قصة لصلاح حافظ عمرها 56 سنة.. نهاية الشيخ تهامى
- أحس بنفسه ضعيفًا لا تقوى ساقاه على حمله ولا يطيق أن ينظر إلى الخراب الذى أمامه فاستدار منكّس الرأس ليعود إلى البيت
- ربما تكون للشيخ حكمة فيما حدث.. إن الإنسان لا يعرف الغيب.. وفى الجامع يقولون إنه لو عرف الغيب لاختار الواقع
قبل يومين، وتحديدًا فى الرابع من مارس، مرت ذكرى وفاة واحد من «أساطير» الصحافة المصرية وهو الأستاذ صلاح حافظ، الذى توفى عام ١٩٩٢ تاركًا إرثًا عظيمًا، ربما لم يكتشفه كثيرون حتى الآن، لتعدد أوجه الإبداع فى هذه المسيرة ما بين الصحافة والأدب والكتابة بشكل عام.
ومن بين الوجوه المجهولة لـ«صلاح حافظ» وجه «الأديب والقاص» الذى ظهر أولًا قبل أن يصبح « مايسترو الصحافة المصرية».
«حرف» تنشر فصلًا من مجموعة قصصية مجهولة لـ«صلاح حافظ» وهى «الولد الذى جعلنا لا ندفع نقودًا»، وهذه المجموعة صدرت للمرة الأولى فى يونيو ١٩٦٧ عن سلسلة «الكتاب الذهبى» الصادرة عن مؤسسة «روزاليوسف».
مات الشيخ تهامى فى الأرض التى يملكها عم رمضان. وفى البقعة التى زهقت فيها روحه دفنه الناس. وأقاموا فوقه أربعة جدران من الطوب الأخضر. ولكن الجدران لم تعش طويلًا. وإنما تهدمت طوبة وراء طوبة، وذاب ترابها فى ماء الرى. فلم يعد من الشيخ فى النهاية غير كومة عالية تتوسط الأرض، وتنبت فوقها وعلى جانبيها حشائش كالسكاكين.
وعبثًا كان عم رمضان يحاول أن يحمى زراعته من الناس الذين يدوسونها كل يوم ذاهبين عائدين من أجل هذه الكومة. كانت أقدامهم تبطط النبات على طول خط عريض يبدأ من حافة الغيط وينتهى عند الشيخ. ويصرخ عم رمضان فى وجوههم:
- يا عالم! الراجل حايفضى لمين ولّا لمين؟ ده انتو مكلفينه بحاجات تلخم ربنا بنفسه! ولكنهم يجعلون أذنًا من طين وأخرى من عجين، ويشقون طريقهم بغير اكتراث، وشتائم عم رمضان تستقبلهم وتودعهم. لم تكن هناك قوة تستطيع أن تمنعهم عن الشيخ الذى يشفى الأطفال، ويصالح الزوجات، ويكسب القضايا، ويصيب الذين يغضب عليهم بالحمى، أو ينفخهم فيصبح الواحد منهم أكبر من كيس القطن الممتلئ!
وأحيانًا كان عم رمضان يذهب أثناء الليل يروى الأرض فيضبط وراء الكومة «فتحية المغربية» أو «جلفدان»، ومعها شبان من القرية يحتمون هناك بالظلام بعيدًا عن الناس. وكان الذى يغيظ عم رمضان أن الشيخ لم يغضب مرة واحدة من هؤلاء. ولهذا كان يقول له أحيانًا:
- والله ياشيخ تهامی ما ناقصك غير قرنين!
كان هو الوحيد الذى يجرؤ على أن يقول للشيخ شيئًا كهذا دون أن يخاف منه. فهما أصدقاء منذ وقت طويل جدًا. والعشرة التى بينهما لا تسمح للشيخ بأن يضره. وقد تعوّد عم رمضان ألا يخفى عنه شيئًا مما يفكر فيه. وسواء كان يحرث، أو يقتلع الحشائش، أو يروى، أو يستريح، فهو لا يكف أبدًا عن الكلام وكثيرًا ما كان يقول له:
- والله صعبان علىّ نومتك فى البرد كده يا شيخ تهامى. لكن معلهش مسیرها برضه تتعدل وأبنى لك مقام زى بتاع زمان.
ولكن الذى حدث أن الدنيا، طوال ثلاثين عامًا، لم تتعدل مرة واحدة حتى يفى بالوعد. كان كل موسم يجىء أسوأ من سابقه. وكانت تنقضى أحيانًا شهور كاملة دون أن يرى النقود. ثم جاء الذى زاد وغطى عندما اشترى شيخ البلد الأرض الملاصقة، وبدأ ينغص عليه حياته ويرفع عليه قضية وراء قضية، كأنما لم يخلقه الله إلا من أجل خراب البيوت. حتى القناة الصغيرة التى تنقل الماء إلى الأرض، لم يلبث شيخ البلد أن ادعى فى النهاية أنها تقع فى أرضه!
وكان محالًا أن يسلم عم رمضان فى هذه القناة، فحفيت قدماه من أجلها فى المحاكم. وأنفق عليها دم قلبه، والجلسات لا تنتهى. وكل جلسة لا بد أن يسافر من أجلها إلى المدينة، وأن ينام فى اللوكاندة. والمحامى كالمنشار يأكل ولا يشبع. وشيخ البلد يمط القضية ويؤجلها مرة بعد أخرى، لكى يجعله فى النهاية يفلس ويسلم. وكل هذا كان الشيخ تهامى يعرفه طبعًا، أولًا بأول، حين يعود عم رمضان من الجلسة، ويقعد إلى جوار الكومة يحكى له ما حدث ويتساءل فى ضيق: - بأه يعنى عاجبك الراجل ده يقعد يعاكس فى مخاليق ربنا كده؟ بأه مانتش قادر تجيب له مصيبة تشيله من هنا؟
وقبل الجلسة الأخيرة بأيام، جلس عم رمضان وقتًا طويلًا يحكى للشيخ آخر ما سمعه من تصرفات ذلك الرجل الذى لا ذمة عنده ولا ضمير:
- قال إيه.. حالف ليدبح لك عجل يوم ما يكسب القضية، بأه ده راجل عنده دم؟ بأه عشان عجل حاتسيبه ياكل مال الناس حرام؟ حتى أهل الله عاوز يشترى ذمتهم؟ لا حول ولا قوة إلا بالله!
وفى تلك الليلة كان الماء قليلًا فى الترعة، فسهر عم رمضان حتى الفجر يروى أرضه. وقضى الوقت كله يحكى فى هذه الأعجوبة، وما يقوله يُعيده، وبين لحظة وأخرى يخبط كفًا بكف ثم يبصق فى اشمئزاز وهو يقول:
- بأه الراجل ده مش حقه يتحرق بجاز يا شيخ؟
ولكن يوم القضية جاء دون أن يحدث شىء لشيخ البلد. وسافر عم رمضان إلى المدينة، ونام فى اللوكاندة، وحضر الجلسة. وصرف آخر قرش فى جيبه، ثم عاد.
عاد بوجه آخر غير الذى سافر به يجر قدميه جرًا كأنه مريض، وعيناه تائهتان لا ينظر بهما إلى شىء، وتجاعيد خديه جافة كأنها منحوتة من الخشب، والثقب الذى فى جبهته «من أثر ضربة قديمة بسن الفأس» يبدو أكثر عمقًا مما كان.
واتجه عم رمضان من فوره إلى الحقل دون أن يدخل البلد، وهناك وقف لحظة أمام الكومة العالية يرمقها بغيظ شديد، ثم انفجر فيها صائحا:
- بأه هى دى أخرتها؟ بأه كل ده مش عاجبك؟ واخد لك قيراطين نايم فيهم، والناس رايحة جاية تهرس فى الزرع، وأنا أقول معلهش يا واد أهه ضيف عندك ووجوده بركة.. وبعدين تیجی على الآخر وتعمل كده؟ تبقى عارف القناية فى أرضى وبرضه تديها له؟ ليه؟ دى واخدة اكتر من قيراط یا شیخ تهامی! بأه عشان عجل تعمل كده؟ بأه أنت من أهل الله أنت؟ الله يقطع النهار اللى جيت فيه البلد دى. هى كانت الدنيا ضاقت فى وشك مالقتش حتة تموت فيها إلا هنا!
وأحس بصدره ينشرخ من فرط الصياح. فبلع ريقه، وغضبه، واستدار دون كلمة أخرى عائدًا إلى البيت.
كانت الدنيا سوداء تمامًا فى وجهه. وعندما بلغ البيت لم يتكلم مع أحد. ففهمت ابنته أنه خسر القضية، وجلست وحدها تبكى. واستلقى هو على المصطبة ثائرًا ينتفض.. ولكنه لا يدرى هل يغضب على شيخ البلد، أم على المحكمة، أم على الشيخ تهامى الذى خانه بعد هذه العشرة الطويلة من أجل عجل هزيل. وعندما ذهب غيظه أخيرًا، وبدأ يهدأ، بدأ يتذكر الكلمات التى قالها للشيخ منذ قليل فى الحقل. فشعر أنها كانت أكثر مما يجب، وخاف على نفسه من غضب الشيخ وانتقامه. ولكن هل يمكن حقًا أن ينتقم منه الشيخ لكلمات أطلقها فى لحظة غضب، بينما هو يعرف جيدًا أنه أخطأ فى حقه؟
وهز عم رمضان رأسه، ثم تنهد، وقد اعتزم أن يصالحه غدًا على أية حال. ومن يدرى؟ ربما تكون للشيخ حكمة فيما حدث. إن الإنسان لا يعرف الغيب.. وفى الجامع يقولون إنه لو عرف الغيب لاختار الواقع.
ولكن، فى اليوم التالى ذهب عم رمضان مبكرًا إلى الحقل ليجد أن الشيخ قد سبقه وانتقم!
كانت هناك مساحة كبيرة من الذرة تقف عيدانها عارية تمامًا وقد سرقت منها كل الأكواز الناضجة. شىء لم يحدث قبل ذلك أبدًا فى أرض عم رمضان.. فكل الناس يعرفون أن الشيخ يحرس هذه الأرض، واللصوص يسرقون من كل مكان فى البلد إلا من هذا المكان. ووقف عم رمضان فى موضعه جامدًا كالحجر، ينظر فى تعاسة إلى زراعته التى يعرف الجميع أنها دائمًا أحسن زراعة فى البلد. إنها الآن خراب أمام عينيه. لو سرق اللصوص ذراعه لكان أهون. لو سرقوا إحدى عينيه لكانت تكفيه الأخرى، أما الذرة....؟
وأحس بنفسه ضعيفًا لا تقوى ساقاه على حمله، ولا يطيق أن ينظر إلى الخراب الذى أمامه. فاستدار منكّس الرأس ليعود إلى البيت.
وفى طريقه توقف أمام الكومة التى تغمرها الحشائش، وبقى صامتًا لحظات قبل أن يهز رأسه ويقول فى مرارة المهزوم:
- طيب يا شيخ تهامی! وكمان بتجيب الحرامية؟
وبلع ريقه. ثم لم يجد شيئًا آخر يقوله. فتنهد. ومشى يجر قدميه جرًا نحو البيت.
منذ ذلك اليوم بدأ عم رمضان يسهر فى الأرض ليحرس ما تبقى من الذرة. ولكنه لم يعد يكلم الشيخ تهامى. كان يشعر أن حاجزًا قد نشأ بينهما. وفكر أكثر من مرة فى أن يُصفى المسألة ويصالح الشيخ. ولكن نفسه كانت مصدوده عنه. والجرح الذى فى قلبه كان يدمى. وتصرفات أخرى كثيرة للشيخ- كان لا يهتم بها فى الماضى- بدأ الآن يلاحظها ولا تعجبه: فهو كثيرًا ما ينصر الظالم على المظلوم، وكثيرًا ما يُسلط الحمى على الرجال الطيبين لأقل هفوة فى حقه، بينما يسكت عن كثيرين يستحقون ضرب النار، إلى أن جاء موسم القطن وكانت زراعة عم رمضان كعادتها أحسن زراعة فى البلد. ولكنه صعق ذات صباح عندما نظر فوجد على بعض أوراقها لطعًا من دودة القطن. وعلى الفور مثلت أمام عينيه الصورة الرهيبة: صورة العيدان الجرداء، واللوزات المثقوبة من كل ناحية، وأنفار الجمع لا يخرجون برطل من كل قيراط. إن هذا لا يمكن أن يحدث! وتلفت حوله يبحث عن اللطع ويسحقها بيديه فى حقد وهـو يغلى. وفى تلك اللحظات وجد نفسه يهتف دون وعى:
- الحق يا شيخ تهامی! اعمل معروف! كله إلا الدودة.
كانت أول مرة يكلمه فيها بعد الخصام الطويل، وأحس بالحرج وهو يفعل ذلك. ولكنه ضغط على نفسه وراح يستعطفه:
- عيب تعمل فيا كده يا شيخ تهامی.. ده إحنا برضه جيران. أنا غلطت فيك معلهش. حقك عليا.. اعمل معروف.
ولكن اللطع فى اليوم التالى كانت أكثر..
- برضه لسه زعلان یا شیخ تهامی؟
ولكن الشيخ تهامى لم يكترث. وظلت اللطع رغم كل شىء تتزايد يومًا بعد يوم. ثم فقس البيض وظهرت الدودة الرهيبة مئات وآلاف من الغيلان الصغيرة الشرهة، لا تترك وراءها غير الحطب. وعم رمضان يطاردها بيديه وأسنانه. ويملأ منها زكائب يحرقها كل ليلة فى حفرة أمام البيت. ولكن بلا فائدة. كان زحفها لا يتوقف. ونداءاته للشيخ تهامی تذهب كأنما ينفخها فى قربة مقطوعة، إلى أن يئس منها فى النهاية. وأصبح يشعر وهو يردعها بأنه يضحك على نفسه. وأخيرًا ألغاها من حسابه. ونفض عن ذهنه كل أمل فى أن تنفعه.
وهكذا ضاع القطن أيضًا على عم رمضان. ولم يستطع أن ينقذ منه فى النهاية غير حوض واحد، طرد منه الدودة بالجاز والدخان..
وبعد أسابيع كان عم رمضان يحرث حطام زراعته من جديد ليزرع البرسيم.
وفى الشمس كانت حبات العرق تلمع بين تجاعيد وجهه وهو ينظر أمامه إلى الأفق البعيد ويغنى لنفسه أغنية قديمة، وسن المحراث يظهر ويختفى على الخطوط.. وكلما بلغ الربوة التى ينام فيها الشيخ دار حولها فى حذر متجنبًا أن يجرحها.
ولكن عم رمضان فيما يبدو غاب عن نفسه ذات لحظة، فانغرس منه المحراث دون قصد فى جانب الربوة. وتعثر الثور وقد أحس بالمقاومة المفاجئة للأرض المسلحة بجذور الحشائش منذ عشرات السنين، فتنبه عندئذ عم رمضان ووجد الربوة قد جرحت، وصرخ فى انزعاج:
- یا نهار أسود!!
وراح يفحص المكان الذى غاص فيه المحراث ليرى مدى الإصابة التى حدثت للشيخ. ثم وقف، واستند إلى المحراث لحظات یهرش رأسه.
وفجأة.. لمعت عيناه ببريق غريب. ووجد نفسه يندفع ضاغطًا بصدره وبكلتا يديه على المحراث، حتى غاص كثيرًا، كثيرًا، فى جنب الشيخ، ثم هتف بالثور:
- اطلع يابن الـ..
ولذعه بالسوط. فاندفع يمشى، ومن ورائه سن المحراث يشق الشيخ إلى نصفين!
وفى الصباح التالى صحا الناس فلم يجدوا أثرًا للشيخ.
وانتشر النبأ فى القرية كما ينتشر الحريق. وأصبح مؤكدًا أن عم رمضان سوف يصيبه العمى، وأن أرضه كلها سوف تبور. ولكن عم رمضان ظل سليمًا كما هو. وفى الموضع الذى كان ينام فيه الشيخ نبتت عيدان البرسيم كلها صحة، وقامتها أطول من كل جاراتها.. يراقبها فى اعتداد كل يوم والناس يذهبون ويجيئون ثم يهز رأسه ويقول:
- أمال. راجل كله غذا!
ويسمعه الناس يضحك فى تشف ثم يضيف:
- بإذن الله كل اللى دخل بطنه خرفان وعجول حايطلع على جتته برسيم وفول!
ثم ينهض نافشًا صدره. ويمشى ذاهبًا عائدًا على حافة الأرض كما يمشى المنتصر.