الـرعـب فى دنشواى.. كتاب نادر لـ«برنارد شو» عن الحادث الذى هز مصر

- رواية «عذراء دنشواى» صدرت فى عام 1909 وتم نشرها فى أعداد كبيرة
- برنارد شو أشعل العالم كله بما كتب، وكان ما كتبه هو أحد الدفاعات الكبرى التى استند إليها الزعيم مصطفى كامل
فى يناير 1952، وأثناء معركة قوات الشرطة المصرية، الشهيرة مع الإنجليز فى الإسماعيلية، وسقوط شهداء كثيرين من جنود وصف ضابط وضباط من قوات الشرطة فى تلك المعركة، قبل الذروة التى استشهد عدد كبير من الشرطة تحت كل العنف العسكرى الذى كان يستخدمه الإنجليز فى الضرب المنظم والعشوائى والمجنون، فى مواجهة بسالة المصريين الشجعان، أثناء ذلك قرر الفنان والمخرج السينمائى أحمد بدرخان أن يخرج فيلمًا عن تلك الواقعة التى شهدت عنفًا ضاريًا بين المصريين والإنجليز عام 1906 فى قرية تدعى دنشواى، وهى إحدى قرى محافظة المنوفية، وكان بدرخان ينصت لوالده كثيرًا عندما يحكى عن فظائع الإنجليز التى ارتكبوها فى حق المصريين، خاصة فى حادثة دنشواى- كما اتفق الباحثون على تلك التسمية، وهى فى الحقيقة أكبر من حادثة، وتداعياتها لم تكن بسيطة، بل انقلبت مصر عن بكرة أبيها، كما انقلب العالم كذلك فى أعقاب تلك الواقعة البشعة.

عمدة دنشواى وأحد المتهمين فى الحادثة يروى للمخرج أحمد بدرخان ذكرياته
كان بدرخان يستمع لوالده عن تلك الواقعة، وجسده يرتعد من فرط شناعة ما يسمع من تفاصيل تلك الفظائع، التى كانت فى مخيلته وهو طفل صغير، كأنها أسطورة سوداء بالغت فى أحقاد المصريين ضد المستعمرين فى تصوير بشاعتها، وبعدما كبر كان أكثر ما أثر فيه كلمات شهيد الوطنية الزعيم الشاب مصطفى كامل عن جريمة دنشواى، تلك الكلمات التى أيقظت ضمير العالم فى ذلك الوقت، فانتصرت عدالة ذلك الضمير، وبعد كلمات مصطفى كامل، جاءت كتابات أخرى كثيرة، على رأسها كلمات الفيلسوف الأيرلندى جورج برنارد شو، الذى أشعل العالم كله بما كتب، وكان ما كتبه هو أحد الدفاعات الكبرى التى استند إليها الزعيم مصطفى كامل الذى راح يجوب العالم شرقًا وغربًا للتشهير بالإنجليز الذين ارتكبوا تلك الواقعة، ولا أبالغ إذا قلت إن كتابة برنارد شو كانت الصك الوحيد فى العالم الذى دعم المصريين بقوة فى الدعاية لقضية الاستقلال.

عندما كبر أحمد بدرخان، وأصبح فنانًا ومخرجًا، قرر أن يذهب إلى قرية دنشواى بعد ٤٥ عامًا من وقوع الحادثة لكى يعد فيلمًا عنها، تلك الحادثة التى أشعلت خياله وحماسة كلمات مصطفى كامل، ثم كلمات برنارد شو، وبالفعل ذهب بدرخان إلى قرية دنشواى، وعندما وصل إلى أطراف القرية- مسرح الجريمة- التف حوله رجال وشباب القرية وأخذوا يمطرونه بأسئلة كثيرة:
- هل جئت لتسمع قصة مذبحة دنشواى؟، هل ستكتب فى الصحف عنها؟، وعندما عرفوا أنه مخرج سينمائى، صاحوا جميعًا:
- إذن هل ستضع فيلمًا عن دنشواى؟
والحوار عن ذلك اللقاء الذى أجراه بدرخان مع أهل القرية يطول شرحه، ولكنه التقى بالفعل كثيرًا من أبناء دنشواى، منهم أحد المتهمين فى القضية، وقام بدران بتصوير عائلات كثيرة فى القرية، وبالفعل قام بدرخان بإخراج فيلم شامل عن الزعيم مصطفى كامل، وكتب قصته فتحى رضوان، وقام ببطولته القاص والصحفى أنور أحمد، الذى اشترط على بدرخان أن يكتب على «أفيش الفيلم» بأنه سيمثل للمرة الأولى والأخيرة، وعندما سأله أحدهم لماذا ذلك الشرط، رد عليه بأنه قبل القيام ببطولة الفيلم لعشقه مصطفى كامل، ولكن تلك قصة أخرى تحتاج إلى مزيد من الشرح سنقوم به فى سياق آخر، وتم إخراج الفيلم بالفعل، ولكن الرقابة لم توافق عليه إلا بعد قيام ثورة يوليو.

ولم تمر سنوات قليلة، حتى كتب الشاعر محمد صلاح الدين عبدالصبور قصيدته العظيمة «شق زهران»، وتفاعل القراء والباحثون مع تلك القصيدة أيما تفاعل، وذلك لفرط جمالها من شاعر شاب ولد عملاقًا من ناحية، ومن ناحية أخرى عمق تأثير الحدث على المصريين حتى بعد مرور كل تلك السنوات، يقول الشاعر فى القصيدة التى أصبحت ملحمة وعلامة فى مسيرة الشعر فى مصر، وليسمح لى القارئ الكريم بنشرها كاملة لتلك الأهمية التى تشغلها فى وجدان كل مصرى، وها هو نص القصيدة:
وثوى فى جبهة الأرض الضياء
ومشى الحزن إلى الأكواخ
تنين
له ألف ذراع
كل دهليز ذراع
من أذان الظهر حتى الليل
يا الله
فى نصف نهار
كل هذى المحن الصماء فى نصف نهار
مذ تدلى رأس زهران الوديع
كان زهران غلامًا
أمه سمراء، والأب مولّّّّّد
وبعينيه وسامة
وعلى الصدغ حمامة
وعلى الزند أبوزيد سلامة
ممسكًا سيفًا، وتحت الوشم نبش كالكتابة
اسم قرية
«دنشواى»
شب زهران قويًا
ونقيًا
يطأ الأرض خفيفًا
وأليفًا
كان ضحاكًا ولوعًا بالغناء
وسماع الشعر فى ليل الشتاء
ونمت فى قلب زهران، زهيره
ساقها خضراء من ماء الحياة
تاجها أحمر كالنار التى تصنع قبله
حينما مر بظهر السوق يومًا
ذات يوم...
مر زهران بظهر السوق يومًا
واشترى شالًا منمنمًا
ومشى يختال عجبًا، مثل تركى معمم
ويحيل الطرف... ما أحلى الشباب
عندما يصنع حبًا
عندما يجهد أن يصطاد قلبًا
كان يا ما كان
أن زفت لزهران جميلة
كان يا ما كان
أن أنجب زهران غلامًا.. وغلامًا
كان يا ما كان
أن مرت لياليه الطويلة
ونمت فى قلب زهران شجيرة
ساقها سوداء من طين الحياة
فرعها أحمر كالنار التى تحرق حقلًا
عندما مر بظهر السوق يومًا
ذات يوم
مر زهران بظهر السوق يومًا
ورأى النار التى تحرق حقلًا
ورأى النار التى تصرع طفلًا
كان زهران صديقًا للحياة
ورأى النيران تجتاح الحياة
مد زهران إلى الأنجم كفًا
ودعا يسأل لطفًا
ربما... سورة حقد فى الدماء
ربما استعدى على النار السماء
وضع النطع على السكة والغيلان جاءوا
وأتى السياف مسرور وأعداء الحياة
صنعوا الموت لأحباب الحياة
وتدلى رأس زهران الوديع
قريتى من يومها لم تأتدم إلا الدموع
قريتى من يومها تأوى إلى الركن الصديع
قريتى من يومها تخشى الحياة
كان زهران صديقًا للحياة
مات زهران وعيناه حياة
فلماذا قريتى تخشى الحياة

وإذا كانت القصيدة تركت كل ذلك الزخم عند المصريين، وإذا كان الفنان أحمد بدرخان تحركت حماسته لإخراج فيلم عن الواقعة أثناء المعركة الضارية بين المصريين والإنجليز فى يناير ١٩٥٢، وأثناء ملحمة المقاومة المصرية، فهناك رواية مهمة صدرت عام ١٩٠٩ للكاتب والأديب محمود طاهر حقى، عنوانها «عذراء دنشواى»، وتم نشرها فى أعداد كبيرة، وتم نفادها بشكل حقيقى آنذاك بالآلاف من فرط الإقبال على الرواية، ومن فرط تأثر المصريين بالحدث التاريخى البشع، ولم تكن تلك الإبداعات فقط هى التى عبرت عن سخط المصريين تجاه ما حدث لهم فى ذلك العام المشئوم، وكما كانت هناك بطولات، كانت هناك أيضًا خيانات، وفى ذلك السياق كتب المفكر والفيلسوف الساخر جورج برنارد شو مقالًا طويلًا يندد فيه بالإنجليز الذين ارتكبوا كل تلك الجريمة، وبعدما نشره فى الصحف والمجلات، وتمت ترجمته إلى عدة لغات، وأعاد نشره الزعيم مصطفى كامل فى عدة مطبوعات مصرية وفرنسية، نشره برنارد شو كمقدمة لإحدى مسرحياته، ثم تمت ترجمته ونشره إلى اللغة العربية فى عقد الأربعينيات، وقام بترجمته الكاتب الصحفى عبدالمجيد نعمان الذى انتقل إلى النقد الرياضى فى مؤسسة أخبار اليوم، ثم أصبح من أهم النقاد الرياضيين فيما بعد فى جريدة الأهرام، وتم نشر مقال شو الطويل، وقد تم إلحاق دراسة أخرى بالكتاب عنوانها «فظائع العدالة البريطانية فى مصر، وهى لـ«ولفرد سكاوان بلنت»، وهو صديق المصريين والزعيم أحمد عرابى، وهو الذى قام بحملة قوية جدًا للدفاع عن عرابى بعد القبض عليه، وتم تكليف أكبر المحامين الإنجليز بالدفاع عنه، وكتب ذلك المحامى «أز م. برادلى» كتابًا شديد الأهمية تحت عنوان «كيف دافعنا عن عرابى»، وقام بترجمته عبدالحميد سليم، ونشر فى هيئة الكتاب عام ١٩٨٧، ومن ثم يصبح كتاب برنارد شو من أهم ما كتب عن حادثة دنشواى، وهو ما سنتعرض له بالتفصيل فى الحلقة المقبلة إن شاء الله.