ولا بحث ولا تحليل، وكلتا الشخصيتين متصلة بمزاجنا وتكويننا، لا نستطيع أن نخلص من إحداهما، فما الذى يمنع أن تكون الشخصية الأولى عالمة باحثة ناقدة، وأن تكون الشخصية الثانية مؤمنة مطمئنة طامحة إلى المثل الأعلى؟ 

سار طه حسين مع هذا المبدأ الذى خطه بنفسه لنفسه، فقرر فى التحقيق الذى أجرته معه النيابة بشأن كتابه أنه كمسلم لا يرتاب فى وجود إبراهيم وإسماعيل، وما يتصل بهما مما جاء فى القرآن، ولكنه كعالم مضطر إلى أن يذعن لمناهج البحث، فلا يسلم بالوجود العلمى التاريخى لإبراهيم وإسماعيل، إلا إذا ثبت وجودهما بالدليل العلمى. 

ورغم أن هناك من ينفى أى علاقة بين أفكار طه حسين والإمام محمد عبده، فإن «تشارلز آدمس» يقول: إنه من العسير أن نجد فى مصنفات طه مسائل معينة تتصل بتعاليم الشيخ محمد عبده، فعندما دخل طه الأزهر كان الإمام قد انقطع ما كان بينه وبين هذا المعهد من صلات، على أنه لا يخالجنا ريب فى أن طه عرف شيئًا من تعاليم الإمام، ولعل ثورته على برامج الأزهر فى ذلك العصر هى التى شجعت طه وأوحت إليه بالنزوع إلى الاستقلال الفكرى. 

الثالث هو على عبدالرازق، الذى يميل «آدمس» إلى أنه يقف موقفًا وسطًا بين أخيه مصطفى وطه حسين، فهو من ناحية لم يتطرف فى أمور الدين ولم يشك فيه كما فعل طه، وهو من ناحية أخرى لم يظهر ما أظهره أخوه من الميل القوى لاتباع تعاليم الشيخ محمد عبده، نعم هو تأثر بتعاليم الإمام إلى حد ما، ولكنه تجاوز مداها فى كثير من النواحى الجوهرية. 

أثر على عبدالرازق الأكبر كان فى كتابه «الإسلام واصول الحكم» الذى ينفى فيه تمامًا أن تكون الخلافة نظام حكم إسلامى. 

ويرى «آدمس» أن هناك كثيرًا من وجوه الشبه التى ربما دلت على أن على عبدالرازق تأثر تأثرًا قويًا بآراء الشيخ محمد عبده وتشرب الكثير من روحه. 

فقد تناول الموضوع الذى كتب فيه من الناحية التاريخية، فدرس الخلافة فى صدر الإسلام، وهو يشابه فى طريقته هذه الطريقة التى سلكها محمد عبده عندما وضع تلك المقدمة التاريخية التى صدر بها رسالة التوحيد. 

وهو كالشيخ عبده يتصور الإسلام باعتباره دينًا روحانيًا، وإن كان يفرق بين الدين والدولة مما لم يقل به الشيخ عبده، ثم يسلم مثله بإمكان خضوع الناس جميعًا إلى دين واحد عام يؤلف بينهم، وينظمهم فى وحدة دينية، وإن كانوا يختلفون فى وحداتهم السياسية، وهو كالشيخ عبده ينزع إلى مخالفة أولئك الذين لا يعرفون الدين إلا صورة جامدة، ويشابهه أيضًا فى استقلال تفكيره وفى اتساع أنظاره. 

الفكرة واضحة الآن، فالمفكرون والفلاسفة أخذوا من روح محمد عبده وبدأوا فى طريق التجديد، وأعتقد أن كل من حاول أن يقترب من هذه المساحة، أخذ من أفكار محمد عبده سبيلًا، وحتى هؤلاء الذين لم يقرأوا له، كان لأفكاره ظل فيما كتبوه، وهنا لابد أن نقرر الأن محمد عبده هو الأب الروحى لكل تجديد سعى إليه المجددون فى مصر