العالم أحد مقتنياتى.. خمسة نصوص جديدة لعبدالرحيم كمال «خاص»
- ومن الأدب أن تخلع نعليك وتسير حافيًا على رمال شاطئ بحرك الأمواج ألسنة البحر والإنصات لها فضيلة
- أنا الآن أبحث عن ذلك الطفل الذى كان يرى الله حنونًا وعادلًا وصبورًا وجميلًا
ثُعبان
كنت ثُعبانًا ضخمًا فى منطقة الأمازون
أزحف بحرية فى غابة ممتدة
الشمس كانت مفتونة بجلدى المرقط
تغازله فى كل مرة أزحف فيها بين فروع الأشجار عند الظهيرة
وأنا أتفادى أشعتها فى دلال يليق بثعبان بديع مخيف
ساعات طويلة أنتظر فريستى بعيون ضيقة يقظة
يخرج لسانى المشقوق للحظات ثم يعود لفمى
تدهشنى تلك الكائنات التى تسير على رجلين أو أربع
شىء مهين ومؤلم أن تكون لك أرجل
العظمة أن تزحف بعضلات مرنة ملتصقًا بالأرض
كلما اقترب الكائن من الأرض زادت هيبته
أستطيع أن أعصر قردًا صغيرًا
وأستطيع أن ألتهم أرنبًا بريًا كبيرًا
هؤلاء الذين يهرولون على أقدامهم كائنات تعيسة
تمامًا مثل تلك الكائنات التى تستطيع أن تطير وتحلق فى الهواء
كائنات حزينة بائسة
أعرف كما أنا فاتن وسريع وبهي
حذرنى فأر ضخم قبل أن أبتلعه من كائن يسير على رجلين منتصب القائمة
وها أنا ذا أراقبه بالساعات الطويلة
وها هو يُحدق فيّا أيضًا ويرسل من ماسورة يحملها شيئًا حارًا ملتهبًا
يقترب منى بسرعة مذهلة ولا أستطيع أن أزحف مبتعدًا بالسرعة الكافية
ليس لضعف فى عضلاتى
ولكن الفضول يجعلنى أنتظر ممددًا تحت الشمس فى أكثر لحظات حياتى بهاءَ.
العوّام
ستنطفئ الأنوار على أُناس لم يكن لهم وجود
سيُسدل الستار على خشبة مسرح لم يقدم عليها عرض قط
وسيُصفق جمهور لا وجود له بحماس منقطع النظير
الحفارون يحفرون قبورًا جديدة لأولئك الذين أجهدتهم الحياة
فقرروا أن يمضوا طواعية إلى قبورهم علهم يخلدون للراحة
على قضبان من وهم تجرى قطارات العمر إلى محطتها ليهبط ركاب مسرعين
الحقائب خالية تمامًا وثقيلة جدًا
وكأنها تحمل أسرار أصحابها
الحقائب التى يسلمونها فى غرفة الأمانات
الغرفة التى تنبعث منها موسيقى لأغنية تحكى عن الموعد الذى فات
والندم الذى لن يُفيد والعذاب غير القادر على عمل شىء
مسرح الأزبكية خال من «أم كلثوم»
و«أم كلثوم» فى قبرها
وصوتها ما زال يدفع الناس للحُب والحزن والملل
الموت يُزين الملوك بأقنعة من الذهب الخالص
والعامةُ يبحثون عن الأكفان وهم على قيد الحياة
فالدين والدنيا يحترمان الطبقية عند المصريين القدماء
والموت يسخر من الجميع عدا العوام
العوام أصحاب ألسنة طويلة قادرة على السخرية من الحياة والموت والملوك
العوام لا يخسرون شيئًا
العوام لا يكسبون شيئًا
العوام لا يموتون
العوام أحرار بلا بيوت ولا قبور ولا أدب
العوام يملأون الوجود
لأنهم لا وجود لهم.
سأصطاد نجمة
قالت الأم: إذا سهرت حتى الفجر
وأدركت سير النجوم من أول الليل
تستطيع أن تصطاد نجمة
ليال طويلة أسهرها على السطح
أراقب حركة النجوم
حركة بطيئة وحقيقية
تهتف جدتى لأبى: ها هُن بنات التبانة
قد ألقين بعصيهن ويجهزن لدخول كهفهن العجيب
اكتشف أنها تراقب النجوم معي
وأهمس لها فى حماس:
كيف أستطيع أن أصطاد نجمة؟
ترد ساخرة: أسأل أمك..
فقد اصطادت أغلى النجمات
وتشرد نظرتها للسماء
الليالى تمر والنجوم أيضًا
وأنا أظل على سؤالي
ضحكت أمى حينما نقلت لها كلام جدتى وقالت: سأعلمك.
كانت سهرة طويلة مُمتدة على سطح البيت
أنا وأمى وجدتى والنجوم
وثلاثتنا ننظر لأعلى
وأمى تهمس فى أذنى: حينما تتم النجوم خط سيرها.
انظر أنت إلى آخر نجمة فى الصف
وأغمض عينيك
وردد فى سرك فى صدق: يا نجمة.. يا نجمة..
إن كُنت سهرانًا لأجل أن أفوز بك
فلتسقطى فى حجرى
وإن كنت سهران لأجل أن أفوز بنورك
فلتسقطى فى قلبى
أغمض عينى وأردد
وجدتى تضحك وأمى تحذر: لا تفتح عينيك
وجدتى تسخر وتقول: أمك.. آه من أمك
وبعد وقت طويل أفتح عينى
ولا أجد نجمة فى حجرى
وقبل أن أغضب تأخذنى أمى فى حضنها وتهمس:
لقد سقط نورها فى قلبك دون أن تلحظ
أتحسس قلبى سعيدًا
وجدتى تعلو ضحكتها مُرددة:
صدقها.. صدقها
لقد اصطادت قبل ذلك أغلى النجمات.
صفقة
بالأمس اشتريت بحرًا جميلًا
لم يكن لدى المال الكافى لكى أشترى بحرًا تجرى على صفحته السفن
اكتفيت بشراء بحر تعلوه ثلاث غيمات وطائر وحيد يحلق
البحار تحتاج إلى عناية خاصة
تحتاج الى أن تنظر إليها مثلًا يوميًا من ثلاث إلى ثلاثين دقيقة
وتحتاج أيضًا إلى اهتمام بالأمواج
فهى كالقطط تحب التدليل والانتباه،
ومن الأدب أن تخلع نعليك
وتسير حافيًا على رمال شاطئ بحرك
الأمواج ألسنة البحر والإنصات لها فضيلة
لن أسمح لنفسى بالبناء على شاطئ البحر
ربما فقط كوخ صغير من خشب
أضع أمامه كرسى ومنضدة صغيرة للجلوس وقت الغروب وشرب الشاى وأنا أستقبل النسمات الطازجة
وأشعر بالامتنان التام لتلك الصفقة
التى دفعت فيها لحظات ثمينة من عمرى
مقابل شراء ذلك البحر الصغير
أنا ممتن لدرجة أننى أستطيع أن أغمض عينى ويسيل منها قطرات من مائة المالح.
لا تخف
كُنت طفلًا صغيرًا يبحث عن الله
والدى كان يبكى بمفرده بصوت عال وهو يقرأ القرآن
قلت: لا بد أن الله حنون
أمى كانت ترفع يديها بالدعاء وتدعو فى غضب على من كان السبب
قلت: لا بد أن الله عادل
وحينما كبرت قليلاً تعرفت على الشارع والمقاهى
سمعت ورأيت رجالًا ونساء يسبون الدين والله بلا خوف ولا تردد
قلت: لا بد أن الله صبور وشعرت بالرعب
فى نهر الشباب سبحت مُسرعًا
دون أن أرفع رأسى إلا لخطف نفس
أو اختلاس نظرة لله بطرف عينى ثم أكمل السباحة
غالب الشباب يهربون من الله كما يهربون من الأب والأم وكل سلطة
حنين جارف يجعلك ترتعش حينما يمر الأذان بصوت حنون بجوار أذنك
الموت يقترب من أهلى
أحمل نعش أبى على كتفى برفقة آخرين
وعلى باب القبر أوقن أن الله حى
وأن أنهار الجنة تجرى تحت أقدام أبى بعد أن نبعت من دموعه
يقطع الموت الحبل السرى الذى بينى وبين أمى
وعلى باب قبرها أرى الله يبتسم
حينما التقت عيناى بعينى ابنتى بعد ولادتها بدقائق
هتفت: إن الله جميل جدًا
فى المستشفيات أعرف أن الله رفيق وأنا أستمع إلى أنات من أنهكهم المرض
يا الله.. رحلة طويلة كنت فى أولها أبحث عنك
أنا الآن أبحث عن ذلك الطفل الذى كان يرى الله حنونًا وعادلًا وصبورًا وجميلًا
وكان الله حينها يهمس فى أذنى كل ليلة:
لا تخف فأنا أحبك.