ناصر خليل يكتب: بابٌ مفتوحٌ للشمس
الصلاة خير من النوووووم.. الصلاة خير من النوووووم.
يوقظنى صوت المؤذن «رضوان» العذب، يمط كلمة النوم ما شاء له، يطربنى سماعها منه بداية كل صباح، أرفع بكسل الغطاء الثقيل عن جسدى الممدد فوق السرير النحاسى ذى الأعمدة التى فقدت لونها الذهبى وصار أخضر باهتًا، تتسرب برودة طوبة اللاسعة إلى رأسى، صدرى، ثم تغزو بقية جسدى حال كشفه تمامًا. لحظات تمر، أفكر فى شد الغطاء فوقى مرة ثانية والعودة إلى ما كنت عليه من نوم لذيذ لكنى أتراجع، أهب واقفا حين أتذكر موعدهم اليومى، أتساند على ما أقابله من أثاث وجدران حتى أصل الحمّام، أغتسل كما يجب.
تأخذنى قدماى على مهل إليه ككل يوم فى بداية الصباح، لم يبرح مكانه منذ أن أهدانى إياه من سنين الراعى المبتسم دائمًا، لم يترجل من صلبه حتى الآن، أجثو أمامه على ركبتى صامتًا خاشعًا، أنا لا أملك جراءة النظر فى عينيه اللامعتين، أطرق إلى الأرض المفروشة بحصير بلاستيكى متهرئ فقد لونه، أغمض عينى، يطفو ذلك السؤال كبقعة زيت فوق ماء..
هل أنت راضٍ عنى؟
«أبونا» القس الجديد لكنيستنا فى لقاء الأحد الماضى أخبرنى أنك لست راضيًا عنى وعما أفعله، وأننى يجب أن أتوقف عن أفعالى تلك، لمحت شيئًا غريبًا فى عينيه منعنى تصديقه، وصورتك خلفه على الجدار فى هيئة وادعة طمأنتنى. ليس «أبونا» وحده الغاضب منى ومن عملى، «أبوخاطر» العمدة الابن لا يكف عن القول «ازاى بنيامين الخواجة يعلم أولادنا القرآن؟»، نسى أننى أنا من علمته القرآن والقراءة والكتابة عندما كان صغيرًا.
أتنفس بهدوء، أدعو الله أمامه بما شاء لى من خير وهداية لى ولهم، ورحمات لزوجتى ورفيقة دربى المتنيحة «اودوميا» التى خذلتنى وفارقتنى لملكوت الله ولم تأخذنى معها.
أرفع صوتى فى تبتل:
يا واهب الحياة هلم طهرنا من كل دنس خلص أيها الصالح نفوسنا!!!
أضم إبهامى وسبابتى والوسطى فى نقطة واحدة، أرفعهم أعلى جبهتى، فأعلى بطنى ثم كتفى الأيمن فالأيسر، أقوم وأنصرف من أمامه راضيًا. لا دفء ولا ونس فى البيت بعدك يا «اودوميا».. لا طعم لكوب الشاى الذى أعده بنفسى ولا حتى الكسرات يرغبن فى مفارقة فمى الأدْرَدُ، الولوج إلى داخل حلقى، رغم طول مدة فراقها لم أعتد على العيش وحدى فى هذا البيت الكبير دونها.
فى الصالة الكبيرة.. كل شىء فى مكانه المعتاد منذ زمن، السبورة السوداء ذات البثور المنثورة على وجهها معلقة على الحائط وعليها بقايا حروفهم المتعرجة، الكروتيات الخشبية، الكراسات، بقايا أقلامهم الرصاص.. الكل صامتون كأنهم فى صلاة صباحية، يجهزون أنفسهم لمقابلتهم. كل هذا يشيع بهجة فى نفسى وما حولى.
أجلس فى مكانى المعتاد على كرسى خشبى قديم، أحمل ذلك الكتاب بين يدى، قشعريرة تسرى فى جسدى.
كتابٌ مباركٌ هو!!!
لا أكف عن النظر فيه- رغم أننى أحفظ كل حرف منه- كثيرة هى النسخ التى لمستها يداى وصافحتها عيناى لكن هذه النسخة أفضل؛ خطها واضح وكبير يريح عينى العجوزين عند القراءة، أنا ممتن لتلميذى النجيب الشيخ «حسن» إمام وخطيب مسجدنا العتيق فهو الذى قدمه هدية لى بعد عودته من الحج.
يعلو صوتى بالقراءة من وردى اليومى يملأ جنبات البيت:
بسم الله الرحمن الرحيم: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ».. صدق الله العظيم.
أقرأ ما تيسر لى، تهدأ روحى لكلمات الله، تهمى عيناي، أقوم، أفتح ضلفتى بابى القديم على مصراعيه، أتحامل على نفسى، أقف على العتبة، أنتظر وصولهم. الشمس تملأ الشارع والساحة، اقترب موعدهم. يتدافع الصغار فى جلبة وضحكات تتجاوب معها جدران بيتى، تهتز الصور والأشياء طربًا لسماع أصواتهم، وحركاتهم التى بددت الصمت الطويل.
- فليبارككم الرب!!
تتبدد كل هواجسى، يتوارى أبونا القس الغاضب وكذلك أبوخاطر وكل هؤلاء الذين لا يرضون عنك يا بنيامين، يهدأ خاطرى، لحظات يصخبون، ثم يجلس كل فى مكانه وأبدأ:
بسم الله الرحمن الرحيم
يصمت الجميع، يرددون ورائى، يقلدون كل حركة تخرج من فمى.
بسم الله الرحمن الرحيم
«يسّ.
يسّ.........
النور يفيض من حولى، أصواتهم المرددة للكلمات تبدد وحشتى، أستمر فى أداء مهمتى راضيًا وأواصل حياتى.