الخميس 13 فبراير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

سيوف الآخرة.. ننفرد بفصل من رواية إبراهيم عيسى الجديدة

حرف

- تناول الأشتر طعامه وشرب العسل الممزوج بالسم المذاب فيه الموت

- حرص الجايستار على غسل وجه قتيله وتجفيف لعابه وتنظيف ثيابه وهندمة عباءته

يشارك الكاتب الكبير والإعلامى إبراهيم عيسى، فى الدورة الـ56 لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، بروايته الجديدة «سيوف الدم»، الصادرة عن دار الكرمة للنشر والتوزيع، وهى الجزء الأخير من الثلاثية الروائية التاريخية «القتلة الأوائل»، التى تتناول التاريخ الحقيقى للدولة الإسلامية من مقتل عثمان بن عفان إلى مقتل على بن أبى طالب، حيث تصل بالقارئ إلى المحطة الأخيرة فى «رحلة الدم».

وكان الجزء الأول من ثلاثية «القتلة الأوائل» صدر فى 2016، تحت عنوان «رحلة الدم»، بينما صدر الجزء الثانى بعنوان «حروب الرحماء». 

- أهذا فارسك يا على وواليك إذن؟

قلب عينيه بين عينى مالك الأشتر المُسجى على الأرض، تقبض لكمته الميتة على شطف من كوب تكسر منغرزًا فى بطن كفه، محدق المقلتين، محملق الحدقتين، جامد النظرتين، متكور الركبتين كأنه يحوش بهما ألم البطن الناشب اللاهب، تنسال من جانبى شفتيه خيوط سود من ريق متخثر يجرى على لحيته ويقطر بطيئًا لزجًا على عنقه.

لم يقدر على أن يفهم تلك الكلمات المتكسرة تحت أسنانه الجازة المتصلبة، خرجت واهنة متحشرجة، أراد أن يلتقط منها حروفًا يبنى عليها كلمة يصوغها جملة ينقلها إلى معاوية فى شامه، حيث ينتظر ملهوفًا نبأ اليقين عن خلاصه من ذلك المرعب الذى هوى منذ لحظات من فوق المقعد إلى الأرض مخدوعًا بالسم ومسمومًا بالخداع. 

أهذا مالك الأشتر صاحب الصول والصلال الذى يخشاه معاوية، حتى إنه سن خنجر دهائه فى قصره بدمشق، لعل نصله يجرح عنق مالك فى طريقه إلى الفسطاط؟! 

أهذا مالك الأشتر وقد سلّم نفسه إلى ملعقة خشب ألقمته موتًا وهو آمن ساكن فى بيت غريب؟! 

إبراهيم عيسى

كان التدبير بسيطًا حتى السذاجة، والخطة تافهة حتى البلاهة، وعلى الرغم من ذلك سقط الصنديد فى الشرك. أكان غرورك يا مالك، حين ظننت أنك محجوب عن عيون معاوية لما جئت بلدًا تحكمه متخفيًا فى تواضع موكبك وهزال خدمك؟ أكنت تظن نفسك أكثر دهاء من دهاقنة الدهاء معاوية وابن العاص، وهذا المتواضع الوضيع الماثل أمام جثتك الآن؟ أرعبتهم فى الحرب، وأعييتهم فى الهدنة، وخشوا من لسانك عند أذنى على بن أبى طالب، وارتجوا فى الشام حين علموا تبوأك مصر، ثم آل المآل إلى جثة صريعة تحت قدمى، لا سيوف رفعت، ولا رماح صوبت، ولا سهام أُطلقت، ولا نبال رميت، ولا حريق اندلع، ولا حجر قذف، ولا دماء أُريقت، لعل عليًا يعرف الآن ما يجهله، أن السياسة تهزم الفروسية، وأن الدهاء يسحق التقى، وأن الخسة تمحق الشجاعة وأن الثعابين تقهر الأسود.

من كان يصدق حين بعث له عمرو بن العاص رسولًا هنا فى القلزم يستدعيه إلى الشام! أيتذكرك ابن العاص بعد طول هذه السنين؟ لكن متى غابت عن عمرو أخبار مصر وأهلها؟ لا أحد التصقت مصر بجدار عقله وتبصمت على جلده مثل عمرو بن العاص، ثم إن ابن العاص لا ينسى عصائبه فى ربوع مصر، كانوا من عرب جلبهم معه، أو أقباط التقى بهم، أو مثل حالتى نسيًا منسيًا، لا روميًا ولا قبطيًا ولا عربيًا، ولا شىء إلا أنه بات كل شىء. ساكن الجميع وحالف الكل واشتغل سماعًا وهمازًا ومشاءً وذراعًا ولسانًا للفرقاء والغرماء، فعاش بينهم طويلًا واستقر عميقًا. هذه البلدة التى تستقبل الغرباء كل يوم قادمين من بحر أو صحراء، قوافل جمال وخيول وبضائع وبشر وطلائع جنود وعيون جيوش وركاب تجار وعابرى أسفار وجواسيس أمصار، تحتاج إلى رجل مثلى، يتكلم لغات الألسن، ويحفظ أفكار العقول، ويضع قلبه فى جيبه ويدس جيبه فى عقله فاستجاب لاستدعاء عمرو، وسافر إليه ملبيًا.

حين أعلم الحراس والحجاب فى قصر الشام أنه قادم من مصر، دبت فيهم قفزة يقظة الدببة، أخذوه كأنما رفعوه من الأرض إلى ممر مقوس، يفضى إلى بهو مربع، ينتهى بباب متشامخ بمزالج حديدية تنجر فتصر صريرًا يصفع الأذن، فإذا شرفة تطل على باحة من الأشجار والنخيل، يجلس فيها متكئًا رجل فخيم المظهر، متضاخم البدن، متلامع الملبس، متبسم الثغر، ركين المقعدة، فطن أنه معاوية، فركع منحنيًا وتدلى برأسه يزاحم السجاد المفروش:

- السلام على أمير المؤمنين. 

كان قد سمع الناس فى الشام ينادون معاوية بأمير المؤمنين، وفهم أنه مغرم باللقب، فقد كان حكم محكمة الأشعرى وابن العاص بإقالة على وتثبيت معاوية، فصار هو أمير المؤمنين بينما أمسى ابن أبى طالب هنا المخلوع العاق.

- وعليك السلام يا جايستار.

حفظ اسمه الصعب إذن، بدا معاوية وكأنه الخل القديم للجايستار وقد أوحشته جلساتهما الأثيرة، على الرغم من أنها المرة الأولى وستكون الأخيرة التى يلتقيان فيها غالب وعاقل الأمر. الذى أبرق فى عقل الجايستار هو صمت معاوية عن أى كلمة عن مالك الأشتر أو قدومه لمصر أو مهمة الجايستار المترقبة أو إيجاره أو أجرته المتوقعة، لا شىء إلا السلام بعد الكلام والشراب وبعض من صمت معاوية الممزوج بالتأمل والابتسام المحمل بالتكليف. فقط حين خرج الجايستار من اجتماعه بمعاوية تلقاه رجال صحبوه حتى باب القصر وحين أوشك مستغربًا أن يغادر جذبته ذراع عمرو بن العاص وألقت برأسه فى حضنه «لا يزال ابن العاص عفى الذراعين على الرغم من هذه السن المسنة»، وانتحى به إلى غرفة تنطق رياشها بالدعة وتنغلق نوافذها على أسرارها:

- لم تكن لغتك العربية صالحة للغو المثرثر مع معاوية يا جايستار. ضحك الجايستار موافقًا ومعجبًا بعمرو. كانت سنوات قد عدت على وجهيهما فتغيرت الملامح، لكنها لم تشخ، بدا عمرو ابن الثمانين موفور الصحة فى عينيه ثم فى بدنه، يتكلم كرجل ويتصرف كأمير. حين لم يلقب ابن العاص معاوية بأمير المؤمنين لقم الجايستار المغزى فورًا: انسَ معاوية، فمصر شأنى وخاصتى، لقد التقاك كى تطمئن إلى أمان ظهرك وتلتقينى كى تتلقى الأمر والأجر. لهذا تحدث الجايستار كأنما قد بدأ منذ ليال: 

- نعم، سمعت أن مالكًا الأشتر سيتولى مصر، ثم سمعت دعاء لاهثًا فى مساجد الشام طيلة طريقى إليكم بهلاكه وموته، وليأخذ الله الأشتر الفاجر العاق الكافر سافك دم الخليفة المغدور.

- أوتدخل مساجدنا يا جايستار؟

- لعلى أهتدى إلى الإسلام.

- إنك تخدم الإسلام ببعدك عنه، فلا حاجة لنا بإيمانك.

قهقها معًا.

- لا تقل لى يا أمير مصر إنك سوف ترفع عنى الخراج أو عن قومى أو حتى عن القلزم كلها إذا ما فعلت ما تنوى أن تطلبه منى.

- بل ما أرجوه منك، ثم نعم سأرفع.

- لكن هذا ما تقدمه أنت، فماذا يقدم معاوية؟

- لماذا لم تسأله؟

- قلت إنه رجل يعطى قبل أن يُسأل.

أومأ عمرو:

- لك ما تريد.

طلب كثيرًا، فمعاوية كان قد أطلق حملته بالدعاء على مالك الأشتر، ويبغى أن يقنع شوامه وقبائله وجنوده بأن الله يسمع دعاء الشام ويجيبه، وأن معاوية أمير يصل الله فيصله، مستجاب الدعوة، فما كان من معاوية إلا أن أمطره بالدراهم القبطية قنطارًا، فليس الجايستار من يصبر حتى يأتى ابن العاص مصر فيحكم ويأمر فيرفع عنه خراجًا، فمن ذا الذى يضمن غده بعد يومه فى أرض يتجمر طوبها وتتقلى أحجارها بغضب مكتوم وحقد مكبوت ينتظر هبة ريح تفجره سيوفًا فى الحلوق وسهامًا فى الخصور!

ثم كان ما كان فى مصر، وصلها الأشتر متخفيًا، نزل فى القلزم للراحة والتأهب للسفر إلى الفسطاط لتسلم حكم مصر، دعاه الرجل إلى الاستراحة فى تلك الدار، حيث الطعام والشراب ولزوم الظهر للسرير القبطى الوثير. تناول الأشتر طعامه، وشرب العسل الممزوج بالسم، المذاب فيه الموت، ثم سقط وهوى على الأرض حيث يتأمله الجايستار الآن.

يدخل الخادم على سيده مرتبگًا ملفوف الرأس ويسأله: 

- الرجلان اللذان صحباه «أشار بكفه إلى جثة مالك الأشتر على الأرض» يسألان عنه، ويريدان لقاءه.

ليس للجايستار لحظتها إلا أن يقتلهما، لماذا لم يدس السم فى طعامهما؛ ليرتاح من سؤالهما ومن نظرة هذا الخادم التائهة الخوافة، أو أن يشتريهما مهما غلا الثمن وبلغ السعر؟ لكنه يريد لخبر موت الأشتر أن ينتشر ويُذاع بين الناس، وكلما زادت الأفواه المتكلمة تضاعفت الآذان المطرقة. هذا مالك الأشتر أمير مصر الجديد قد تحول عرشه نعشه، الرجل الذى كان قائدًا مغوارًا أوشك على الفوز الرهيب فى وقعة صفين وحاشه عن الفوز مائة ذراع ومصاحف مرفوعة مكرًا وكيدًا وخداعًا وشراكًا وأفخاخًا، ها نحن أولاء نبحث له الآن عن حفرة تدفن سره وسمه معه. 

- أدخلهما.

كان كلاهما من عرب السابلة، ليس فيهما ملمح من قبيلة تحمى أو شأو يؤوى، ثيابهما رثة، ووجهاهما مثقلان بالعبودية المختارة، ليسا أبدًا من عزوة الأشتر ولا من خاصته، فنحول الهيئة وهزال الهيكل يشيان بأنهما لم يحملا سيفًا ولا سددا رمحًا يومًا. هذه القلزم تجعل من عينى الجايستار خبيرتين باليمانية وبأهل مضر وقوم تيم ووجوه العرب من العيون واتساعها أو ضيقها، من عظام الوجه وعراضة الجبهة، من شمخة الأنف وجوف المنخرين، من اللكنة والعجمة من الطول والربعة، من الوجنات والأوداج، يميز بينهم ويفرق بين خصالهم وسماتهم. هذان خادمان من لقطاء الطريق.

بهت كلاهما بسيدهما مالك الأشتر على البساط مطروحًا، فخامة الرجل وهيبته ورهبته مكومة جسدًا بلا روح، وعمامة تساقط الشعر منها، وعينان جحظتا، وأنف سال مخاطه، وفم تقيح لعابه. جرى أحدهما مصدومًا ليتحسس الأشتر بينما تثبت الثانى مكدودًا. 

- من أنتما؟ وماذا تعرفان عن سيدكما؟

بين التلعثم والتردد واللجلجة والحوقلة والحسبنة تسربت كلماتهما فدوت ضحكة رقيعة من حنجرة الجايستار، وقام من كرسيه فأمسك بعنق أحدهما، ولكز الآخر بقبضة يده الأخرى: 

- من دسكما على الرجل؟ انطقا بالحق، وإلا تلحقان بسيدكما! خرا راكعين، فقالا إنهما من خدم القوافل، يمكثان فى مرابض الجمال والدواب، حيث يؤجر المسافرون ظهور الأحصنة والإبل، ويستأجرون أدلة الطرق ومقتفى الأثر وحراس الصحراء وسائقى الجمال.

- الركاب القادمون فرادى بغير قوافل التجارة، أو سفرات السادات يحتاجون خدمًا للنقل والطبخ ونصب الخيام فى الرحل ومستوجبات الخدمة، فنعرض أنفسنا عليهم، فينتقون منا ويصحبوننا معهم فى رحلتهم، حتى إذا وصلنا وجهتنا عدنا مع قفول قافلة أخرى وقد تقاضينا أجرنا.

- ألم تعرفا من اختاركما لخدمته وانقدتما إليه دون سؤاله عن اسمه وصفته؟!

تعجب الجايستار، فالأشتر أمعن فى إخفاء نفسه وإنكار صفته، حتى إنه التقط من عامة السابلة هملًا من الخدم لا يدرك كنههما ولا تحرى عنهما، فأمن لهما تواضعًا أم غرورًا، توكلًا أم تواكلًا، تذاكيًا أم تبلهًا! 

تخابث فى سؤاله وقد أحس بواخ حماس الخادمين: 

- ألم يعرف أحدكما هذا الرجل حين عرض نفسه عليه؟ تملصا من الإجابة، فضج الجايستار بضحكته يستعيدها بشرها وشرهها سريعًا:

- يا معاوية، كم أنت جبل من دهاء!

قام وقد صاح وصفق بكفيه يحادث نفسه بينما يصوب إليهما نظراته: لقد أجركما معاوية، طبعًا أنتما أحقر من أن يعرفكما معاوية أو يستدعى أيكما، لكن المحطة كلها بأمثالكما من الخدم كانت تعرف قدوم مالك الأشتر، رجال معاوية جندوا الطريق كله، ورشوا الخدم نفرًا وأنفارًا، وقد وصفوا لمن يجهله منكم جسمه ووجهه وشطرة شفتيه، فمن أجره الأشتر مأجور لمعاوية أصلًا. أمثل هذا يظن ابن أبى طالب فى نفسه طاقة هزيمته؟

استسلم الخادمان اعترافًا، وتواطآ بالطاعة للجايستار، حيث أمرهما بمشاركة خادمه وحمل جثة قتيله الثمين.

حرص الجايستار على غسل وجه قتيله وتجفيف لعابه، وتنظيف ثيابه، وهندمة عباءته، وإحكام عمامته، وتوسيده فى صندوق خشبى من توابيت القبط، جلبه كبيرًا وواسعًا وقوى المتانة ومنقوشًا بالرسوم ومدقوقًا بالمسامير. أنزلوه فى الصندوق ثم أمرهم بالقدوم معه إلى محطة رحال القلزم.

وصلوا إلى زحام تلك القوافل الواصلة، وتلك التى تستعد وداعًا، كانت الخيام والأبنية الحجرية تتوزع على جوانب الطرق، يلجأ إليها المسافرون والعابرون للراحة وللتجارة السريعة أو المقايضات العجولة أو المبيت المؤقت أو التزود بالبضائع. تعجب الجايستار من أن محمد بن أبى بكر الصديق، أمير مصر الغفل، لا يضع شرطة له فى هذه القرية أو غيرها من القرى على طول العبور من الجزيرة أو الشام إلى مصر. يقسم الجايستار لنفسه إن عمرو بن العاص على الرغم من بعده المجبور عن ولاية مصر، وعلى الرغم من خلو جيبه من مغريات الجيوب للعقول، فإنه يضع هنا، وهو البعيد، بحورًا وأنهارًا من الرجال يفضون إليه بما يريد أن يسمع، وينفذون له ما يريد أن يحدث، بينما أمير مصر أجهل من أن يعرف! اختار الجايستار أوسع دائرة من المتزاحمين ودفع إليها خادمى الأشتر ليصيحا بما صاغه لهما:

- يا قوم، أليس فيكم من يعرف سيدنا الذى صحبناه من العراق؟

- ما له؟

- قد مات.

- ماذا تقولان؟

- هذا هو الخبر الفجيع. 

- من سيدكما؟

- رجل يقال له الأشتر.

- أومالك الأشتر تعنون أيها الحمقى؟

- لعنكما الله بئس ما تعلنان وبؤس ما تخبران!

- وكيف مات؟

- وأين هو؟

- ومن قال إنه الأشتر وإلا كنا قد سمعنا؟

- أويجىء الأشتر مصر دون أن تنتظره الفسطاط كلها عند القلزم؟! 

- وهل يصحب فى رحلته خادمين نكرتين من الرجال والخدم ولا يقود فرسان العراق كلها معه؟!

- وهل يعرف ابن أبى بكر الصديق قدوم فارس صفين؟ 

كانت العقول مختطفة بالاستفهامات المتعجبات المستغربات، بينما كان الجايستار مطمئنًا لخطته فها هى كل القوافل، من يكمل طريقه إلى مصر، ومن يعود إلى العراق أو الشام أو حتى إلى المدينة ومكة، ستملأ الدنيا بخبر موت الأشتر. أما هو ففى حيرة الآن فى خطوته الأخيرة، فلا بد لهؤلاء أن يروا ولو بعضهم جثة الأشتر ثم يتخذ بهم ومعهم قرارًا بدفن الرجل، فليس من الكريم أن تظل جثة أمير مصر المغتال متروكة للريح والرائحة. عزم أن يرسل الجثة مع فريق من جواسيس ابن العاص إلى الشام، فلا غرو أن معاوية سيضاعف المكافأة حين يضع جثة الأشتر مصلوبة على أعمدة دمشق ونخلاتها، كما فعل مع عمرو بن الحمق، حيث علق رأسه المذبوح مفصولاً عن جسده على أعمدة جسور دمشق، وصلب جسمه بلا رأس على أعمدة أخرى، بعدما لف بهما رجاله وعوامه، مرفوعين على سيخين من الصلب وأعواد من رماح أيامًا وليالى، شوارع الشام وأزقة بيوتها وساحات قراها فما بالك بجثة الأشتر العدو اللدود، والعقبة الكؤود، وقاتل المئات من أقوام الشام، وله فى كل بيت فيها قتيل أو جريح أو نائح أو يتيم؟! فقط سويعات الفوضى الناشبة عند تزاحم الرجال والركبان عند جثة الأشتر ثم يستخلصها لنفسه، لكن ماذا لو اقترح أو صمم بعضهم على اصطحاب الجثة إلى الفسطاط حيث الأمير المخدوع يستقبل جثة الأمير المقتول؟ ساعتها لا ضير، إذ إن أحدًا لن يشك فى رجل ميت دون جرح نازف أو طعنة غائرة، أو نشب حديد فى جلد، أو ناب فى عظم، وليس أمام هؤلاء إلا أن يصدقوا ميتة الفجأة حيث ينتصر القدر لمعاوية على خصيمه ثم لماذا لا يتحمس بعضهم لأخذ الأشتر والعودة به ميتًا إلى المكان الذى أحياه حيًا، إلى العراق حيث أهله وولده، وحيث ابن أبى طالب يصلى على جثته، وتكون قد بليت بالرحلة وترمَّت بإياب السفرة وهجير الحر؟ ما علينا، ما يهم توًا هو النفاذ بين هذه الجموع التى تتكالب لدخول الدار المفتوحة، حيث يشير خادما الأشتر للناس عليها. 

أسرع الجايستار، لاهثًا، ودلف من باب الدار الخلفى، حيث انسل إلى مكان الصندوق المغلق على جثة الأشتر تأهبًا، ليكشف غطاءه للقادمين الملهوفين، رفع غطاء الصندوق بذراعيه فأحس ثقله، نظر مبهوتًا داخل الصندوق، كانت جثة الأشتر قد اختفت!