الخميس 20 مارس 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

سفر العَـذَارى.. فصل من رواية «يوسف زيدان» تحت الطبع

يوسف زيدان
يوسف زيدان

- «بطاى» رجلٌ هادئٌ وقورٌ و افرُ الهيبة قوامه قوىٌّ متينٌ معتدل.. ومهارته إذا احتدم القتال قليلة النظير

- راح النداءُ يعلو بداخله ويحتدُّ حتى ينتزعه من نعاسه وغفلته.. حزم أمره وعزم على الاستجابة للنداء من باب الفضول وبدافع الشغف.. ولأنه لابد مما ليس منه بُدّ

- بدت لحظتها على مرآة روحه كأنها هدية دنت وتدلَّت من السماء.. اقترب حتى التقيا فى الوهدة الواصلة بين التلَّتين

.. وكما هو مكتوب: أراد الربُّ أن يكمن خلف المنشور من الأخبار، والمشهور، كثيرٌ من المستور.

(السِّفر السادس)

الجَدُّ الأعلى، التكوينُ

ياء، يَهْوَ.. يومَ لم يكن فى المكان إلَّاهُ.

بعد صبِّ الجام الواجب من اللعنات، على الموهومين من مَرَدة الجنِّ الهائمين، والمستترين. وبعد استنزال سيول الوبال على الأبالسة الأبرياء، المساكنين للمساكين. وبعد تلاوة المحفوظ من ملفوظ الاستعاذات والأدعية، مستحيلة الاستجابة.. أقصُّ عليكم بعون العالى المتعالى، بعض مستور الأسرار التى اختبأت خلف خبر البنت البتول التى تمرَّدت على القضاء وقَاومت القَدَر، وفرَّت فجرًا من مأواها الآمن بأطلال «نجع بطاى» وعرجت شمالًا لمطاردة الأوهام، وملاحقة ما لاح لها من أضغاث الأحلام. وأحكى بعض ما جرى يوم ارتجَّتِ المدنُ الكبيرة بالراجفة، وتَبعتها الرادفةُ، فأغرقتِ النازعات الناشطات السابقات، ولكن نجتْ من الغمار المدبِّراتُ أَمْرًا والمتأخِّراتُ قَسْرًا.

وبدايةً، أقرُّ بأننى أبوحُ هنا بالمحظور المحذور منه، تلبيةً لأمنية النجاة من الانجراف فى مسار سيول النسيان، الطامسة لموروث كل إنسان، وأملًا فى الإفلات من الملل المحيط بى من الجهات السِّت، وهربًا من فرط انفرادى ببوادى البُهم وتيه السأم.. وسألتزم الصدقَ وقَوْلَ الحق، والمنتقمُ على ما أقولُ شهيدٌ.

يومَ البدء، البعيد، جاء الجدُّ «بطاى» إلى هذا المكان المنسوب لاحقًا إليه، المعروف إلى الآن باسمه. هو لم يكن ينوى المجىء إلى هنا ولا الاستقرار، وإنما كان يسير محاذيًا مسار النيل، فأبعده عن ضفافه الشرقية الفيضانُ الذى ازداد عن المعتاد فى ذاك العام.

حين جاء «بطاى» إلى هذه الناحية، كانت الأرض خَربةً وخالية. وعلى وجه الغمر الممتد ما بين الجبلين، الشرقىِّ والغربى، سُكونٌ ترفُّ فوقه روحُ الإله نهارًا، وتسرى على صفحته فى الأمسيات أنفاسُ الأرباب الكبار. كان النيل آنذاك يفيض صيفًا كل عام، بالديار المصرية، دون عوائق تمنعه عن بسط كفَّيه إلى ضفَّتيه. حاملًا إليهما الماء وطمى الخصوبة. وداوم على ذلك منذ الأزل. ولذلك، لمَّا سكن الناس عند حوافه وزرعوا ضفافه، توهَّموا مع الدوام وانتظام الفيض والغيض، أن للنهر روحًا تحدوه إلى ما يفعله، فأطلقوا على ابتداء فيضانه السنوى الاسم الجميل «عيد وفاء النيل» وكانوا يقدِّمون له القرابين ليرضى ويفى بما اعتاده، فيستبشرون بما يفعلون، وتفرح الأسماكُ والتماسيحُ، بما يلقونه إليها من الخبز والفطير والكعك وشَغَت اللحم، وتشبع منه.

وكانت للنيل أحوالٌ تظهر من مقدار فيضانه السنوى، إذ يأتى أعوامًا شحيح العطاء، ولا يعلو بالماء والطمى إلا بأقل قدر، وسرعان ما يغيض بعدما يفيض. وفى أعوامٍ أخرى يأتى عطاؤه باذخًا، ويمتد ماؤه من مجراه حتى يوقفه من الجهتين الجبلان، حفاظًا على جَدْب الصحراء المنبسطة من خلفهما. وهذا ما كان فى السنة التى وفد فيها «بطاى» إلى هنا، حيث عَظُم الغَمْرُ حتى وَجَل الناس وأجمعوا، لميلهم الفطرى إلى المبالغة، على أن النيل لم يكن باذخًا فى فيضانه على هذا النحو، فى أى زمانٍ سبق.

والمشهورُ الثابتُ مما تناقله الثقاةُ وبقيةُ الرواة، هو أن «بطاى» كان من أبطال الرجال، بحسب المقاييس القديمة للبطولة. فهو رجلٌ هادئٌ وقورٌ و افرُ الهيبة، قوامه قوىٌّ متينٌ معتدل، ومهارته إذا احتدم القتال قليلة النظير. الذين رأوه وصفوه بأنه وضَّاح الوجه، لحيته مهذبة مثل لحى الملوك والأمراء الكبراء. واتفقوا على أنه كان فى المعارك هصورٌ مثل الأسود، وفى أيام السلام أنيقٌ كالطاووس. يعامل الفقراء برفق الأقوياء وفضل المحسنين، ويقهر المتجبِّرين ويكسر شوكتهم بعزم الحازمين، وكان يتلطَّف مع الأطفال والمساكين، ويستحى أمام النساء. وأجمع معظمُ العارفين بالتاريخ وسِيَر السابقين، على أنه وفد إلى هذا الموضع النائى بالصعيد، من جهة الشمال. إذ كان فى صباه وشبابه المبكر، يسكن فى ناحيةٍ قريبة من «القاهرة» وله فيها أملاكٌ وأطيان، ثم ارتحل صوب الجنوب استجابةً لهاتفٍ منامىِّ مبهمٍ، ظل يدعوه بصوتٍ ذى أصداءٍ سماويةٍ تستحق الإنصات والتقديس، قائلًا له بهمسٍ آمرٍ:

ارحلْ جنوبًا،

تجد محبوبًا،

طالبًا ومطلوبًا.

فى الليلة الأولى ظنَّ أن هذا الهاتف الغامض أضغاث أحلام، فاستعاذ فى سرّه من غلبة الخيال الخلاق، ومن هيمنة الأوهام، وتجاهل النداء. وعندما سمع هذا الهاتف ثانيةً، فكَّر وقدَّر وتذكَّر، فظنَّ أنها كلمات ترنيمةٍ قديمةٍ أو أغنيةٍ شجيةٍ ربما أنصت إليها فى صباه، ثم علقت بقاع ذاكرته. لكنه عاد إلى الشك والحيرة، حين سأل الذين حوله عن كلمات تلك الأغنية، فأجابوا بأنهم لم يسمعوها من قبل.

ولمّا استمر استماعه لهذا الهاتف فى جوف الليلات التاليات، وراح النداءُ يعلو بداخله ويحتدُّ حتى ينتزعه من نعاسه وغفلته، حزم أمره وعزم على الاستجابة للنداء من باب الفضول، وبدافع الشغف، ولأنه لابد مما ليس منه بُدّ. وهكذا حمل أحلامه وسلاحه وصرَّة المال، وارتحل فوق صهوة حصانه صوب الجنوب، من دون الإخبار عن وجهته أو سبب سفره وسر مسعاه، حتى لا يظن أحدٌ ممن حوله أنه أصيب بالجنون أو هو مفتون، لاسيما مع عدم معرفته حقيقة ما يسعى إليه، وأين يجب عليه أن يحطَّ رحاله.

وصادف خروجُ «بطاى» ابتداءَ فيضان النيل الباذخ، فأخذ اللوقُ يبعده عن ضفة النهر، وتعوِّقه عن الطُرق النقائعُ المحيطة بالنجوع والبلدات، حتى أحوجه الغمرُ فى قلب الصعيد إلى التزام سفح الجبل الشرقى، الفاصل بين اصفرار الصحراء الجرداء من ورائه، واخضرار الغيطان من جهة الغرب.. السفحُ المرتفعُ رملىٌّ، وملىء بالكثبان والأحجار الكبار والصغار، والجبل الواقف فوقه كالجدار ملىءٌ بالمغارات والكهوف، والشقوق المُشرفة من عَلٍ على الوادى الأخضر، كأنها نوافذ يُشرف منها المجهولُ على المنظور.

فى رحلته غير المعلوم عند مبتداها، منتهاها، راح «بطاى» يأوى ليلًا بحصانه فى المنخفض من تلك المغارات، ولا يُجهد حاله ويبدِّد نهاره فى الصعود إلى العالى منها، لصعوبة الارتقاء وكثرة مخاطره. فإن لم يجد مأوى مناسبًا، بات ليلته فى العراء متوسِّدًا زوَّادته ومحتضنًا سيفه والرمح. ومن دون أن يقضى ليلتين فى موضعٍ واحد، مَرَّ عليه أكثر من شهرٍ وهو مرتحل نحو المجهول، حتى وصل إلى المكان الذى التقى فيه مع رفيقة عمره الآتى «روح» فأقام به، وجعله موطنًا ونَجْعًا عامرًا عُرف لاحقًا باسمه.

وفى أصل «بطاى» أقوالٌ، أشهرها أنه واحدٌ من أبناء الانكشارية وأحفاد المماليك المشهورين بالفروسية وفنون القتال، فلما غدر بهم الوالى «محمد علىّ الكبير» وبدأ حكمه للبلاد باغتيالهم جملةً، بعدما دعاهم إلى وليمةٍ كبرى بقلعة الجبل. كان «بطاى» ممن توجَّسوا من دعوة الوالى واستشعر الغدر، فلم يستجب لهذه الدعوة ويذهب مع الذين ذهبوا فذبحوا، وقبل أن تنقضى ليلة المذبحة وينتشر خبرها فى الأنحاء، ارتحل «بطاى» على عجلٍ ونجا من جماعات الاغتيال التى أرسلها الوالى «محمد على» فجرًا، لتصفية الذين بقوا من المماليك فى منازلهم. وبذلك ظفر «بطاى» بحياته وبعض أمواله، وهرب إلى الصعيد البعيد عساه يجد هناك ملاذًا آمنًا.

لكن هذا القول مدفوعٌ برأيين يؤكِّدهما الحُذَّاق من علماء الأنساب، الرأى الأول قرَّره «عبد الرحيم الأخميمى» بقوله إن الجد «بطاى» عاش ومات قبيل مجىء الفرنسيس إلى مصر، وبالتالى فهو أسبق زمنًا من بداية عصر «محمد على» بسنوات. وأضاف الأخميمىُّ أن خلافًا دَبَّ بين «بطاى» وأحد الولاة العثمانيين، ثم احتدم، فخيَّره الوسيطُ الذى كان بينهما، بين السجن والمنفى الاختيارى إلى صحراء «لوبيا» أو بلاد الحجاز، على أن يحسم أمره قبل بزوغ شمس الصباح التالى. فارتضى «بطاى» بالخيار الألطف، وأوهم بأنه سوف يقصد بلاد الحجاز، لكنه بعدما موهَّ على العسس المراقبين خروجه، لجأ إلى الصعيد.

وأما الرأى الآخر، فقد قال به «إسماعيل بن إسماعيل الإدفوى» نزيل قوص، وهو من النسابة المعروفين، ويقال إنه أحد أسباط «كمال الدين الإدفوى» صاحب الكتاب الشهير: الطالع السعيد الجامع أسماء نجباء الصعيد.. وهو رأىُّ انفرد به إسماعيل الإدفوىُّ، ومفاده أن «بطاى» واحدٌ من فرسان الأمازيغ الذين يسكنون فى الواحات الغربية، وقد استضيق فى شبابه العيش هناك، فذهب إلى القاهرة لكنه لم يسترح إلى السُّكنى بها أو الإقامة بجوارها، وعرج منها صاعدًا إلى بلاد الصعيد.

وبصرف النظر عن صحة هذه الأقوال والآراء المتعارضة، فإن الثابت من أخبار الجد «بطاى» بحسب ما تناقله الشهودُ بالتواتر، سابقًا عن سابق، هو أن «بطاى» عندما وصل إلى موضع النجع وقتما كان المكان خلاءً خاويًا، دخل عليه وقتُ الغروب وتوارى قرص الشمس خلف أعالى الجبل الغربى، فأجال «بطاى» ناظريه فى الأنحاء من حوله باحثًا عن مكانٍ يصلح للمبيت، وعندئذٍ لمح بأعلى السفح تلَّةً فوقها صخورٌ ضخام، تستر خلفها حجرةً حجرية الجدران مسقوفةً بالجريد، ولها باب. بدا له أن هذه الغرفة المرتفعة المتوارية بين كبار الأحجار، عتيقةٌ، وأنها كانت فى زمنٍ قديم مأوى لواحدٍ من الرهبان الفارين من زيف الدنيا، أو ملاذًا لأحد الأشقياء الهاربين من سطوة سلطان. صعد مرتقيًا إليها بحذرٍ، فوجدها خاويةً ومناسبةً للمبيت وإيواء الحصان، وعند دخوله داخله ابتهاجٌ مفاجئ واطمئنان، فنام ملء جفونه بعدما أحكم إغلاق الباب. ومتفائلًا بلا سببٍ ظاهرٍ، صحا فجرًا وخرج إلى النهار فوجد السماءَ ملوَّنةً باحمرار الفجر، وقرصَ الشمس لم يطلّ بعد من خلف الجبل.

قُبالة الحجرة استقبلته نسماتٌ شمالية منعشة، مبهجة للمنفرد، فأجلسته على حجرٍ بمنحدر التلَّة، ينتظر بزوغ الشمس ويتأمَّل المشهد الممتد أمامه من الجهات الثلاث. الفيضانُ الذى بلغ غايته وغمر معظم الأنحاء الواصلة بين الجبلين، بالماء المشوب باحمرار الأرض المرتفعة، التى يأتى منها النيل. الغمرُ جعل المساحة الواسعة الممتدة غربًا، مثل مرايا تنعكس عليها هيئة السماء. أحسَّ «بطاى» للوهلةٍ الأولى بأنه يجلس بين سماوات، وشعر للوهلة الثانية بأنه يملك هذا الكون الجميل كله، وفى الوهلة الثالثة عرف فى علاه أن الجمال مِلكٌ لمن يدركه.

فى تلك الوهلة الثالثة، الممتدة من بدء وصول شعاع الشمس إلى استعلان النهار، شعر «بطاى» بأن ما مضى من حياته، ليس سوى توطئةٍ وتمهيد لهذه اللحظة الفريدة. وراودته فكرة البقاء فى هذا المكان، وإلقاء عصا الترحال. ولأنه استراح إلى تلك الفكرة، قرَّر أن يختبرها بالمبيت ليلةً أخرى.

فى عصر ذاك اليوم معتدل الطقس، ناعم الساعات، كان «بطاى» يفرش تحت الشمس أمتعته ويجلس هانئًا فى ظل جدار الجانب الجنوبى للحجرة، ومستمتعًا بالسكون المحيط راح يقضم من رغيفه واللحم المقدَّد، لقيماتٍ وقِطع، وعندما رفع قِرْبة الماء ليشرب لمح امرأةً تسعى بين أحجار التلَّة الأعلى، فقام من فوره منتصبًا وسار نحوها خطوات لتراه، ويراها على نحو أوضح. فكَّر، وقدَّر أنها حين تلمحه سوف يتولاها الوجلُ وتبتعد، لكنها على العكس اقتربت نحوه حتى وقفت أعلى رأس التلة المقابلة، القريبة، ومن هناك سألته صائحةً بغير تردُّد: من أنت، عابر سبيل أم قاطع طريق؟ـ 

أنا عابر سبيل، ومسالم. وهل أنت صيَّادة أسود، أم جِنيةٌ من جِنيَّات الجبل؟

ضحكت وهى تهبط نحوه ورداؤها الأسودُ الواسعُ يرفُّ حول ساقيها وقدميها، وسِتر رأسها الشَّفاف يتطاير خلف وجهها الوضاء، ويكشف عن طرفى ضفيرتيها. بدت لحظتها على مرآة روحه، كأنها هدية دنت وتدلَّت من السماء. اقترب حتى التقيا فى الوهدة الواصلة بين التلَّتين، ولمَّا تواجها قالت له: طبعًا، أنت عابر سبيل، فقُطَّاع الطرق لا يرتدون تلك الملابس الغالية، ولا يركبون أحصنة عليها سروج فخمة كهذا، وأكيد أننى لا أصطاد الأسود فهى لا تؤكل، ولست جنيِّة، فالجن لا يظهرون للناس جهارًا فى وسط النهار.

هى فتاةٌ مليحةٌ تبلغ بالكاد العشرين من عمرها، معتدلة القوام، قوية الحاجبين، وفى نظرة عينيها الواسعتين دلالٌ يتماوج فيه القبول والصدّ.. ابتسم لها «بطاى» وقد راقت له جرأتها الوقورة، ورقَّة نبراتها، ومُزاحها اللطيف المؤنس. وراق لها قوامه الممشوق وأناقته، وأنه حين اقترب غَضَّ بصره عنها ولم يرفع عينيه ليحدِّق فى محاسنها المستورة، مثلما يفعل مع النساء معظمُ الرجال. ولسببٍ ما وَدَّ كلاهما أن يطول بينهما اللقاءُ ويمتد الكلامُ، فاستخبرت منه عما أتى به إلى هذا المكان الخالى من الساكنين، المُبعد للعابرين؟ فأجابها بأن اللوق ألجأه إلى هنا، واستخبر منها بلطفٍ عن اسم هذه الناحية، فقالت وهى تسير أمامه إلى أعلى التلة الواقفة بين أحجارها الحجرةُ التى لجأ إليها، وتشير بذراعها الأيمن إلى الجهات الثلاث المحيطة بهما: هذه الناحية كلها تسمى «المهاويش» وفيها نجوع وبلدات، فهذا الذى تراه غربًا هو «نجع الشرياص» الذى نسكن فيه، والذى بعده هناك، هو «نجع الطوايح».

ـ وهذه البيوت فى الجهة الشمالية؟

تقصد فى الناحية البحرية. هذا «نجع نَجَاتى» وتوجد فى غربه بلدة كبيرة اسمها «الجِمِّيزة». وأما هذه البلدة القِبلية، فهى تسمَّى «جُحر السِّلْعوة» وأهلها أخابث، وبعدها غربًا بلدة كبيرة اسمها «نودة» وهى آخر حدود المهاويش.

ـ المهاويش! لم أسمع بها من قبل.

أجابت بأنها نواحٍ غير مشهورة لأنها بعيدة عن «النيل» وغير متميزة بشىء: لكنك إذا واصلت طريقك سوف ترى فى الناحية القبلية بلدةً واسعة ومعروفة اسمها «إِخْميم».. وتنهَّدت بملء صدرها قبل أن تضيف مجيبةً عليه من دون أن يسأل: سوف يستمر انحسار ماء الفيضان عن الأرض فى الأيام القادمة، فيصير وصولك إليها سهلًا، وبعد أسبوع، إذا أسرعت بحصانك هذا، بعد جفاف الأرض، فسوف تصل إلى مدخل «إِخْميم» الشرقى، بعد أقل من ساعة.

-سمعت عن «إِخْميم» لكننى لا أريد الذهاب إلى مثلها من البلدات الكبيرة المزدحمة.

توقَّفت عن السير أمامه واستدارت نحوه، فتلاقت نظراتهما لحظةً قبل أن يعود إلى خفض عينيه عنها.. ابتسمت بلا سببٍ ظاهر، وأخبرته بأنه يثير الحيرة، ثم سألته عن مقصده، فأجابها بأنه يبحث عن مكانٍ مناسبٍ يستقر فيه بقية عمره.

ـ وأين كنت مستقرًا؟

ـ لم أستقر سابقًا بمكانٍ واحد.

ـ يعنى لم تتزوج، فالرجل يستقر حيث تكون زوجته.

ـ صحيح. وماذا عنك؟ أظنك متزوجة.

ـ ولماذا تظن ذلك؟

ـ لأنك فى الحقيقة، جميلة، أقصد..

ضحكت بمرحٍ قبل أن تشاكسه بسؤالها المستنكر: ألا تتزوَّج من النساء إلا الجميلات؟ فارتبك ولم يجد ردًّا، ونظرت هى فى الأفق قبل أن تقول إن الغروب اقترب، ولابد لها من الذهاب قبل أن يهبط الظلام. فانطلق لسانه بالأسئلة: ولماذا العجلة؟ بقى على موعد الغروب أكثر من ساعة، وبيتكم قريب. وعلى كل حال، سوف أبيت الليلة هنا، فهل سأراك غدًا؟ وهل يمكننى الذهاب معك إلى النجع، لشراء خبزٍ لى وعَلَفٍ للحصان؟ أنتِ لم تخبرينى باسمكِ، وماذا كنت تفعلين بأعلى الجبل؟

ـ وما اسمك أنت؟

ـ بطاى.

ـ اسم جميل، أراك غدًا فى الصباح يا بطاى.

قبل أن تبتعد عنه أعاد عليها السؤال عن اسمها، فاستدارت إليه من منحدر التلة، وقالت بعذوبة العذراوات وهى تبتسم بعينيها وشفتيها: اسمى «رُوح».