السبت 02 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

49 سنة خلود| الصدمة.. ثروة الوطن تعود إلى الوطن والأحزان تنتظرها!

أم كلثوم
أم كلثوم

فى عددها الصادر يوم الأربعاء 30 سبتمبر 1953 نُشر بمجلة «آخر ساعة» تحقيق بديع للكاتب الصحفى والشاعر الغنائى جليل البندارى، يغطى فيه حدث عودة أم كلثوم إلى أرض الوطن، وكان المقال بعنوان «ثروة الوطن تعود إلى أرض الوطن»، وفيه أكد البندارى أن الطائرة التى تحمل أم كلثوم قد هبطت إلى أرض المطار فى الساعة الخامسة والنصف من صباح يوم السبت الموافق 26 سبتمبر، وقد بدأ طريق المطار من الساعة الثانية ليلًا يزدحم شيئًا فشيئًا بالسيارات التى تحمل أفراد الشعب من جميع الطبقات، ومنهم الفنانون والفنانات والصحفيون الذين سهروا طوال الليل لاستقبال أم كلثوم.. وقبل وصول الطائرة بدقائق سمحت إدارة المطار لأقاربها وبعض الصحفيين باستقبالها عند سلم الطائرة، وخلع أفراد أسرتها الكرافتات السوداء التى كانوا يلبسونها حدادًا على الأستاذ خالد إبراهيم شقيقها لكى لا تلحظ شيئًا وتنلقب فرحة الاستقبال إلى بكاء ونحيب.. ومع أسرة أم كلثوم والصحفيين وقف عند سلم الطائرة موظف من السفارة الأمريكية بالقاهرة، لينفذ أوامر السفارة بأن يعطى أم كلثوم خطابًا من السيد جيفرسون كافرى السفير الأمريكى بمصر، الذى يهنئ «ثومة» بسلامة الوصول ويعبر عن سعادته الكبيرة لأن أم كلثوم قد تم شفاؤها فى أمريكا.

الزوجة التي نسيت زوجها

لم ينس جليل البندارى أسلوبه المبهج البديع فى الرواء، فقد قال إن الصباح بدأ يزحف على أرض المطار ونزل مع أم كلثوم عشرات المسافرين، وكان بجانب أم كلثوم السيدة سعدية ابنة أختها والدكتور أمين حسن الذى يشرف على علاج ثومة ويلازمها طوال الرحلة.. وكان من بين المستقبلين السيدة حرم الدكتور أمين حسن التى جاءت تستقبله بعد غيابه عنها عدة أشهر، وما إن رأها زوجها حتى تقدم نحوها فاتحًا لها ذراعيه، وفى هذه اللحظة لمحت زوجته أم كلثوم، فتركته وجرت إليها لتصافحها مع جموع المستقبلين.

لماذا لم تسأل عن أخيها؟

هنا يؤكد البندارى ما ذكرته، وهو أن أم كلثوم كانت تشعر بموت أخيها.. فقد روى أن جميع الركاب قد دخلوا من باب، وأم كلثوم قد دخلت من باب خاص فُتح لها وحدها، وفتح لها صالون المطار، وفيه كان يقف أفراد أسرتها واضعين أيديهم على قلوبهم خشية أن تسأل أحدًا منهم «أين خالد؟».. ولكنها لم تفعل.. لعلها كانت تحس بتلك الفجيعة فلم تشأ أن تسألهم كى لا تصدمها الإجابة.. أو ربما ظنت أنه على سفر أو مريض أو أبعده أى سبب عن استقبالها، فلم تشأ أن تحرجه فى غيابه بالسؤال عنه.. ومرت اللحظات العصيبة التى تحطمت فيها أعصاب أفراد الأسرة بسلام، واستقل الجميع السيارات إلى فيلتها بالزمالك، وهناك تناول جميع المستقبلين من الأهل والأقارب والأصدقاء طعام الإفطار.

«أمرك يارب»

على الرغم من أن كل سيدات الأسرة قد خلعن ثياب الحداد، وأزيلت كل آثار الحزن من البيت.. وعلى الرغم من أنه لم يستطع أى إنسان أن يخبرها بالنبأ.. فقد عرفت بذكائها كل شىء.. لم تسمعه بأذنها.. لكن روحها استشفت رحيل خالد.. فامتلأت عيناها بالدموع ونهضت إلى غرفتها وظلت تبكى حينًا.. تم تذكرت أن فى البيت ضيوفًا، فعادت إليهم وهى تبتسم، وأخذت تداعبهم وتضاحكهم وتبادلهم ويبادلونها أحدث النكات فى مصر وأمريكا.. وظلت طوال النهار تستقبل زائريها بابتسامة مشرقة حينًا ثم تتركهم لتختلى بدموعها حينًا آخر.. وتجلت شخصية أم كلثوم عندما فاجأتهم هى بالنبأ وقالت: «أمرك يا رب».. وهنا انفجر كل أفراد الأسرة فى البكاء.. فبدأت أم كلثوم الغارقة فى الحزن تحاول أن تزيل عنهم الحزن.

سر الفستان الأسود

إن الحزن العميق الذى ملأ قلب أم كلثوم لم يستطع أن يغير طبيعتها كفتاة مرحة لا تمسك لسانها عن نكتة ضاحكة خطرت على بالها، واحتار زوارها فى البيت وهم يرونها هكذا.. فقد اختلط عليهم الأمر.. هل علمت بوفاة شقيقها أم لا؟ ولكن الفستان الأسود الذى ارتدته بعد نصف ساعة من وصولها إلى البيت هو الذى قطع بأنها قد عرفت.. وأنها بتلك النكات المرحة لم تشأ أن تغير الجو إلى حالة حزن ونحيب.

الأصابع الرهيبه

روى جليل البندارى أن أم كلثوم قد قالت له إن الأطباء المعالجين لها فى أمريكا أكدوا لها أن العلاج بالإشعاع الذرى سيسبب لها بعض الآلام، وكلما اشتدت تلك الآلام كلما اقترب الشفاء.. ثم بدأ العلاج.. وفى إحدى الليالى استيقظت أم كلثوم على يدين قويتين تضغطان على عنقها بقسوة حتى كادت تختنق، وكانت ليلة رهيبة مضنية لم تشهد أم كلثوم لها مثيلًا فى حياتها.. فقد استبد بها الألم وصبرت عليه واستقبلته بفرحة شديدة، لأنها كانت تعلم أن تلك الأصابع الرهيبة التى تخنقها هى أصابع الشفاء.. وفى تلك الليلة كتبت النهاية السعيدة لقصة الآلام المبرحة التى ظلت «ثومة» تعانيها عدة سنوات.

أم كلثوم فى الكونجرس الأمريكى

فى فترة العلاج أبدت أم كلثوم رغبتها فى حضور إحدى جلسات الكونجرس الأمريكى، واستقبلها رئيس مجلس الشيوخ الأمريكى بحفاوة بالغة، وهو الرجل الثانى بعد الرئيس الأمريكى إيزنهاور، ودعا الرجل بعض الأعضاء من مجلس الشيوخ ليجلسوا معها فى غرفته، وكان يقدم لها كل فرد منهم.. وروى لهم القصة التى صنعتها هذه الفلاحة العبقرية التى جاءت من قلب ريف مصر لتشعل بشخصيتها العبقرية وقتها الثورة فى قلب شعب بأكمله.

مصر فى حاجة إلي كل دولار

اختتم البندارى تحقيقه بأن أم كلثوم قد سافرت إلى أمريكا وحصلت على مبلغ كبير من الدولارات يكفى لرحلتها وعلاجها.. وقد فعلت أم كلثوم ما لم يفعله مصرى فى الخارج من قبل.. إذ أعادت جميع الدولارات التى تبقت معها إلى الحكومة المصرية قبل قيامها من أمريكا.. وقالت للبندارى: لو تبقى معى دولار واحد فقط لأعدته إلى الحكومة المصرية لأنى أعلم أن مصر فى حاجة إلى كل دولار.

طرائف الحدث من زوايا أخرى

كان هناك مندوبو صحف ومجلات أخرى غير «آخر ساعة»، ومنها مجلة الإثنين التى غطت الحدث فى عددها الصادر بتاريخ ٢٨ سبتمبر، وقد كتب الصحفى مرزوق هلال تقريرًا وصف فيه كل وقائع الحدث مع صور قيمة فى مطار القاهرة.. فقد كان المحرر من أوائل من وصلوا إلى المطار فى منتصف الليل ومعه أفراد فرقة أم كلثوم، الذين حضروا فى نفس الموعد مع علمهم بأن الطائرة ستصل فى الخامسة والنصف صباحًا، ورصدت كاميرا مجلة الإثنين صورة لعازف الناى سيد سالم وقد غلبه النوم وهو جالس فى انتظار كوكب الشرق، وأضاف المحرر أن «ثومة» راحت تُحيى مستقبليها بروحها المرحة وظرفها المعهود، وفى صالون المطار لاحظت أن وكيل الإذاعة الأستاذ على خليل منهمك فى الحديث مع الموسيقار محمد القصبجى، فقالت له مداعبة:

ــ جرى إيه يا على؟ ده قصبجى.. مش قصبجك!

واكتظ صالون المطار بالمستقبلين مما اضطر بعضهم للوقوف خلف نوافذه وفى الردهة المؤدية إليه.. ونظرت أم كلثوم خارج النافذة المقابلة لها فرأت أحد جمهورها المعروفين وهو تاجر كبير، وكان يقف بين سورين من حديد النافذة وهو يحييها ويهنئها بسلامة الوصول، فقالت له على الفور:

ــ أهلًا يا حاج حافظ.. يعنى جاى من بين السورين هناك، تقوم تقع هنا بين سورين تانى؟

حصار من الكرماء

أكدت «ثومة» لمجلة الإثنين أنها وصلت إلى أمريكا فى ٥ مايو ١٩٥٣ وفى اليوم التالى دخلت مستشفى البحرية الأمريكية، وأمضت به شهرًا كاملًا تخضع للتحاليل والأبحاث اللازمة للعلاج، ثم أخذت تتردد على المستشفى مرة كل أسبوع حتى اكتمل الشفاء فى ١٤ سبتمبر.. ومنعها نظام العلاج من مغادرة واشنطن وأيضًا بسبب حصار الكرماء من حولها، وكان أولهم الأطباء الأمريكان الذين شملوها برعايتهم الشديدة وقدموها إلى أسرهم وأقاربهم.. وأيضًا حاصرها بكرمه سفير مصر الدكتور أحمد حسين ومعه السيدة قرينته وكل أفراد الجالية العربية هناك، فقد كانت ولائمهم تلاحقها، وكل فرد قابلته هناك كان يعد نفسه مسئولًا عن صحتها وسعادتها.. وردًا لكرم الأطباء المعالجين فقد أكدت أم كلثوم أنها كانت تقوم أثناء فترة العلاج بطلب الهدايا الشرقية من مصر لتهديها إلى فريق الأطباء، وكان لذلك أثر طيب فى نفوسهم.

حفل غنائى فى واشنطن

أكدت كوكب الشرق أن الجالية العربية فى واشنطن بعدما اكتشفوا وجودها والتقت بهم وغنت لهم، فقد طلبوا منها أن تحيى حفلًا فى واشنطن مقابل أى أجر تحدده، وقد رفضت ذلك بشدة، ورأت أن من واجبها نحوهم أن تغنى لهم ما يشاءون فى جو عائلى كانت تسهم فيه حرم السفير المصرى، وكانت إذا دعيت إلى أحد البيوت لتناول الشاى أو العشاء، فبعد ذلك يديرون أسطوانة من إحدى أغانيها، وفجأة تتوقف الأسطوانة، وبهذا تجد «ثومة» نفسها مضطرة إلى إكمال الأغنية بنفسها بدلًا من الأسطوانة، وأكدت أن تلك كانت مقالب أمريكانية، وكانت تحسب أن المقالب تصنع فقط فى مصر.. وفى عيد الأضحى خرجت مع الجموع رجالًا ونساءً لتصلى العيد فى جامع واشنطن.

كرموا الفن المصرى فى شخصى

ونختتم رحلتنا بسرد بعض الوقائع من زاوية أخيرة غطت الحدث، وهى حوار مع أم كلثوم أجراه الكاتب والمفكر الوزير فتحى رضوان ونُشر فى مجلة الكواكب بتاريخ ٢٩ سبتمبر ١٩٥٣، حيث أكدت له «ثومة» أن العلاج بأكمله لم يكلفها مليمًا واحدًا، فقد رفض الأمريكيون أن يتقاضوا أى أجر، وكانوا كرماء معها لأبعد الحدود، وكرموا الفن المصرى فى شخصها.. وعنما دخلت المستشفى وجدت فريقًا من الأطباء لبحث حالتها، وكان أول من خرج من الاجتماع الطبيب الجراح الذى قال لها مبتسمًا: من سوء حظى أننى لن أساهم فى علاجك، فحالتك لا تحتاج إلى الجراحة، وبعده خرج إخصائى القلب واعتذر ضاحكًا، وهكذا حتى بقى طبيب واحد الذى عالجها بالذرة وقال لها: أنا طبيبك يا سيدتى.. وكان الطبيب المداوى.. وأكدت أم كلثوم أنها غنت فى المستشفى بصوت خفيض.. ثم غنت فى الفندق الذى انتقلت إليه بعد أن تكالب على سكنها الخاص الكثير من الجاليات العربية، وقد أسعدتهم بالغناء وهى تحت العلاج، وحين طلبوا منها إقامة حفل بمبلغ خيالى رفضت، لأنها شاءت أن تسعدهم دون مقابل، وأيضًا لأن الحفل يتطلب بروفات ولم يكن ميسرًا لها طلب موسيقيين من مصر، مع تحذيرات الأطباء الذين رأوا أنها ثروة مصرية وسوف يعوق الغناء والبروفات خطوات العلاج. بقى أن نؤكد أنه رغم الفرحة الكبيرة بشفاء أم كلثوم، إلا أن الحزن على فراق أخيها ظل بقلبها، وظلت فى فترة حداد نفسى طويلة، وظهر ذلك عندما ظلت مرتدية الفستان الأسود، حتى عندما غنت لأول مرة بعد الشفاء فى العام التالى فى حفل ٧ يناير ١٩٥٤ كانت ترتدى فستانًا أسود.