الثلاثاء 03 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

طلعة رجب.. الرواية الأولى للشاعر الكبير إبراهيم عبدالفتاح

إبراهيم عبدالفتاح
إبراهيم عبدالفتاح

- فتحت حقيبة مستنداتى بحثًا عن عقد البيت فلم أجده، قلت لعلنى وضعته فى مكان آخر

من دون قصد، وبإغماضة عين حكها شال امرأة تشبهك، وجدتنى هناك عند أول قصتنا، لمعة فى عينيك حين التفاتك لى وأنت على أول الدرج المؤدى لخشبة المسرح، دهشتى لروعة أدائك دور القاتلة، عاتبت نفسى بعضة فى اللسان، بعودة خاطفة على أثر غصة فى الحلق، كيف لم أدرك حينها بأنى القتيل، ونهضت بكل حماقة أصفق لك، بينما كان دمى يسيل بغير ألم أو خدش يذكر، على كل حال صرت فيما بعد أصدق ذلك الفارق بين الشاعر والممثل، لكنى وبنفس الحماقة عشت أحدق فى الفضاء بحثًا عن قصيدة طازجة، فلما عدت كانت قد سرقت الأرض من تحتى، سرقت البيت، لو أنه بيدى لأوقفت عقارب الزمن قبل تلك الساعة التى التقيتها، أو فى أقل تقدير كنت اعتذرت عن كتابة الأغانى لتلك المسرحية، فقد كانت هناك مسرحية أخرى حقيقية تدور فصولها على الهامش وفى الكواليس، مسرحية عنوانها الحب والضى وحدها بطولتها المطلقة، أما المسرحية الحقيقية فقد كان ينبغى أن تلعب بطولتها منة وهى إحدى نجمات الصف الأول بمشاركة أحمد مرزوق نجم الكوميديا آنذاك، لكنى حين عدت من سفرتى لأسوان، والتى طالت عن موعدها بعض الوقت ذهبت للمسرح ليلًا؛ لأتفقد ما وصلت إليه البروفات فلم أجد أحدًا أعرفه عدا المخرج، ولكن أين منة وبقية الأبطال؟ سألته فأجابنى: لقد اعتذرت ثم لحق بها أحمد، قلت: ومن البديل؟ أشار للجالسة عن يمينه، وقال: ضى هى البديلة، ضى، ومن تكون ضى، أجابت وهى تقاوم أن تنعتنى بالجهل، امنحنى فرصة يا أستاذ ربما أعجبك، أثناء تسجيل أغانى المسرحية، ادعت ضى أنها لا تمتلك مهارة إخراج سيارتها من موقف أسفل الاستديو، تطوع رحيم بالطبع، حين أدار المحرك انطلقت من المسجل أغنية تخصه، فمررها وظل يفعل ليكتشف أن كل أغانى الألبوم تخصه، عندما خرج بالسيارة إلى الطريق، سألها: من الذى جمع هذه الأغنيات من شتاتها، قالت: أنا يا أستاذ، تصدق أنى معجبة بشغلك من زمان، ومعجبة بكل ما تكتب، لا بأس سنعرف كل شىء فى حينه.

كزهرة فريدة كل من مر بها استعملها ومضى حتى رأتنى، هادئًا وديعًا ميسورًا إلى حد ما لا بأس به، حشدت أسلحتها وقررت الغزو، يكبرها بعمرين، قالت: يبدو صغيرًا توددت واقتربت أكثر، كان صادقًا: تزوجت من قبل، قالت: لا يضير الرجل تجربة وفشلت سننجح سويًا، قال: لدى طفل وأضافت: هو ابنى، وزعت المهام، الأم تعترض، الأب يهدد، الأصدقاء ينصحون لا تقترب أكثر، فى العناد تكبر المشاعر، قال لأمها وأضاف: أعرف أنها ثروتك، رصيدك الذى ادخرته، عوضًا عن زوج أهانك بل وخائن، كل الرجال خائنون: قالتها وهى تتحسس دفتر الشيكات: كم تريد وتترك ابنتى، أعرفها جيدًا هى فقط تشتهيك، أنت لا تعرفين قدرها، التقينا، قالت: سأمنحك عشر سنوات، ستكون الأب والزوج والحبيب، صفقة معقولة، لم أدرك فجاجة المساومة، تلك التى تدربت عليها جيدًا فى حظيرة الأهل، كل شىء له ثمن، زارت وصلت وزكت وترحمت ودعت واستخارت، فكان من نصيبها، امرأة تأتيك فى آخر الليل، خلفت أهلها وراهنت عليك هل تردها؟ أثاث مؤقت فى بيت مؤقت سينتقلان فيما بعد لبيته لمدة عام ويزيد، سهر على إعداد البيت تفنن فى جعله رحبًا وهادئًا وجميلًا حتى يليق بها، حملت، وعدها بالعودة من المشفى بطفلهما إلى بيتهما الجديد، طلب أن تحضر أسرتها، احتفى بوجودهم، أولئك الذين حقروه وأهانوه، الآن يبتسمون فى وجهه ولا يكفون عن عبارات الإطراء، جاء الطفل كل شىء إذن حضر، تهامسوا: سنضع الطفل على رأسه حتى لا ينظر إلى الوراء، قال: هناك طفل آخر، قالوا: تدخل به الجنة، وأضافت إنه روحى، مر أسبوع وأسابيع ولم يرحلوا، ظلوا فى أماكنهم، البيت يتسع للجميع، نصعد له بدرج واحد بالضرورة ذلك أفضل من صعود ستة أدوار، سنبقى، قالوا وأضافوا: لا تنتظرى أكثر، قالت الأم: فى غمرة الفرح اقتنصى البيت، ليكن باسمك وانصرف الأب فى مهمة ملائكية، قال: يمكنك دفع مقدم بسيط لشقة صغيرة ستملكها مع الوقت وامنحها لطفلك الآخر، قال: يا الله كم هم طيبون، أهدرت الوقت ولم أمنح روحى فرصة حقيقية لأعرفهم عن قرب.

لا أستطيع أن أنسى ذلك اليوم حين هاتفتنى ضى وهى فى طريقها لمكان التصوير: رحيم أنا تركت البيت وليس معى سوى حقيبة صغيرة بها بعض الملابس، سأنتظرك مساء عند انتهاء التصوير، ولا تنسى أن تصطحب معك المأذون والشهود، المكان آخر ترعة المنصورية ستدركه ببساطة من عربات التصوير، أسقط فى يدى ولم أعرف ماذا أقول، فكم أكدت عليها مرارًا أننا لن نتزوج دون موافقة أهلها وقبل أن أبدى اعتراضًا، أضافت: لست صغيرة ويحق لى الزواج دون موافقتهم، بدورى هاتفت عادل النجار، فهو أكثر أصدقائى زواجًا وطلاقًا وبالضرورة لديه مأذون ملاكى، فأخبرنى بسعادته بالخبر ومباركته، وأنه سوف يصحب معه زوجته، هاتفت أيضًا صديقى السيناريست ربيع عبدالرحمن ليكون شاهدًا ثانيًا، التقينا أمام مكتب المأذون بحى العجوزة ثم انطلقنا نحو المنصورية، حين وصلنا كان جميع من فى المكان على قدم وساق يترقبون نهاية المشهد الأخير، حيث كانت ضى تغسل يديها من دماء حبيبها الذى طعنته للتو، ثم تحاول محو بصماتها من على الجثة والسكين ثم تتوجه للكاميرا بابتسامة صفراء وهى تدير قرص الهاتف لتبلغ الشرطة عن جريمة قتل بحق خطيبها، لكن المخرج أوقف التصوير وطلب إلى الماكير أن يقطر الجلسرين بعينيها وسرعان ما استأنف المشهد وراحت ضى تنوح وتولول باكية وهى تتمدد فوق الجثة، انتهى المشهد بتصفيق حاد وتهنئة حارة لضى على إتقان دورها، حتى أنا صفقت لها بحماس، عانقتنى ومن ثم راحت تبدل ملابسها، داعبنى النجار، قائلًا: الثانى، وكان يقصد الزواج الثانى بالطبع، ضحكت وأنا أرد مداعبته، أتمنى أن يكون الأخير، بسط المأذون أوراقه حين عادت ضى وتبعها بعض نجوم العمل وبعض المساعدين، سألها المأذون: طلباتك يا عروسة، اعتدلت ضى فى جلستها وراحت تعدد طلباتها: المقدم خمسون ألفًا، الشبكة لا تقل عن المقدم والمؤخر أيضًا، وأن يكتب البيت باسمى وسيارة تليق بمقام الزوجة، كانت إنسانة أخرى غير التى عرفت، والتى ظننت أن أهلها عثروا عليها أمام باب مسجد، فهى لا تشبههم فى ملامحهم ولا طباعهم، خلعت وجه الملاك، وكأنما نهضت من جانبى وجلست بمقعد العائلة، مر شريط علاقتنا لثلاث سنوات وكأنه ثوان معدودة، قلت فى نفسى: أحدهم استبدلها بالضرورة فليست هذه فتاتى، نهضت من مكانى باتجاه حمام السباحة وألقيت نفسى به؛ كى أفيق من الصدمة، غصت بالمياه طويلًا بينما تتناهى لأسماعى ضفيرة أصوات الحضور، حين أخرجت رأسى كانت دائرة من وجوه تحاصرنى، استندت إلى رصيف المسبح ثم نهضت بينما ينهمر شلال مياه من جسدى وملابسى، تمددت شاخصًا للسماء وأنا أسأل المخرج: هل أعجبك المشهد يا أستاذ؟ جلس النجار عن يمينى وزوجته عن يسارى ووقف بينهما المأذون يرددون عبارة واحدة وكأنهم فريق كورال: الشروط دى فى حالة الطلاق وانتوا حبكم أكبر وأبقى، كانت ضى تبكى بحرارة، وكأنى أنا الذى خنت توقعاتها، ظل الكورال يردد نفس جملته واجتهد البعض فى إضافة جمل جديدة، دى باعت أهلها واشترتك، ثم اقتربت منى وهمست: كتير عليا؟ فقلت لها: كتير عليا أنا وأضفت: اطمئنى سأوقع الأوراق وما بالقلب بالقلب. ليفوز كل برهانه يا ضى.

شروع فى قتل

كمن يقطف ثمرة دون نضجها توقظنى ضى دائمًا، لكن هذه المرة استنهضتنى بوجه عابس، قلت: خير يا ضى؟ قالت: أحتاج مبلغًا يكفى لشراء هدية ثمينة، فاليوم عيد ميلاد هدى، ويكفى أيضًا لأجر الكوافير، قلت: لكنك تعلمين أننى شبه مفلس حتى موعد الدفعة القادمة، قالت: اتصرف، نهضت عن سريرى وفى دقائق كنت انتهيت من ارتداء ملابسى وتوجهت لمنزل حامد عبدالعظيم، فقد كنا بصدد وضع الأغانى الخاصة بأحد المسلسلات، حيث جرت العادة أن يصرف للملحن دفعة بداية حتى يشرع فى وضع الألحان، اقترضت منه مبلغًا سيقطتعه من أجرى فيما بعد، حين عدت أعطيته كاملًا لضى، كانت على أهبة الخروج فانصرفت، لم أستطع بالطبع أن أعود للنوم، فقررت أن أخذ حمامًا وأخرج ولما لم أجد مناشف بالحمام رجعت لغرفة النوم فتحت خزانة الملابس وجذبت منشفة فانزلقت كمية أوراق نقدية من عملات مختلفة كان بينها اليورو، الذى أحصل عليه من جمعية المؤلفين والملحنين، هالنى ما رأيت واندهشت من ادعاء ضى نفاد المبالغ التى أعهد لها بوضعها بالبيت، لملمت المبلغ ووضعته مكانه ثم أخذت حمامى وارتديت ملابسى وانصرفت، ما هى إلا أيام قليلة حتى عاودت ضى طلبها المال، فأخذتها من يدها حتى الخزانة، وأشرت لها عن مكان النقود: خذى ما يكفيك منها، ارتبكت وتلعثمت قبل أن تتدارك الموقف: بأمن نفسى أنا وابنى، فسألتها: وأنا من أكون، فأضافت: أمى قالتلى نفضيه أول بأول، أدركت أن بيتى يدار من الإسكندرية وأنها عادت لأحضان الأهل، والتى طالما ادعت قبل زواجنا أنها تأتمننى على حياتها أكثر منهم. 

استيقظت ذات صباح على غيابها، فتشت البيت ولم أعثر لها على أثر، هاتفتها غير مرة ولم ترد، لا بأس سوف تظهر على أى حال، فى المساء هاتفتنى أمها: ضى غضبانة عندنا فى إسكندرية، قلت: ما الذى أغضبها؟ قالت: أنت تعرفها لا تبوح بشىء، وأكملت: هاتلها حتة دهب هدية وتعالى صالحها، حقيقة لا أعرف سببًا لغضبها ولن أحضر دون معرفة السبب ومناقشته، مرت أيام وأيام ولم تعد ولم تجب على هاتفها حتى حدثتنى ساندى صديقتها وكررت كلام الأم بخصوص الذهب وخلافه من هدايا، قلت: هى بجانبك لا شك فأعطها الهاتف، غابت لدقائق ثم تحدثت ضى: من الآخر أنا مش حاسة بأمان وأنت عارف أن كل أموالى أخذها أهلى عقابًا لى على زواجى بك دون موافقتهم، حتى السيارة أخذوها، قلت: نعم وأنا من طلب منك ذلك، ثم ما هى طلباتك حتى تشعرين بالأمان؟ قالت دون تردد: اكتب لى نصف البيت، قلت لها: من عينى إذا كان هذا سيوفر لك الأمان، فى صباح اليوم التالى جاءت بصحبتها أسرتها، استيقظت على نحيبها، فربت على كتفيها واحتضنتها: سأكتب لك البيت كاملًا، اعتراها الذهول فقبلت يدى، وقالت: لم أكن أتخيل حتى إنك ستوافق بنصف البيت أنت حقًا إنسان كريم، فتحت حقيبة مستنداتى بحثًا عن عقد البيت فلم أجده، قلت لعلنى وضعته فى مكان آخر بحثت وبحثت دون جدوى ولم أفطن يومها أنهم سرقوا العقد حتى يتفادوا توصيفه بنقل الملكية، ذهبت لصاحب البناية فى الشقة المجاورة، حيث جعل منها مكتبه، وطلبت منه صورة العقد، لكنه لم يجدها، سألنى لماذا تريدها؟ فأخبرته بنيتى، فقال: سامحنى لو تدخلت فى أمور تخصك وحدك، لكن يا أستاذ رحيم سيضيع حق ابنك الآخر، فأجبته: أنا أأتمنها عليه، فقد وعدت أنها ستدخل به الجنة قبل أن يجيبنى اقتحموا علينا المكتب، وبادره الأب: ما الوضع أستاذ حسام، قال الرجل: سنكتب عقدًا جديدًا ويكون الأستاذ رجب شاهدًا عليه وقد كان، كتبت لها البيت بأثاثه وأجهزته دون شرط وظننت أننى بهذا قد ملكت قلبها، غير أن الرياح تأتى بما لا أشتهى، فقد تغيرت ضى تمامًا تنمرت واستأسدت ولم تعد تهتم بأشيائى أو غيابى أو حضورى وإمعانًا فى إذلالى حرضت الخادمة على عصيان أوامرى ثم تعهدت بمشاركة أمها والخادمة بمضايقة ابنى عامر، لم يخبرنى عامر بأى تفاصيل، لكنى مع الوقت لاحظت انسحابه وانطفاءه وزادت ضى الطين بلة حين أخبرتنى بأنها ليست مضطرة لخدمته أو مراعاته، فما كان منى إلا أن نقلته لبيت أمه وتكبدت عناء ذهابه وعودته من وإلى المدرسة والبيت، كان على أن أستيقظ فى الخامسة لأستقل سيارتى لحى المهندسين، حيث تسكن أمه، ومن ثم العودة به لمدرسته بالمقطم، ثم أعود به من المدرسة للبيت حتى تمكنت من نقله لمدرسة بحى المهندسين، تمادت ضى فى تجاهلى، بل وصدى كلما حاولت الاقتراب منها، عاتبتها معترضًا على تصرفاتها، وهل هذا جزاء ما قدمته من تنازل، لكنها أجابتنى بيقين: ضى اللى كنت تعرفها ماتت، لم تكن بحاجة لهذا الاعتراف فقد ماتت تمامًا، نقلت معيشتى لحجرة الأولاد مضت الشهور دون أدنى محاولة منى لاستمالتها، فقد كفرت تمامًا بها حتى حين بادرت وكثيرًا ما فعلت لم أكترث، انشغلت عنها بوحدتى وأسئلتى الوجودية، ثم ما لبث أن حدث الحراك السياسى، فغرقت بالهم العام ناسيًا كل ما يخصنى، منحتها كل الأمان الممكن فسلبتنى حتى أمانى الشخصى، وكنت كلما رجعت إلى البيت أتفقد صلاحية مفتاحى، نعم عشت مهددًا أخشى ما أخشاه أن تغير ريتاج البيت، بل كنت أخشى أن أمد يدى لوجبة قامت بإعدادها فقد وصلت من الجحود ما يجعلها تفكر فى دس السم فى قهوتى أو عشائى، كنت أذهب للبيت فقط من أجل النوم لساعة أو ساعتين على الأكثر وأخرج حين أفيق إلى مقهى قريب أفتح حاسوبى وأكتب فقط أكتب حتى آخر الليل، صارت الكتابة ملاذى بل وهروبى من وحدة قاتلة.