الإثنين 20 مايو 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أبى صبرى موسى

صبرى موسى
صبرى موسى

لم أكن فى صغرى أحب القراءة وأجدها عبئًا مثل المذاكرة، ولكن عندما دخلت بيته ووجدت حجرتى الجديدة مليئة بالكتب، ويحوطها أرفف خشبية يتكأ عليها تراث أدبى لا حصر له.

هذا هو أبى صبرى موسى لم أتلفظ بهذا اللقب منذ ولادتى حتى ساقنى القدر إليه لأقولها له، كنت أقترب من عمر العاشرة عندما تزوجت أمى به فانتقلت من مدينتى بورسعيد إلى بيتى الجديد فى القاهرة لأكمل الحياة القادمة معه، كنت أشعر أننى داخل فيلم سينمائى جديد يكتبه مثل أفلامه الرائعة وأنتظر النهاية السعيدة معه.

بدأت حياتى الجديدة معه وهو يحاول أن يكتشف طفلة صغيرة فى بداية نموها لتكبر بين أحضانه المليئة بالمحبة المطلقة، روادنى الخوف فى أول التقائى به لكنه تفهم وأثبت أنه قادر على احتوائى كابنة له.

واكتشف عدم حبى للقراءة ولكنه تحدى نفسه معى إلى أن يثبت العكس، وفعلًا أعطانى رواية مترجمة من مكتبة الأسرة مكونة من ثلاثمائة صفحة، وقال لى أمامك أسبوع لنتناقش بعدها، وهنا كانت بدايتى للقراءة فعلمنى كيف أحبها، كنت أراقبه دومًا وهو جالس على مكتبه ولم تفلت يداه من الكتب، وكنت أسأله: كيف تعشق الكتب هكذا فيقول لى إنها حياتى أستمتع بها وتمتعنى والكتاب خير رفيق..

حقًا تعلمت منه الكثير ومازلت أتذكر كل نصائحه لى فكان صديقى قبل أن يكون أبى الجديد، كانت آراؤه حازمة معى فكان يعلمنى دومًا كيف أفكر وكيف أتخطى صعوبات الحياة، فقد حالفنى الحظ أن أكون أحد أبطال حياته فكلانا تأثرنا ببعض..

تلاحقنى الذكريات والأحداث معه فى كل وقت، فلم أنسى طرائفه معى عندما كنا نسافر سويا إلى رأس البر مسقط رأسه وأنا اقرأ «حكايات صبرى موسى» آنذاك لأكتشف أن بعض أحداثها حقيقية، وكان يطلعنى على الأماكن والأشخاص الحقيقيون الذين سرد حكايتهم فى الحكايات.

كان منظما ومنمقا، لا أحد يدخل غرفته غيرى، فكنت أحفظ كل ركن فيها وكل ورقة من اين آتت، كنا نتسابق فى القراءة دائما من سيقرأ أكثر ..والبطبع هو الذى يفوز..

كان شخصا ليليا فعندما أذهب فى الصباح إلى مدرستى أجده ينتظرنى حتى أغادر، ولكن قبل المغادرة لابد أن اصنع له كوبا من القهوة فهو من علمنى صناعتها، واتذكر رائحتها حتى الآن.. وتوالت أيامى معه، نقضى لحظاتنا الممتعة معا، أتعلم منه وأستمع إليه بانصات، فكان قليل الكلام وكثير الفعل وقادتنى الأيام لاكتشاف موهبتى فى الرسم ولأتخصص فى هذا المجال، وأول لوحة تولد للنور كانت بورتريها له بالألوان المائية، ولا أعلم كيف رسمتها حتى الآن بهذه الدقة حتى آظهر تعبير وجهه دون ان آراه أمامى فاستشعرت حينها أن وجدانى الذى رسم، وهذا بفضل مراقبتى له طوال الوقت، وكان رد فعله مشجع لى فقد انبهر باللوحة وقال لى اياكى أن تملى أو تتراخى واكملى مسيرتك فى الرسم..

كان خير أب، أشبعنى عاطفيا، لم أكن من الفتيات اللاتى لهن قصص حب ومغامرات فى الحياة، فقط لأن لى أب حنون ومعطاء، لم أكن أرى غيره، فكان يملأ وقتى ويستمع لى رغم انشغاله بكتبه التى لا تغلق أبدا فاحتوى مراهقتى بسلام حتى نضجت عقليا لاختار شريكا للحياة بالعقل قبل القلب، بفضل خبرتى التى اكتسبتها منه ونظرته للحياة بشكل مختلف عن الآخرين.. كان يصطحبنى معه فى معظم أحداثه الثقافية من اتحاد الكتاب إلى مجلة صباح الخير إلى المحافل الادبية، لكنه كان يرى معظمها عبث لا فائدة منها طالما لم تنتج مثقفين يحملون راية الأدب إلى بر جديد وفكر مستنير، لكنه لم يغلق بابه أمام الشباب أبدا فكان يعرف المثقف والمجتهد ويقف بجانبه ويشجعه لخوض التجربة ويبدى ملاحظاته بحب ويعطيه الأمل فى المستقبل.