خليل عبدالكريم يكتب: مَن الذى قتل فرج فودة؟
«بعيدًا عن شهادة الشيخ محمد الغزالى، كتب المحامى والكاتب والباحث الكبير خليل عبدالكريم مقالًا مهمًا فصّل فيه أسباب اغتيال فرج فودة، وفى المقال اتهام واضح للشيخ الغزالى بأنه كان واحدًا من قتلة فودة، حيث شارك فى مناظرة معرض الكتاب الشهيرة، وحمل على الشهيد الراحل بما كان تحريضًا واضحًا عليه، ويعلق عبدالكريم الجرس فى رقبة القتلة الحقيقيين، فمَن قاموا بالتنفيذ لم يكونوا سوى أداة، وقد نشر المقال فى جريدة الأهالى».
هل هما الشابان اللذان ارتكبا الجريمة النكراء؟ أم هم الذين خططوا لها؟
فى اعتقادى أن هؤلاء جميعًا كانوا أداة تنفيذ فحسب.
أما من اغتاله فهم الذين يتوهمون أن روح القدس قد حل فيهم فأوحى إليهم شعاراتهم ومقولاتهم التى يحرم على أى شخص كان أن يعقب عليها أو يناقشها، فما بالك إذا تصدى لها وكشف عن زيفها وعوارها، فإن تجاسر وفعل رموه بالإلحاد والكفر والمروق من الإسلام والخروج من الملة وإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ويصدق البسطاء ذلك كله ويرددونه حتى يغدو حجة مسلمة لا يأتيها الباطل من أى مكان ويؤتى ثماره إن آجلًا أم عاجلًا.
تلك الشعارات والمقولات التى يروجون لها لا يقصدون بها وجه الله تعالى ولا خدمة الإسلام ولا نفع المسلمين، لكنها تصاعدت من أعماق نفوسهم التى يؤرقها ويقض مضاجعها ويطير النوم من عيونها حلم السلطة، يتساوى فى ذلك أصحاب الخطاب الدينى بكل فصائله ومختلف فرقه: أصحاب الخطاب الدينى المنغلق أو المتوسط الانغلاق أو مدعى الاستنارة الرسمى والعرفى الحكومى والأهلى، القومى والحزبى، إنه اختلاف فى النبرة أو التون بحسب تعبير أهل الصنعة الموسيقية، فرق فى الدرجة لا فى النوع، قد يكون بينهم تنازع أو تخاصم أو تنافس، ولكنهم جميعًا يقفون على أرضية واحدة وينطلقون من ذات الفكرة، وهى ضرورة إنشاء الدولة الثيوقراطية التى تحكم العباد والبلاد بالحق الإلهى المقدس، ولكل من يتردد فى الاقتناع بهذه الحقيقة الواضحة نسوق إليه هذه الواقعة التى رواها واحد منهم، ومن ثم ينطبق عليها قول الحق تقدست أسماؤه «وشهد شاهد من أهلها».
الشيخ عبدالغفار عزيز وهو مدرس فى جامع الأزهر عندما دخل البرلمان ذهب إلى الشيخ جاد الحق على جاد الحق لينال منه البركة، فأوصاه الأخير: شد حيلك وضع يدك فى يد الشيخ صلاح أبوإسماعيل علشان تطبقوا لنا الشريعة.
هذا ما سطره الشيخ عبدالغفار فى مقال ظهر له بجريدة الوفد، وتطبيق الشريعة هو الرمز الكودى «الدولة الثيوقراطية» مع أنه كان فى ذلك الوقت بين الشيخ جاد الحق والشيخ صلاح أبوإسماعيل رحمه الله ما صنع حدادو العالم، إنما كله يهون من أجل سواد عيون الدولة الحلم التى يخطط لها سائر الفرقاء والاستنارة.
إن الأدلة على ذلك كثيرة ويضيق الحيز المتاح لنا عن تعدادها، ومن ثم فنكتفى بذكر اثنين يؤكدان بصورة قاطعة ما نذهب إليه ويكشفان عن قتلة الشهيد.
الأول: فى يناير الماضى- ١٩٩٢- أقامت الهيئة المصرية العامة للكتاب مناظرة موضوعها «مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية»، دافع فيها عن الدولة المدنية نائب رئيس حزبنا المناضل أستاذنا الدكتور محمد أحمد خلف الله والشهيد فرج فودة، فى أثنائها لم يقصر من كان يدافع عن الدولة الدينية فى الغمز واللمز والإيحاء لألوف الشباب الذين شهدوها بأن المدافعين عن الدولة المدنية كارهون للإسلام وملوثون لرموزه وتاريخه، بل إن أحدهم وقد كان إلى وقت قريب أكثر من علمانى- يقصد محمد عمارة- ولا نزيد على ذلك، قال إن فرج فودة يستقى معرفته بالتاريخ الإسلامى من كتاب ألف ليلة وليلة، وخرج أولئك الشبان مشحونين بالغضب والحقد على الشهيد فودة جراء ما قاله هو وزميلاه.
ولم يقف الأمر عند ذلك، بل إن الصحف والمجلات الإسلاموية معارضة وحكومية حتى الجرائد العادية لبعض أحزاب المعارضة التى يسيطر عليها راكبو الموجة الإسلامية انتهزتها فرصة لتلطيخ سمعة الشهيد فودة ووصفه بكاره الإسلام لأنه علمانى والعلمانية والاسلام نقيضان لا يجتمعان، ومن ينادى بالدولة المدنية يرفض الإسلام ولا يطيق سماع اسمه ويقف حجر عثرة فى طريق قيام دولتهم التى ستملأ الأرض عدلًا بعد أن ملأتها الدولة العلمانية جورًا وفجورًا وظلوا أسابيع طويلة يعزفون على هذه النغمة يوغرون بها صدور الشباب، ونحن نعرف ما يعانيه من إحباط وما يحوطه من أزمات.
الآخر: عندما تقدم الشهيد طالبًا تأسيس «حزب المستقبل»، قام الأزهر بتشكيل لجنة أو ندوة من عدد من الوعاظ وأئمة المساجد للرد على مزاعم العلمانيين ضد الإسلام أصدرت بيانًا نشرته جريدة النور يوم ٣ يونيو ١٩٩٢، أى قبل الاغتيال بأربعة أيام فقط جاء فيه:
العلمانية تساوى اللا دينية، الحزب يقوم على الدعوة إلى التخلص من هذا الدين، د: فرج فودة علمانى حتى النخاع، شديد العداوة لكل ما هو إسلامى ويفرط فى عداوته لتواجد الشعائر الإسلامية وظهورها فى ساحة الإعلام والسياسة، ويقول بتفوق القانون الوضعى على الشريعة الإسلامية، إنه ضد تطبيق الشريعة فورًا، أو حتى خطوة خطوة، وهذه مقتطفات سريعة ومن أراد فليرجع إلى البيان.
ومن المضحك المبكى أن أحد الوعاظ الذين حرروا هذا البيان القاتل كان عضوًا فى حزب علمانى ودخل إلى مجلس الشعب ضمن قائمته، إنما عرفهم الغاية تبرر الوسيلة ولا غضاضة فى ارتداء زى العلمانية ما دام ذلك يقرب خطوات إلى الحلم الذهبى.. الحكم والسلطة.
ونرجح أن القارئ الكريم يوافقنا على أنه لا توجد عبارات أكثر إثارة للشباب وأشد تحريضًا لهم على القتل من العبارات التى وردت فى بيان لجنة الوعاظ والأئمة التى شكلها الأزهر، ولذا كان من المتوقع أن الشاب الذى ضبط عندما سئل عن سبب اشتراكه فى الجريمة البشعة أجاب ببساطة لأنه علمانى وشيوعى وملحد «مجلة أخبار الحوداث ١١ يونيو ١٩٩٢»، والبيان وصف د. فودة بأنه علمانى حتى النخاع وبأن العلمانية تعنى اللا ديني، أى أنه لا دينى حتى النخاع بشهادة رجال أكبر مؤسسة دينية فى البلاد، هكذا نجح الأزهر فيما استهدفه وقدم من صدق كلام وعاظه وأئمته وآمن به وترجمه عملًا فرج فودة ضحية فى عيد الأضاحى، حتى يكون عبرة لمن ينهجون نهجه، وليعوا الدرس جيدًا ولكيلا يقفوا حجر عثرة فى وجه من يدبر سرًا وعلانية لإقامة الدولة الثيوقراطية فى مصر لتعيدها إلى ظلاميات القرون الوسطى.
ولكن هيهات، فإن الفكر المستنير لا يموت بتصفية أصحابه جسديًا، هذا ما أثبته التاريخ شرقًا وغربًا، قديمًا وحديثًا، ولعل مما له عبرة فى هذا المقام تحدونى لذكره أنه فى صباح اليوم الذى استشهد فيه د. فودة حضر إلى منزلى فتى من الفرنجة يحضّر رسالة دكتوراه عن مفكر إسلامى اغتالته يد العنف الطاغوتى الحاكم فى بلد عربى شقيق بمباركة جماعة رجعية دموية، وكان الباحث قد قرأ مقالة كتبتها منذ عدة سنوات عن المفكر المذكور استشعر منها أننى درست مؤلفاته بعناية فائقة، استهلك الباحث الأوروبى من وقتى ساعتين يسأل ويستقصى ويمحص، وعندما وقفت أودعه ألح علىّ خاطر مفاجئ وهو أن الفكر التقدمى لا يندثر وإن أودت مخالب الإرهاب بحياة مبدعه الذى تظل ذكراه خالدة لدى قومه وعند كل من يقدر الكلمة المضيئة الشريفة.
رحم الله الأخ والصديق الشهيد فرج فودة وأنزله منازل الشهداء.