الإثنين 02 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أسرار العام المجهول فى حياة أم كلثوم

49 سنة خلود| قصة الأغانى الممنوعة لـ«الست»

كوكب الشرق
كوكب الشرق

عُرفت كوكب الشرق بحرصها الشديد على اختيار الشعراء قبل انتقاء الكلمات أو الأغانى، فلعلها تطوف بحدائقهم وتنتقى من شاعر منهم أغنية وحيدة، وعلى سبيل المثال غنت للشاعر المبدع أحمد فتحى «قصة الأمس» فقط، وبرغم أسلوبه المعجز ومفرداته الشعرية البديعة فلم تغن شيئًا آخر له.. كذلك الملحنون، فقد كانت بخبرتها تعلم مساحة الإبداع عند كل منهم، وتعرف أسلوبه فى التلحين، وما يستطيع أن يأتى به من جمل موسيقية وزخارف لحنية.. إذن لم تكن تبدأ فى بروفات أغنية إلا وهى على اقتناع تام بكلماتها ولحنها، وأنها ستصبح دُرة تضاف إلى روائعها. 

يجد الباحث فى مسيرة أم كلثوم الفنية أنها منعت بنفسها أغنيتان لها، كانت أولاهما «الخلاعة والدلاعة مذهبى»، عندما انزلقت ثومة وهى فى بداياتها إلى منحنى الأغانى الهابطة، وقت أن كانت موجة رائجة عامت فيها الست منيرة المهدية ورتيبة أحمد ونعيمة المصرية وغيرهن من المطربات، وكان سبب تلك الموجة هو الشاعر يونس القاضى، الذى رأت الحكومة آنذاك تعيينه رقيبًا على قلم المصنفات، فكان أول قرار اتخذه هو منع كل تلك الأغانى الهابطة، وقد كانت كلها أغانيه، وكانت أم كلثوم قد غنت من كلماته وألحان أحمد صبرى النجريدى «الخلاعة والدلاعة»، وسجلتها على أسطوانات أوديون.. وهنا استفاقت مع الفريق المسئول عن رسم صورتها ومسيرتها، فقررت سحب الأسطوانة من الأسواق ودفع تعويض للشركة، وسارع الشاعر أحمد رامى بتأليف كلمات جديدة على نفس اللحن لتصبح «الخفافة واللطافة» بدلًا من «الخلاعة والدلاعة».

أما الأغنية الثانية التى منعتها أم كلثوم فقد كانت «غريب على باب الرجاء».. وحدث ذلك فى منتصف الخمسينيات، عندما عرض الشاعر المبدع طاهر أبوفاشا على الإذاعة المصرية صورة غنائية أو برنامجًا غنائيًا بعنوان «عازفة الناى» أو «رابعة العدوية» وأُجيز البرنامج فى الإذاعة لروعته، وتم تكليف المخرج الإذاعى عثمان أباظة بإخراجه، وتم عرض الفكرة على السيدة أم كلثوم ليكون لها نصيب بالغناء فى تلك الصور الغنائية البديعة التى كانت تقدمها الإذاعة، ووافقت على غناء ست قصائد دينية كتبها أبوفاشا ضمن البرنامج، وهى أغانٍ تعبر عن مراحل التحول فى حياة السيدة رابعة العدوية، والأغانى الأصلية كانت «لغيرك ما مددت يدا» و«يا صحبة الراح» ثم «حانت الأقدار» و«غريب على باب الرجاء» و«عرفت الهوى مذ عرفت هواك» ثم «الرضا والنور» أو موكب العروس.

قامت أم كلثوم بتوزيع القصائد الست على ثلاثة ملحنين بالتساوى، لكل ملحن قصيدتان، وهم رياض السنباطى ومحمد الموجى وكمال الطويل، ومن المعروف عن كوكب الشرق تقبلها أولًا للكلمات ثم انسجامها مع اللحن عند إجراء البروفات، وبالتالى يصبح العمل جاهزًا للتسجيل، وهذا بالفعل ما حدث، حيث سجلت الأغانى كلها كاملة وأبدعت فيها أم كلثوم.. لكن ظهر ما يمنع أغنية «غريب على باب الرجاء».. ودعونا نسرد أولًا ما رواه مؤلفها الشاعر طاهر أبوفاشا فى تسجيل إذاعى له، حيث كان حاضرًا ومعايشًا البروفات والتسجيل وهو الرأى الأقدم حيث قال: «لحن كمال الطويل تلك الأغنية لحنًا معجبًا جميلًا، وبدأت أم كلثوم تسجلها للبرنامج، فاقترب منها مخرج العمل عثمان أباظة وهمس فى أذنها بأن موقف الأغنية هو جلد رابعة العدوية وأن المزاهر والشخاليل التى وضعها كمال الطويل فى اللحن لا تتفق مع الموقف، واقتنعت أم كلثوم برأيه واتصلت بأبوفاشا لتطلب منه تأليف أغنية أخرى بديلة».. راوغ أبوفاشا أم كلثوم ورفض تأليف أغنية جديدة وقال لها: «إن لم يعجبك اللحن فعليك بتكليف ملحن آخر ليلحنها لك»، لكن أم كلثوم ظلت تناوش أبوفاشا ثلاثة أشهر كاملة وتلح عليه لكى يمدها بأغنية سابعة، وكانت بالفعل قد غنت «غريب على باب الرجاء» وسجلتها كاملة.. وألّف لها أبوفاشا أغنية جديدة وهى «على عينى بكت عينى» ليقوم السنباطى بتلحينها ويتم ضمها لأغانى البرنامج الغنائى «رابعة العدوية» الذى أُذيع عام ١٩٥٦.

أما الرأى الآخر لمنع أم كلثوم لأغنية «غريب على باب الرجاء»، فقد صرح به الموسيقار كمال الطويل فى لقاء تليفزيونى، حيث قال إنه فى بداية مشواره الفنى كان على صلة وثيقة بعازف الكمان أنور منسى، وجاء الطويل من الأسكندرية، حيث كان يعمل هناك، ليلتقى صديقه منسى، وسأل عنه فقالوا إنه فى حجرة البروفات مع الأستاذ عبدالوهاب الذى يجرى بروفة على لحن أغنية «اتمخطرى واتمايلى يا خيل»، ومن المؤكد أن ذلك كان فى بداية أو منتصف عام ١٩٤٩، وسمع الطويل الأنغام، فدخل الغرفة التى بها العازفون وعبدالوهاب وجلس على أول كرسى قابله، وأكمل الطويل بأن عبدالوهاب عندما شعر بوجوده أوقف البروفة ونظر إليه، فسارع أنور منسى بالهمس فى أذن عبدالوهاب بأن من دخل هو صديق له فى أول مشواره، وبعد أن استأنف عبدالوهاب البروفة خرج كمال الطويل مسرعًا، وعاتب أنور منسى على رد فعل عبدالوهاب، فأخبره منسى بأنه عندما يصبح ملحنًا محترفًا فسيصبح مكشوفًا أمام العازفين، أى ستكون هناك آراء واقتراحات بالتغيير والتبديل والإضافات، ويجب أن يكون ذلك فى نطاق فريق العمل ولا يطلع عليها أحد.

واستطرد كمال أنه بعد مرور عدة سنوات أصبح من كبار الملحنين، وحدث أن وقف مع السيدة أم كلثوم ليجرى بروفة على أغنية «غريب على باب الرجاء» فى نفس حجرة البروفات التى كان عبدالوهاب فيها من قبل، وسمع الجميع طرقات على الباب ثم طل عبدالوهاب برأسه من الباب، وأكد الطويل أن أم كلثوم لم تنطق ولم تطلب من عبدالوهاب الدخول، وقد سارع هو بالترحيب به قائلًا: «تفضل يا أستاذ عبدالوهاب»، وهنا نكزته أم كلثوم بقدمها من تحت المنضدة، ولم يفهم الطويل نكزتها، وبعد أن هنأهم عبدالوهاب باللحن الجديد وبعد انصرف قالت له أم كلثوم «الغنوة دى اتشمت يا كمال».. ويعد التسجيل أكد الطويل أنه شعر بأن اللحن دون المستوى وغير جدير بأم كلثوم فترجاها ألا يظهر هذا اللحن ولا تُذاع تلك الأغنية على الناس.

طلبت أم كلثوم بالفعل منع هذه الأغنية.. وألا تُذاع طوال حياتها، وتم الإفراج عنها بعد رحيلها بسنوات، ليجدها محبو الطرب أنها من روائعها الدينية التى لا يوجد بها سبب لمنعها، ومن الواضح أن الرأى الأول لطاهر أبوفاشا كان الأقرب لحقيقة الحدث، بأن الدفوف والمزاهر والشخاليل لا تناسب الموقف، وتبعد الأغنية عن سياق التعبير عن المشهد الموجودة لأجله داخل برنامج «رابعة العدوية».. لذلك أُذيعت الصورة الغنائية «رابعة العدوية» دونها.. وأيًا كانت الآراء والأحداث فقد كسبنا رائعة سابعة بجانب لحن كمال الطويل «غريب على باب الرجاء» الذى يعد من أعماله البديعة. 

كانت «عازفة الناى» هى الصورة الغنائية الوحيدة التى شاركت فيها أم كلثوم فقط بالغناء، وفى عام ١٩٦٣ تحولت إلى فيلم «رابعة العدوية» بنفس أغنيات أم كلثوم.