الإثنين 20 مايو 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

حسن الصباح.. كيف أصبح «إله الموت»؟

حسن الصباح
حسن الصباح

- د. عثمان الخشت يرصد سيرة مؤسس الحشاشين من الميلاد إلى الموت

- ظل على مذهب الشيعة الاثنى عشرية حتى بلغ سن السابعة عشرة

- التحق بالعمل فى بلاط السلاجقة كموظف ومستشار إدارى عند السلطان ملكشاه

- يرجع أصله إلى ملوك اليمن الحميرين وكان أبوه يقطن الكوفة بالعراق ثم انتقل إلى «قم» حيث مولد حسن

- أمر الجمالى بنفيه من مصر إلى المغرب العربى عن طريق البحر

- كان يضع مصلحة الحركة العامة فوق كل شىء وقبل أى شىء

- قتل ابنه الأكبر وأعدم ابنه الثانى لأنه وجده يشرب الخمر

المولد والصداقة مع عمير الخيام ونظام المُلك

يختلف المؤرخون حول تحديد العام الذى ولد فيه حسن بن الصباح، فقال بعضهم سنة ٤٣٢ هـ، بينما يؤكد آخرون أن مولده سنة ٤٣٨ هـ، ويؤكد فريق الثالث على أن مولده سنة ٤٤٥ هـ.

والأرجح أن عام مولده هو ٤٢٨ هـ الموافق ١٠٣٧م، وفق ما تشير أوثق المراجع.

وقد ولد فى مدينة «قم» التى كانت آنذاك - ومازالت - مركزًا أساسيًا للشيعة الاثنى عشرية.

غير أن بعض المظان التاريخية تشير إلى أنه ولد فى بلدة «معصوم» من مقاطعة الرى بالقرب من طهران، وقيل مولده فى «مرو».

ويرجع أصله إلى ملوك اليمن الحميرين، وكان أبوه يقطن الكوفة بالعراق، ثم انتقل إلى «قم»، حيث مولد حسن على الأرجح، وكما يشير حسن فى شذرة من الشذرات التى ترجم فيها لقصة حياته وتطوره الروحى، فإن أباه كان من الشيعة الاثنى عشرية. ومن هنا يتبين خطأ من ظن أنه كان إسماعيليًا.

وقد سافرت أسرته إلى مدينة «الرى» التى كانت من محاور اهتمام الدعاة الإسماعيليين، حيث كان لهم نشاط بارز بها.

ومنذ فترة مبكرة من حياة حسن كان أبوه يهتم بتعليمه عقائد الشيعة الاثنى عشرية بالإضافة إلى تشجيعه له على الاطلاع على مختلف العلوم فى عصره؟ لاسيما تلك العلوم ذات الصبغة الفلسفية. وظل على هذه الحال وهذه العقيدة حتى بلغ سن السابعة عشرة. يقول حسن فى شذرة ذكرها المؤرخ الفارسى علاء الدين الجوينى فى كتابه «جهان کشای»: «منذ طفولتى، بل منذ السابعة من عمرى، كان جل اهتمامى تلقى العلوم والمعارف والتزود بكل ما أستطيعه منها فى سبيل توسيع مداركى، وكنت كآبائى قد نشأت على المذهب الاثنى عشرى فى التشيع، ولم أكن أرى فى غيره طريقًا للخلاص من آفات العالم».

ويشير بعض المؤرخين إلى أن حسن كان زميل دراسة للشاعر عمر الخيام والوزير نظام الملك، وقد درس ثلاثتهم على الموفق لدين الله النيسابورى فى مدينة نيسابور. وبلغت صداقتهم مبلغًا عظيمًا من الترابط والود، حتى تعاهدوا على أنه إذا حقق أحدهم نجاحًا قبل صديقيه فإن عليه أن يأخذ بيد الآخرين حتى يحققا مثلما حقق من النجاح. ومرت السنون وتمكن نظام الملك من الوصول إلى رتبة وزير الدولة السلجوقية، ومن ثم فقد طالبه زميلاه بالوفاء بما سبق أن تعاهدوا عليه إبان طلبهم للعلم، وبالفعل وفىّ نظام الملك، فعرض على كل منهما أن يتولى إحدى الإمارات، ولكن كليهما رفض لسبب مختلف عن الآخر، أما عمر الخيام فكان يريد الحصول على راتب سنوى يمكنه من حياة الفكر والتأمل والتمتع بعيدًا عن مسئوليات الحكم وهمومه، وأما حسن فكان يتطلع إلى منصب فى بلاط الملك، حتى يستطيع أن يثبت جدارته للملك فيكون قاب قوسين أو أدنى من الوزارة.

وعند إخضاع هذه القصة للتحليل التاريخى نجد دلائل كثيرة على بطلانها، فمن الممتنع أن يكون حسن صديق دراسة لنظام الملك حيث إن مولد حسن على الأرجح سنة ٤٢٨ هـ بينما مولد نظام الملك سنة ٤٠٨ هـ، ففرق العشرين سنة بينهما يجعل من غير المحتمل أن يكون أحدهما زميل دراسة للآخر. فضلًا عن أن المصادر التاريخية الأكثر حجة تنص على أن حسن تلقى تعليمه بمدينة «الرى» لا مدينة «نيسابور». وبالنسبة لعمر الخيام فإن تاريخ مولده مجهول مما يجعل من الصعب أن نصدر حكمًا إيجابًا أو سلبًا بشأن زمالته للحسن إبان طلب العلم، غير أنه ليس من الممتنع أن يكون ذلك حدث؛ لأن وفاة عمر سنة ٥١٥ هـ، ووفاة حسن سنة ٥١٨ هـ مما يدل على أن عمرهما متقارب، وبالتالى لا يمتنع أن يكون الاثنان زميلى دراسة، لاسيما وأن مشربهما العلمى واحد، فكلاهما درس الرياضيات والفلك وعلوم الدين والفلسفة.

غلاف الكتاب

بداية التحول 

مهما يكن من أمر، فإن حسن ظل على مذهب الشيعة الاثنى عشرية حتى بلغ سن السابعة عشرة، وفى تلك الأثناء تعرف على أحد دعاة الإسماعيلية الفاطمية، ودار بينهما جدل متواصل محاولًا كل منهما أن يقنع الآخر بصحة مذهبه. وكان هذا التقليد الجدلى منتشرًا فى أرجاء فارس، حيث كانت مرتعًا خصبًا لمختلف التيارات الدينية والعقائدية، وكان أنشط تلك التيارات: تيار الدعوة الإسماعيلية.

وكان حسن حتى هذه اللحظة كما سبق القول يؤمن بالله والإسلام كما يفهمه الاثنى عشرية بوجه خاص، وكان تصوره عن الإسماعيلية أنها من قبيل المذاهب الفلسفية. ولكن لقاءه مع الداعية الإسماعيلى الكبير كان له أبلغ الأثر فى تطوره الروحى، حيث جعله على مفترق طرق محورى فى حياته، ثم وجهه وجهة نظرية وعملية لم تكن تخطر بباله يومًا من الأيام. 

یروى حسن فى شذرة متبقية تفاصيل ذلك المنعطف الجوهرى فى أيديولوجيته فيقول ما تعريبه:

«حدث أن تعرفت فى شبابى إلى أحد دعاة الإسماعيلية الفاطميين، فكنت أجادله جدالًا عنيفًا، وأخذ كل واحد منا يشيد بما هو عليه من عقائد مذهبية وآراء دينية.. ولم يكن لدى أى شك أو زعزعة فى إيمانى بالإسلام، وفى اعتقادى بوجود إله حى، باق، قدیر، سمیع، بصير، وفى وجود نبى وإمام، وفى وجود مباحات ومحظورات، وجنة ونار، وأوامر ونواهٍ، وكنت أفترض أن الدين والشريعة هما ما يؤمن به الناس بوجه عام والشيعة بوجه خاص، ولم يدر بخلدى أن الحقيقة يمكن البحث عنها خارج الإسلام، وكنت أعتقد أن آراء الإسماعيلية من قبيل الفلسفة وأن حاكم مصر فيلسوف وكان عميرة زاراب «يقصد الداعى الإسماعيلى» ذا شخصية قوية، وعندما ناقشنى لأول مرة قال:

إن الإسماعيلية يقولون كذا وكذا.

فقلت له: لا، يا صديقى لا تردد كلماتهم لأنهم كفرة وما يقولونه ضد الدين.

وكانت هناك خصومات ومناقشات بيننا تمكن خلالها من تدمير عقيدتى وإثبات بطلانها. ولم أشأ أن أعترف له بذلك، ولكن فى أعماقى كانت لكلماته أكبر الأثر. وكان عميرة يقول لى: عندما تخلو إلى التأمل فى سريرك أثناء الليل سوف تعرف أن ما أقوله لك مقنع.

ثم افترقت عن الداعى قبل أن أعتنق مذهبه، وبعد قليل أصابنى مرض ألزمنى الفراش، فخشيت أن تختطفنى يد المنون قبل أن أتطهر باعتناق المذهب الإسماعيلى؛ إذ اعتزمت اعتناقه بعد مناقشاتى مع الداعى».

ولما قام حسن من مرضه قرر البحث عن داع من دعاة الإسماعيلية، فتعرف إلى أبى نجم السراج، وطلب منه أن يقدم له المزيد من المعلومات عن عقائد الإسماعيلية، وبالفعل حدثه الداعى عما أراد، ثم أخذ حسن يتأمل تلك العقائد ويقارنها بسائر العقائد والأيديولوجيات الأخرى؛ مما تمخض عن اعتناقه الفعلى للمذهب الإسماعيلى. يقول حسن: «ولما عوفيت، وتعرفت إلى أبى نجم السراج، رغبت إليه أن يزيدنى حديثًا عن مذهبه، وأخذت أفكر تفكيرًا عميقًا فى تعاليم هذا المذهب».

قلعة الموت

مع نظام الملك فى بلاط السلاجقة

عندما وصل حسن سن الشباب ونضجت قدراته العلمية، التحق بالعمل فى بلاط السلاجقة كموظف ومستشار إدارى عند السلطان ملكشاه، فقد كان الرجل ذا علم بالحساب والهندسة ومطلعًا على مختلف علوم عصره النظرية والعلمية. وقد استطاع حسن بقدراته الفريدة ومثابرته فى العمل أن يلفت نظر ملكشاه. ويبدو أنه كانت تظهر عليه سمات المنافسة للوزير الشهير نظام الملك، مما أوغر صدر الوزير عليه، لاسيما وأن نظام الملك سنى فى حين أن حسن بن الصباح كان شيعيًا. ومن هنا بدأ الصدام بين نظام الملك وابن الصباح الذى استمر بعد ذلك أمدًا طويلًا وكانت له عواقب بالغة الأثر. وقد قال بعض مؤرخى الشيعة إن الوزير تآمر على حسن وأخرجه من العمل فى بلاط السلاجقة، ويروون فى هذا الصدد أن ملكشاه رغب فى عمل سجل متكامل لكل ما يتعلق بأمور الدولة المالية، وعندما طلب ذلك من وزيره نظام الملك، قال له الوزير بأن ذلك يتطلب حوالى سنتين، فاعتبر ملكشاه هذا الوقت أكثر مما ينبغى، ولذا فقد استدعى ابن الصباح وعرض عليه رغبته، فأجابه إليها وقال له إن هذا العمل يكفيه أربعين يومًا حتى يتمه، فتعجب الملك من الفرق الشاسع بين المدتين، وظن أن حسن يبالغ فى الأمر، ولكن حسن أكد له أنه قادر على إنهائه فى هذه المدة. فعهد الملك إليه بالمهمة وكلف موظفى ديوانه أن يقدموا للحسن كل ما يحتاج إليه من معلومات. وبالفعل شرع فى تنفيذ المهمة المنوط به، مما جعل الدوائر تدور برأس نظام الملك، خشية أن يستطيع حسن النجاح فى مهمته، فتظهر كفاءة حسن، وتتزعزع ثقة ملكشاه فى قدرة الوزير. وبناء عليه فإن الوزير شرع فى التآمر على حسن بغية أن يجهض محاولته، فكلف غلامًا من غلمانه أن يتقرب من غلام حسن ويصادقه حتى يثق فيه الثقة اللازمة، وعندما ينجح فى ذلك يخبر الوزير. فاستطاع الغلام أن يكسب ثقلة غلام حسن وأصبح ملازمًا له معظم الوقت، حتى علم أن حسن على وشك الانتهاء من عمل السجل المالى للدولة، فأخبر الغلام نظام الملك.

وعندما جاء وقت تقديم السجل لملكشاه، أمر الوزير غلامه أن يعبث بمحتويات السجل فى غفلة من حسن وغلامه. وتمكن الغلام من تنفيذ ما طُلب منه. ولما انتهت المدة المقررة طلب الملك من حسن أن يأتى إليه بالسجل، فأتى إليه به ولم يكن يعلم ما آلت إليه محتوياته. وعندما اطلع الملك عليه وجد ما لم يكن يخطر بباله، فقد ضاع نظام السجل واختلطت محتوياته بشكل يصعب معه تمييز الأمور. فاستاء الملك استياء بالغًا وخاب رجاؤه، وهنا انتهز الفرصة الوزير نظام الملك، فوبخ حسن توبيخًا شديدًا، وانتقده انتقادًا لاذعًا أمام ملكشاه، مما جعل الأخير يتخذ منه موقفًا حادًا، ولكنه استطاع الهرب.

فهذه رواية يذكرها بعض مؤرخى الشيعة، مفسرين بها أسباب الصدام بين نظام الملك وحسن بن الصباح، ويعللون بها دوافع هروب حسن. ولكن ابن الأثير يذكر فى «الكامل» ما يفيد أنه لم يكن يوجد مثل هذا الصدام فى تلك الفترة بين نظام الملك وحسن، بل كان نظام الملك يكرم حسن. ويعلل ابن الأثير هروب حسن بأنه جاء نتيجة انزعاج رئيس الرى «أبى مسلم» من نشاط حسن، حيث حاول أبومسلم معاقبته ففر منه، يقول ابن الأثير: «كان حسن بن الصباح رجلًا شهمًا كافيًا عالمًا بالهندسة والحساب والنجوم والسحر وغير ذلك، وكان رئيس الرى إنسانا يقال له أبومسلم، وهو صهر نظام الملك، فاتهم حسن بن الصباح بدخول جماعة من دعاة المصريين عليه، فخافه ابن الصباح، وكان نظام الملك يكرمه، وقال له يومًا من طريق الفراسة: عن قريب يضل هذا الرجل ضعفاء العوام! فلما هرب حسن من أبى مسلم طلبه فلم يدركه..» «الكامل ٨: ٢٠١».

ومعظم المؤرخين يؤيدون ابن الأثير فى هذا التعليل، حيث يرجحون أن سبب خروج حسن وفراره من الرى هو نشاطه الذى كان يمارسه فى الدعوة وإيوائه لمجموعة من الدعاة الفاطميين المصريين.

خروج حسن إلى مصر 

تقدم لنا الشذرات المتبقية من قصة حياته التى كتبها بنفسه تفسيرًا يفيد بأن سبب خروجه إلى مصر هو تنفيذ التوجيه الذى وجهه إليه الداعى الكبير «عبد الملك بن عطاش» بضرورة الوفود على القاهرة. وكما هو واضح فإن هذا التفسير لا ينفى أن السبب الرئيسى لخروج حسن من الرى هو تضييق السلطات عليه نظرًا لنشاطه الملموس فى الدعوة إلى الإسماعيلية، وعندما رأى الداعى المحنك ذلك نصح تلميذه - خوفا عليه من بطش السلطات - بالتوجه إلى مصر حتى يحضر دروس العلوم الباطنية التى كان يلقيها أكبر الدعاة فى مصر، ويقابل الإمام المستنصر معلنًا له ولاءه بشكل مباشر.

يقول حسن فى إحدى الشذرات: «.. ثم قدر لى أن أتعرف بالداعى مؤمن، وكان موفدًا إلى مدينة الرى من قِبل عبدالملك بن عطاش داعى الحياة فى العراقين «أى فى العراق العجمى والعراق العربى»، فوسلت إليه أن يقبل منى البيعة للخليفة الفاطمى بمصر، وأن يأخذ علىَّ العهود والمواثيق، فتردد الداعى، ثم أجابنى إلى طلبى. ولما وفد عبدالملك بن عطاش داعى الدعاة إلى الرى مثلت بين يديه، ولما وقف على آرائى واختبر استعدادى عهد إلىّ ببث الدعوة، وبذلك أصبحت داعيًا إسماعيليًا. ثم وجهنى بقوله: «عليك بالوفود على القاهرة لتنعم بخدمة مولانا الإمام المستنصر». ولما غادر عبدالملك بن عطاش الرى فى طريقه إلى أصبهان، كنت أنا أيضًا فى طريقى إلى القاهرة».

وبعد أن خرج حسن من الرى سنة «٤٦٧ هـ - ١٫٧٦م» توجه إلى أصفهان حيث قضى بها فترة يدعو إلى المذهب الإسماعيلى الفاطمى، ثم توجه إلى أذربيجان، ومنها إلى ميافارقين التى طرده منها قاضيها السُنى لأنه ينفى سلطة علماء أهل السُّنة والجماعة فى تفسير نصوص الإسلام، ويقول بأن صاحب السلطة الوحيد فى التفسير هو الإمام الشيعى. فتوجه حسن إثر ذلك إلى الموصل ثم إلى سنجار، ثم الرحبة، فدمشق، فصيدا، فصور، فعكا.. ونظرًا لأن الطريق البرى كان حينئذ غير مأمون لما فيه من مناوشات حربية، فإنه سلك طريق البحر من عكا حتى شاطئ مصر، ثم توجه إلى القاهرة فوصلها فى سنة «٤٧١هـ - ١٠٧٨م» وعلى وجه التحديد كان يوم وصوله ٣٠ أغسطس، وكان فى استقباله أبو داؤود داعى الدعاة وجمع من كبار رجال الدولة، ثم استقبله بحفاوة الإمام المستنصر فى قصره، وتحدثا فى شئون الدعوة وكيفية إقامتها ببلاد العجم، وقال حسن للمستنصر: من إمامى بعدك؟ فقال: ابنى نزار. وقد أكرمه المستنصر، وأعطاه مالًا، وأمره أن يدعو الناس إلى إمامته.

وقبل قدوم حسن إلى مصر كان يتطلع أشد التطلع لأخذ العلوم الباطنية عن هبة الله الشيرازى حجة الإمام وداعى الدعاة، وعندما وصل حسن مصر كان هبة الله قد مات، ولكن هذا لم يحل بينه وبين التلمذة عليه بشكل غير مباشر، عن طريق الاطلاع على مصنفاته التى خلفها، والنقاش المتواصل مع تلاميذه، وقد أظهر حسن أثناء تلك المناقشات علمًا واسعًا بالمذهب، فلفت الأنظار إليه.

وكان شيئًا محتملًا جدًا أن يحدث صدام بين حسن الأيديولوجى الثورى وبين بدر الجمالى القابض على شئون الحكم والمدبر لأمور الدولة، وكما سبق أن أشرنا فإن حسن سأل المستنصر: من إمامى بعدك؟ فقال: ابنى نزار. فكان حسن لذلك من مؤيدى نزار. فى حين أن بدر الجمالى كان مناهضًا له ومؤيدًا لأخيه الأصغر أحمد المستعلى كخليفة للمستنصر. وكان سبب مناهضة الجمالى لنزار أنه ركب مرة فرسه أيام المستنصر، ودخل دهليز القصر من باب الذهب راكبًا، ونزار خارج، والمجاز مظلم، فلم يره الجمالى، فصاح نزار: أنزل يا أرمنى كلب عن الفرس، ما أقل أديك! فحقدها عليه الجمالى. ومن هنا توترت العلاقة بينهما، وخشى الجمالى أن يعزله نزار عندما يتولى الحكم، فكان يحبذ ولاية المستعلى بدلًا من نزار، فى حين كان حسن ابن الصباح يحبذ ولاية نزار، فكان هذا هو السبب المباشر فى عدم الوفاق بين حسن والجمالى، فضلًا عن أن الأخير كان يضيق ذرعًا بما يظهره المستنصر من احترام وتقدير للحسن. وقد ذكر هذا أكثر من مؤرخ، منهم التنوخى فى كتابه: «نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة»، حيث قال: «.. حدث فى ذلك الوقت تعيين ولى العهد فى مصر، فاختار المستنصر ابنه نزار، وكان بدر الجمالى يحبذ تعيين المستعلى، وناصر حسن بن الصباح التعيين الأول، فغضب بدر الجمالى، ولم يرض بما كان يبديه المستنصر للحسن من احترام، فعمل على سجنه، ثم طرده من مصر».

وكانت الفترة التى قضاها حسن فى مصر ثلاث سنوات تقريبًا، ولكن بعض المؤرخين يذكر أن مدة بقائه بمصر حوالى ثمانية عشر شهرًا.

طرد حسن وأولى عمليات الاغتيال

أمر الجمالى بنفيه من مصر إلى المغرب العربى عن طريق البحر، وقد تعرضت السفينة التى كان يركبها إلى الخطر أثناء إبحارها، حتى كادت تغرق أكثر من مرة، وفى الوقت الذى كان يظهر معظم الركاب انزعاجًا وخوفًا شديدين لما يحدث للسفينة، فإن حسن أظهر قوة وجلدًا وتماسكًا عجيبين، وقد ساقت الرياح والأمواج السفينة إلى عكا، ومنها اتجه إلى حلب، ثم بغداد، وبطبيعة الحال كان يمارس نشاطه فى الدعوة إلى الإسماعيلية الفاطمية أثناء تنقلاته من مدينة إلى أخرى بشكل سرى، وقد حقق بعض النجاح فى هذا الصدد. وواصل رحلته إلى بلاد فارس، فبلغ أصفهان فى سنة «٤٧٣ هـ - ١٠٨١م» فى العاشر من يونيو. وبعد أن مكث بأصفهان بعض الوقت سافر إلى كرمان ويزد، يقول حسن فى شذرة: «ومن تلك المنطقة - من أصفهان - سافرت إلى كرمان ويزد، ومكثت فيها أدعو فترة من الزمن». وبعد ذلك رجع حسن مرة أخرى إلى أصفهان، ثم إلى خوزستان فى الجنوب.

وقد ظل حسن حوالى تسع سنوات متواصلة بعد رحيله من مصر يمارس الدعوة، ويكتسب أنصارًا جددًا، وينتقل من مكان إلى مكان، طبعًا بشكل سرى جدًا وأسلوب حذر إلى أبعد الحدود، وكان هو وأنصاره لديهم الاستعداد لفعل أى شىء فى سبيل تأمين أنفسهم، وكانت أولى عمليات الاغتيال التى قاموا بها، قتل مؤذن من أهل ساوة كان مقيمًا بأصفهان، ذلك أنهم دعوه إلى مذهبهم، فلم يستجب لهم، فخشوا أن يكشف أمرهم، فقتلوه. فلما بلغ خبره إلى نظام الملك الوزير السلجوقى أصدر أوامره بالقبض على من تدل القرائن على أنه هو القاتل، فحامت الشبهات حول نجار اسمه «طاهر»، فحُكم عليه بالإعدام، ومثلوا به وجروه من رجله سائرين به فى الأسواق.

أعين حسن تتوجه نحو الشمال

كان شيئًا منطقيًا بعد ذلك أن تتنبه السلطات السلجوقية إلى خطرهم، وتوقن أنهم ليسوا مجرد جماعة عقائدية فقط، وإنما لهم توجهات توسعية ذات خطر على استقرار وأمن السلطة. وبناء عليه صدرت الأوامر بتعقبهم، ما دفع حسن بن الصباح للتفكير الجدى فى ضرورة الحصول على حصن منيع يحميه هو وأتباعه، ويعطى لهم الفرصة فى نشر الدعوة، وهنا اتجهت عينا حسن نحو الشمال، حيث هضبة الديلم، ويرجع اختياره لهذه المنطقة إلى سببين، هما: 

أولًا: أن سكان تلك المنطقة التى يغلب عليها الطابع الجبلى، كانوا يميلون إلى التشيع، بل أكثرهم شيعة. ولذا فإنهم أكثر استعدادًا من غيرهم لاعتناق المذهب الإسماعيلى. وفضلًا عن ذلك فهم ذوو بأس شديد، ولديهم نفرة من السلطات السُنية التى كانت فى صدام مستمر معهم.

ثانيًا: طبيعة تلك المنطقة الجغرافية تختلف تمامًا عن سائر المناطق الفارسية، فهى تقع فى الناحية الشمالية من الجبال المحيطة بهضبة فارس الرئيسية. وتشتمل تلك المنطقة على هضاب وعرة وطرق عسيرة المسالك، ويوجد بها كثير من القلاع والحصون التى يصعب على الأعداء والمهاجمين اقتحامها.

لهذين السببين عقد حسن بن الصباح العزم على التوجه نحو الشمال، نحو مازندران، والديلم، وجيلان، وقزوين. فخرج من خوزستان الجنوبية متجهًا إلى مازندران عبر الصحارى والجبال متلاشيًا المدن وأماكن تجمع السكان خشية أن يقبض عليه، وبعد ذلك سافر إلى دمغان التى مكث بها ما يقرب من ثلاث سنوات واتخذها كمركز للدعوة، حيث كان يبعث رجاله المدربين إلى الجبال لمحاولة جذب سكانها. وعندما ضيق نظام الملك الخناق عليه ذهب ناحية الغرب إلى قزوين التى كانت قريبة من هضبة الديلم التى تمثل بدورها - كما قلنا - الهدف الأساسى الذى كان يتطلع إلى السيطرة عليه.

الاستيلاء على قلعة الموت

بعد دراسة متأنية للمنطقة وحصونها وقلاعها ووديانها وجبالها، قرر حسن ضرورة الحصول على قلعة «ألموت» التى تعتبر أحصن القلاع فى المنطقة وأقدرها على تحقيق الحماية لحسن وأتباعه. ويروى المؤرخون أن الذى بناها ملك من ملوك الديلم، إذ كان مغرمًا بالصيد، فأرسل ذات يوم عقابًا، وتبعه فرآه قد سقط على موضع هذه القلعة، فوجده موضعًا استراتيجيًا حصينًا، فأمر ببناء قلعة عليه، سماها «أله موت» ومعناه باللغة الديلمية «تعليم العقاب»، وتسمى هذه المنطقة وما يجاورها «طالقان»، وفيها عدة قلاع حصينة أخرى، غير أن أشهرها «ألموت»، وكانت تلك النواحى تحت رعاية وضمان «شرفشاه الجعفرى»، وقد استناب فيها رجلًا علويًا حسن النية ويتميز بسلامة الصدر.

وكان الأسلوب الذى اتبعه حسن فى الاستيلاء على القلعة هو بث رجاله فى المنطقة المحيطة بالقلعة، بل فى داخل القلععة ذاتها، واستطاع هو ورجاله جذب مزيد من الأنصار، بل استطاعوا التأثير على صاحب القلعة نفسه. يؤكد ذلك ما يرويه حسن فى إحدى الشذرات قائلًا: «وقد أرسلت من قزوين مرة أخرى الدعاة إلى قلعة ألموت، واستطاع الدعاة ضم بعض رجال القلعة إلى العقيدة الإسماعيلية، وقد حاول أولئك تحويل صاحب القلعة العلوى إلى الإسماعيلية، الذى تظاهر بالانضمام إليهم. ولكنه عمل على إخراج جميع المنضمين إلى خارج القلعة، ثم أغلق أبوابها، ورفض دخولهم قائلًا إنها ملك السلطان، ولكنهم استطاعوا التأثير عليه بعد مناقشات طويلة، فسمح لهم بالدخول».

وعندما قدم حسن بن الصباح إلى المنطقة تمكن من استمالة أهلها إليه بقدرته الكبيرة على الإقناع وإظهاره الزهد والتقوى، حتى إن العلوى صاحب القلعة أعجب به وأحسن الظن فيه، لدرجة أنه كان يجلس إليه يتبرك به. ولما أحكم حسن أمره دخل يومًا على العلوى بالقلعة، فقال له ابن الصباح: اخرج من هذه القلعة. فتبسم العلوى وظنه يمزح، فأمر ابن الصباح بعض أصحابه بإخراج العلوى، فأخرجوه إلى دمغان، بعد أن أعطاه ثمن القلعة وسمح له بأخذ متعلقاته منها.

وقد كان الاستيلاء على هذا الحصن أول عمل تاريخى فى حياة هذا الحزب الجديد.

الوضع الطبوغرافى لقلعة الموت

هنا نجد من الضرورى أن نوقف القارئ على الوضع الجغرافى والطبوغرافى لقلعة ألموت، لأن معرفة ذلك ستساعدنا بلا شك على التحقق من بطلان أو صحة ما يقوله بعض المؤرخين عن الحدائق الغنّاء التى تحيط بالعرائش الرشيقة والقصور المنيفة التى يزعمون أن حسن بن الصباح قد بناها للتأثير على رجاله والتحكم فيهم.

تقع قلعة ألموت على صخرة مرتفعة من صخور سلسلة جبال البرز التى ترتفع ١٠٢٠٠ قدم عن سطح البحر فى أقصر وأوعر طريق بين شواطئ بحر قزوين ومرتفعات فارس. ومناخ هذه المنطقة شديد البرودة ويتساقط عليه الجليد أكثر من ستة أشهر فى السنة.

وبهذا يتضح لنا بشكل حاسم بطلان ما يزعمه بعض المؤرخين الذين وصفوا هذه القلعة كفردوس أرضية فى عبارات خلابة، إذ كيف يُعقل أن توجد مثل تلك الفردوس المزعومة فى إقليم وعر شديد البرودة أكثر من نصف العام، لدرجة أن مؤرخين آخرين يذكرون أن السكان كان يعزلون الحيوانات فى مناطق جنوبية خوفًا عليها من البرد الشديد الذى لا يمكن أن تتحمله، ما يدل دلالة قاطعة على عدم صحة الوصف الذى ذكره «ماركو بولو» الرحالة الشهير، والذى تبعه فيه كثير من المؤرخين دون تحقق أو تثبت. فلقد جاء فى نفى صريح من عصر متأخر منقول عن نص أصلى كتبه «ماركو بولو» وصف فيه - كاذبًا - قلعة ألموت وأسلوب الحياة فيها، وكان ماركو قد مر فى هذه الناحية فى سنة ١٢٧١ أو ١٢٧٢م، يقول فى وصفه:

«إن شيخ الجبل - الذين يطلقون عليه فى لغتهم «علاء الدين» قد عزل واديًا بين جبلين ثم حوله إلى حديقة غنّاء، وهذه الحديقة أجمل وأكبر ما يمكن أن تراه العين من حدائق، وقد زرع فيها كل ألوان الفواكه، وبنى فيها أبدع ما يمكن تخيله من مقصورات وقصور مرسوم عيها بالذهب رسومًا رائعة، وتوجد بها أنهار من خمر ولبن وعسل مصفى، فضلًا عن أنهار الماء، وقد جعل شيخ الجبل نساء فاتنات يقمن بخدمة مَنْ بالحديقة والتسرية عنهم، حيث يتقن العزف الموسيقى، ويغنين بأصوات رائعة، ويرقصن رقصات تذهب العقول، فقد كان يريد شيخ الجبل من وراء ذلك أن يقنع أنصاره بأن هذه هى الفردوس الحقيقية، حيث حاول تصميمها وفقًا للوصف الذى ذكره محمد للفردوس بوصفها حديقة جميلة تجرى فيها أنهار من خمر ولبن وعسل وماء ومكتظة بالحور العين. وبالتأكيد فإن المسلمين فى تلك النواحى يظنون أنها الفردوس الحقيقية. والآن، فإنه لا يسمح لأى إنسان أن يدخل الحديقة إلا أولئك الذين قصد بهم أن يكونوا من (الحشاشين). وكان على مدخل الحديقة حصن من القوة بحيث لا يمكن أن يقتحمه إنسان فى الدنيا. ولم يكن هناك سبيل إلى الدخول إلى القصر إلا من طريق هذا الحصن. وكان لدى داعى الدعاة فى بلاطه عدد من الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين الثانية عشرة والعشرين ممن كان لهم ميل إلى العسكرية، وقد اعتاد أن يروى لهم روايات عن الجنة مثلما كان يفعل محمد، ويعتقد هؤلاء الشبان فيه مثلما كان يعتقد المسلمون فى النبى. وكان يدخلهم فى حديقتهم على مرات فى كل مرة أربعة أو ستة أو عشرة، بعد أن يأمر بتجريعهم نوعًا من الشراب يقعون بعده فى نوم عميق، ثم يرفعون بعد ذلك وينقلون إلى الداخل، فإذا استيقظوا وجدوا أنفسهم فى الجنة. وعلى ذلك فإنهم كانوا إذا استيقظوا وجدوا أنفسهم فى مكان مملوء بالبهجة والملذات حتى ليخيل إليهم أنهم فى الفردوس حقًا. وكانت النساء والكواعب يدللنهم ويرضين شهوات قلوبهم، ولذا فإنهم كانوا يتمنون ألا يتركوا هذا المكان بأى حال من الأحوال. والآن، فإن هذا الأمير الذى يسمونه «الشيخ» كان قد أعد لنفسه بلاطًا بالغ الروعة والجمال، وقد استطاع أن يجعل أهل الجبال البسطاء يؤمنون إيمانًا قويًا بأنه نبى عظيم، وإذا أراد أن يكلف أحد أولئك الحشاشين بمهمة، فإنه يأمر بإعطائه المخدر الذى سبق الحديث عنه، ثم يحملونه إلى القصر، حتى إذا أفاق فإنه يجد نفسه فى القلعة وليس فى الفردوس، ثم يحضرونه إلى مقام شيخ الجبل فينحنى أمامه فى احترام شديد معتقدًا أنه فى حضرة رسول حقيقى. ثم يسأله الأمير من أين جاء؟، فيرد عليه الشاب مجيبًا أنه أتى من الفردوس، التى هى مثل الفردوس التى وصفها محمد فى القرآن. وعندما يسمع ذلك الحاضرون الذين لم يؤذن لهم بعد فى الدخول، فإنهم يرغبون رغبة شديدة فى دخولها. فإذا ما أراد شيخ الجبل أن يقتل أى أمير فإنه يقول لأحد الشبان: اذهب واقتل الأمير الفلانى، فإذا ما عدت فإن ملائكتى سينقلونك إلى الفردوس، وإذا مت فلا تكترث فإنى سأرسل ملائكتى ليعودوا بك إلى الفردوس. وقد كانوا يؤمنون بما يقول، ولذلك فإنهم كانوا ينفذون جميع أوامره مهما كانت مهلكة أو مليئة بالمخاطر، حتى يمكنهم الرجوع إلى الفردوس. وبهذا الأسلوب استطاع الشيخ أن يبث الفزع فى نفوس الأمراء، وأجبرهم على دفع الجزية له حتى يمكنهم الحياة فى سلام ووئام». 

The Book of Ser Marco Polo, the Venetian, Tr,Henery Yule, ٢nd ed. Vol.I.P. ١٤٦-٩, London, ١٨٧٥ هكذا يحدثنا ماركو بولو عن قلعة «ألموت»، فهل يتسق هذا الحديث أدنى اتساق مع الطبيعة الطبوغرافية للقلعة؟

فى الحقيقة إن أبسط تحليل لوصف ماركو بولو فى ضوء الطبيعة الطبوغرافية لقلعة ألموت يوقفنا منذ الوهلة الأولى على أن حديثه أدخل فى الأساطير منه فى الواقع الفعلى، فهو لا يعدو أن يكون حديث خرافة.

نهاية المطاف

كان حسن الصباح أثناء تلك الفترة، وعلى مدى خمسة وثلاثين عامًا، ممتنعًا فى قلعة «ألموت» معقله الحصين ومركز سلطانه، وقد استطاع منها أن يدير ببراعة دفة دولة صغيرة منشقة على الحكم السنى، وهى دولة من نوع خاص، يتمتع فيها زعيمها قبل كل شىء بصفة القائد الروحى، الذى يستند فى سلطانه إلى قوة خفية جبارة قوامها جيش من الدعاة المحنكين والفدائيين المتعصبين، الذى يتشحون بأثواب من الزهد والورع، ويهدفون إلى غزو الأذهان والعقول، ويعتمدون على سلاح المؤامرة والغيلة، ويفتحون الطرق أمام تعاليمهم الباطنية بالخناجر المستورة.

وقد عاش حسن فى «ألموت» فى عزلة تامة، ويذكر بعض المؤرخين أنه لم يخرج منها طيلة حكمه سوى مرتين اثنتين. وكان يقضى وقته فى التفكير والتأمل والقراءة، وتدوين ما انتهى إليه فكره فى مصنفات عديدة تنظر وتدعم العقيدة الإسماعيلية، أو ترد وتفند آراء الفرق المخالفة له. 

وللأسف الشديد كان مصير هذه المؤلفات الدمار عندما اقتحم التتار القلعة فيما بعد. ولكن كان للشهرستانى عالم الأديان والفلسفات القدير، والذى كان معاصرًا للحسن بن الصباح منذ صعوده إلى ألموت حتى وفاته، أقول كان له الفضل فى حفظ خلاصة لتعاليمه المسماة بـ«الفصول الأربعة»، كما حفظ لنا مؤرخو أهل السنة شذرات من سيرته الذاتية، بالإضافة لما ظل محتفظًا به كمتقطفات فى الكتب الإسماعيلية التى اقتبست بعضًا من آرائه. ولا شك أن تلك «الفصول الأربعة» التى ترجمها الشهرستانى عن الفارسية، تدل على قدرة حسن الجدلية وتعمقه المتميز فى فهم أصول مذهبه.

ولقد كان حسن يحرص جد الحرص على إحاطة زعامته الدينية بجميع مظاهر القداسة والتبجيل، ولذا فإنه كان يبدو زاهدًا قانعًا لا يعرف البذخ والترف، ويشتد فى تطبيق أحكام الشريعة، أما الخمر والموسيقى وسائر ألوان الملاهى والملاذ المحرمة فكان لا يجرؤ أحد من أتباعه على اقتراف شىء منها نتيجة للحظر الشديد الذى فرضه حسن على تلك الأشياء.

وكانت إدارة حسن لشئون حركته إدارة حازمة أشد ما يكون الحزم، حتى إن أولاده كانوا لا يملكون إلا الأخذ بسيرته، واقتداء طريقه، والامتثال لأوامره.

وكان يضع مصلحة الحركة العامة فوق كل شىء وقبل أى شىء، ولم يكن يتوانى لحظة فى تنفيذ تعاليم الدستور التى كانت الحركة تعمل من خلاله، وفى سبيل هذه التعاليم لم تحل عاطفة الأبوة بينه وبين قتل ابنه الحسين لاتهامه بالاشتراك فى قتل أحد دعاته المقربين، ذلك أن الحسين فكر حينًا من الزمن فى أن يخلف أباه فى مركزه، وحاول أن يقنع أباه بأن يعلنه كخليفة له، ولكن حسن لم يتقبل هذا الأمر، وزجر ابنه زجرًا شديدًا.

فاهتم ابنه لذلك اهتمامًا بالغًا، حتى إنه تحدث بالأمر إلى أحد الدعاة الذين كان يصادقهم، وهو زيد الحسينى، فأخذ هذا الأخير للدعوة له كخليفة بين الفدائيين، وفى أثناء ذلك قدم أحد الدعاة الكبار إلى القلعة لكى يقدم تقريره السنوى إلى حسن بن الصباح، فقيل إن الحسين وزيدًا تآمرا على هذا الداعية لخلافات كانت بينهما وبينه، فقتلوه. وعندما أجرى حسن تحقيقًا فى الحادث فظهرت له المؤامرة، فأعدم ابنه الحسين وزيدًا فى الحال. وكان لهذا العمل الحازم تأثير كبير على أتباعه، حيث زاد إيمانهم بمصداقية حسن بن الصباح، فها هو يعدم ابنه الأكبر فى سبيل مبادئ الحركة.

ولم يكن قتله لابنه الأكبر هو الدليل الوحيد على حزمه فى تطبيق مبادئ الحركة، فقد أعدم ابنه الثانى، لأنه وجده يشرب الخمر. وطرد أحد دعاته من القلعة لأنه كان يتسلى بالعزف على الناى.

وفى الأيام الأخيرة لحسن الصباح كان معظم أكابر دعاته صرعى، فقد كان القدر يأخذهم واحدًا بعد الآخر، ما يمكن يزيد فى عزلته، ما زاد فى طبعه قسوة وصرامة فوق ما كان عليه من قبل.

وفى ربيع أول سنة ٥١٨ هـ مرض حسن مرض الموت، ولمّا أحس أنه على أعتاب الرحيل اختار لخلافته رجلًا من كبار دعاته كان يثق به ويقدره لإخلاصه فى نشر الدعوة وتفانيه فى الالتزام بتعاليمها، فضلًا عما كان يتمتع به من علم بأصول المذهب الدقيقة تمتعًا يؤهله لخلافة الصباح، وهذا الرجل كان «برزك آميد» مندوبه فى قلعة «لاماسار»، فاستدعاه وعهد إليه بخلافته فى تسيير سياسات الحركة، وحث جميع أتباعه على طاعته والامتثال لأوامره.

وبالفعل صدق حدس حسن فى توقعه لموته، ففى ٦ ربيع ثان سنة ٥١٨ هـ وافته المنية بعد حياة مديدة وعميقة ومؤثرة، شق خلالها إلى الرئاسة والزعامة طريقًا وعرًا محفوفًا بالمخاطر، وتمكن فيها من إرساء دعائم حركة مثيرة، مزودة بأسباب البقاء والاستمرارية، موفورة القدرة على مغالبة الأحداث الجسام، قادرة على بث الرعب والفزع فى القلوب بما تلجأ إليه من أساليب دموية ووسائل ميكافيلية.

المصدر: كتاب حركة الحشاشين تاريخ وعقائد أخطر فرقة سرية فى العالم الإسلامى