السبت 02 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

يوم أن رقص العالم على أنغام الطنبورة

فرقة الطنبورة
فرقة الطنبورة

لم أعرف فرقة الطنبورة البورسعيدية ومؤسسها زكريا إبراهيم فى مصر، بل التقينا فى الأردن عام ١٩٩٧، ومازلت أذكر تلك الليلة، وكنت من المشاركين فى مهرجان مسرحى للفرق المستقلة، يقام بين فرقة الورشة من مصر وفرقة الفوانيس من الأردن، والمهرجان كان يعمل خارج سياقات المؤسسات الرسمية والتقليدية، فى محاولة للجمع بين هذه الفرق الحرة وخلق علاقات بينها.. وكان بمثابة فضاء للاحتكاك والاستفادة بين هذه الفرق المستقلة من جميع أنحاء العالم، وما زلت أذكر ذلك اليوم الذى أخبرنى فيها المخرج المسرحى حسن الجريتلى عن فرقة الطنبورة التى سوف نشاهدها الليلة، وتساءلت عن مشاركة فرقة غنائية استعراضية فى مهرجان مسرحى للفرق المستقلة؟ وفى المساء كانت المفاجأة حالة من السعادة الغامرة بفرقة الطنبورة البورسعيدية.. التى أدهشت الجنسيات المختلفة المشاركة فى المهرجان، فما إن بدأت الفرقة فى العزف على السمسمية والغناء الفلكلورى.. راح الجميع يرقص على أنغام السمسمية ويغنى.. فعلى مدى حفلتين على خشبة المسرح الملكى.. أُدهش هؤلاء الحضور بالآلة الفرعونية والغناء المصرى الشعبى الذى اتضح فيما بعد أنه جاء محصلة لتراث عشرات السنين حين التقت شعوب وثقافات من مواطن عديدة؛ لينصهر تراثها عند بوابة القناة اعتبارًا من الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، من خلال أفواج الطوائف العاملة فى الميناء، من صانعى السفن والنشارين والقلفطية والبمبوطية وعمال الشحن والتفريغ، ممن هاجروا إلى بورسعيد من دمياط القريبة حاملين معهم تراثهم الغنائى، فكانت «الضمة» مع السمسمية التى راحت تعبر عن الأحداث الوطنية بتراثها الشعبى. وفى اليوم التالى دار بينى وبين زكريا إبراهيم حوار طويل امتد لسنوات بعد ذلك، وأنا أشاهد الفرقة فى القاهرة، وكيف يتفاعل معها الجمهور، وأخبرنى زكريا إبراهيم أن الفرقة أخذت هذا الشكل المعروفة به الآن عام ١٩٨٩؛ بهدف الحفاظ على هذا التراث الغنائى؛ لتأخذ بعد ذلك اسم الطنبورة «الآلة الفرعونية»، بإعادة اكتشافها واستخدامها فى مصر الحديثة- لأول مرة- مع أغانى السمسمية والضمة، التى تختلف فى الألحان والمقامات، ورحت فى هذه الحفلة أتامل أداء الفرقة التى تعتمد على مجموعة من الآلات، مثل الطبلة والرق والمثلث والشخاليل، هذا بالإضافة إلى آلة الطنبورة الفرعونية وآلة السمسمية، حيث تقدم الفرقة أغانيها فى حالة استعراضية احتفالية تعتمد على الغناء والموسيقى والتشخيص الحركى على خشبة المسرح والأداء الجماعى، فالفرقة لا تعتمد على النجم الواحد، بل الجميع نجوم يجيدون العزف والغناء.. فروح الجماعة هى التى تشكل هذه الحالة الاستعراضية التى تسعى إلى المسرحة فى فرقة الطنبورة والمهارات المتنوعة لهذا الفريق، فكل منهم له أغنية أو حالة يؤديها، والجميع يشارك معه بين العزف والرقص والغناء، فكان من الطبيعى أن تشارك فى مهرجان مسرحى للفرقة المستقلة، فلم تكن الفرقة تحفظ التراث فى صورة كلمات وألحان بقدر ما كانت تجسد روح هذا التراث من خلال الأداء الحركى الذى يجسد أداء الصيادين والتفاعل مع الجمهور، وبالإضافة إلى جمع وحفظ وإحياء التراث الموسيقى الشعبى المنفرد، وربطه بالحياة القومية من مصر، والفرقة فى أدائها تتفاعل أيضًا مع المسرح الارتجالى، وتجسد حالة مسرحية، من خلال أداء هذا الموروث، بل وتعبّر الفرقة عن أهدافها من خلال موال يسبق واحدة من أغانيها الشائعة، والتى يحفظها الجمهور «والنبى يا غزال» والموال يقول «يا ليلى يا ليلى يا ليل/ يا عازف الأوتار قسّم من الأول/ قول موال على ده الحال من الأول/ وأقول يا ليل وكل ليل وله أول/ يا ما قاسينا وصبِرنا من الأول/ لكن الصبر جميل والصبر بينوّل/ وادى الصحبة اتجمعت فى جو حظ من الأول/ علشان نغنى التراث ونعيده من الأول». والفرقة تغنى التراث «حاصل ما جمعته على مدى سنوات»، وتعيده من الأول، تعيده فى أداء معاصر يستمد جذوره من تراث منطقة القناة، وما زلت أذكر كيف رقص العالم على أنغام السمسية والأغانى التى استمعت إليها من الفرقة وتفاعل معها ومنها «صلى ع المصطفى، على بلدى ليش ما تاخدونى، أنا البابور، علشان الحبايب، والنبى يا غزال» هذه الأغانى المتنوعة التى جاءت بين الدينى والعاطفى؛ لتمثل البيئة الشعبية المصرية بكل مفرداتها. 

أكتب عن فرقة الطنبورة، وأرى أنه الرثاء الأجمل الذى يليق بمؤسسها زكريا إبراهيم، الذى رحل منذ أيام، هذا الفنان الذى عاش فى طفولته تجربة التهجير من مدن القناة فى فترة الحرب مع إسرائيل وشارك فى فرقة مسرحية فى السنبلاوين فى تلك الأيام وتعلم خلالها أن يحفظ الذكريات بالرقص والغناء، وأكمل تعليمه فى معهد التعاون الزراعى، وفى أثناء الدراسة شارك بقوة فى الحركة الطلابية سبعينيات القرن الماضى مما أكسبه خبرات عديدة جعلته يصل بفرقة الطنبورة إلى العالمية، حيث قدمت الفرقة أعمالها فى فرنسا وسويسرا وبلجيكا والسويد وهولندا ولبنان والأردن وفلورنسا، ليؤسس بعد ذلك مركز المصطبة للموسيقى والفلكلور، ومن خلاله كانت الطنبورة تقدم أعمالها للجمهور فى مواعيد منتظمة. وبعد رحيله أتمنى الحفاظ على هذه الفرقة والتراث الكبير الذى جمعته الفرقة، والتى ربطتها علاقة دعم وشراكة بفرقة الورشة مع حسن الجريتلى، وخالد ونجيب جويلى، لذلك أتمنى أن يكون لديهم بعض الحلول للحفاظ على الفرقة وتراثها والجهد الكبير الذى بذله الفنان زكريا إبراهيم.