السبت 02 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

اقرأ باسم ربك.. تفسير سورة العلق بقلم زكى نجيب محمود

زكى نجيب محمود
زكى نجيب محمود

فى كتابه «الخصائص» يلفت «ابن جنى» أنظارنا إلى ما يسميه هو بالاشتقاق الكبير، وكتاب «الخصائص» مؤلف ضخم يقع فى ثلاثة مجلدات، يبحث فى خصائص اللغة العربية، وهو- كما ذكرت عنه فى مناسبة سابقة- أقرب شىء إلى ما نسميه اليوم بفلسفة اللغة، ولست أعرف فى تراثنا العربى كله، ما ينافس «الخصائص» فى موضوع بحثه، عمقًا، وإسهابًا، وأحسب أن علماء اللغة قبل ابن جنى، لم يعرفوا إلا ضربًا واحدًا من الاشتقاق، وهو ذلك الذى يتعقب الألفاظ التى يمكن أن تتولد من أصل لغوى واحد، فمن الأصل «كتب» تولد «كاتب»، «مكتوب»، و«كتاب»، و«كتيبة»... إلخ، أما الاشتقاق الكبير الذى يلفت ابن جنى أنظارنا إليه فشأنه شأن آخر، وخلاصته أن الأحرف الثلاثة التى يتركب منها الأصل الثلاثى، لتعطى معنى معينًا، يمكن أن نغير فى ترتيبها، فنحصل بذلك على كلمات أخرى، لكل منها معناها، لكنها جميعها لابَّد أن تكون ذات صلات ببعضها ببعضًا، لأنها تكون أشبه بأفراد الأسرة الواحدة، كل فرد منهم متميز بفرديته، لكن يظل الشبه الأسرى قائمًا بينهم جميعًا، ثم ضرب ابن جنى أمثلة يوضح بها ما زعمه عما أسماه بالاشتقاق الكبير.

وعلى طريق ابن جنى، وجدت نفسى مدفوعًا إلى إمعان النظر فى كلمة «اقرأ»، وذلك عندما أحسست فى لحظة من لحظات التأمل، بأنه لا بَّد أن تكون هناك أبعاد بعيدة الأعماق، لأن يكون أول الوحى الإسلامى هو هذا الأمر الإلهى «اقرأ»، وقد يكون هنالك من العلماء السابقين أو المعاصرين، من تقصَّى تلك الأبعاد، لكن ذلك- حتى إن وُجد- لا يمنعنى من متعة التفكير، بل من واجب التفكير، لأن عملية التفكير لمن يحسنها، واجب ومتعة معًا، فكانت أولى خطوات التفكير عندى، محاولة الإفادة بمبدأ ابن جنى فى الاشتقاق الكبير، لأن ذلك من شأنه أن يُصوب الأضواء على ما يمكن أن يكون وراء الكلمة من الأبعاد التى نبحث عنها.

الحلال حلال لأن شريعة الله قد أحلَّته والحرام حرام لأن شريعة الله قد حرمته وهما بغير شك مطاعان عند المسلم لمجرد أنهما شريعة الله

فمن الأحرف التى تتكوَّن منها كلمة «قرأ»، يمكن استخراج كلمة «أرق» وكلمة «أقر»، فلننظر- إذن- إلى هذين اللفظين المستخرجين، ثم نعود بعد ذلك إلى الكلمة التى هى موضوعنا، وهى الأمر القرآنى «اقرأ» وكونه أول ما نزل به الوحى.

أبدأ بالأرق، وللأرق علاقة وثيقة وحميمة بالحياة، فالذى يتأرَّق هو الكائن الحى على وجه العموم، والإنسان على وجه الخصوص، فالمادة الموات لا تتأرق لشىء، الحجر لا يؤرقه أن تسفعه الريح العاتية سفعًا، ولا أن ماء المطر يغرقه، ولا إذا شاءت له حرارة الشمس أن يلتهب وتتفتت أجزاؤه، فليس له فى طبيعته إلا أن يتلقى ما يتلقاه، إنه ينفعل ولا يفعل.. ولا كذلك الكائن الحى على إطلاقه، فماذا تقول فى الإنسان؟ ولقد كنت وقعت ذات يوم على تعريف للحياة- أغلب ظنى أننى صادفته مرتين، إحداهما عند هربرت سبنسر، والثانية عند برتراند راسل- وخلاصة ذلك التعريف، هو أن الحياة إن هى إلا تعاقب مستمر بين حالتى التوتر والارتخاء فى الكائن الحى، وذلك أن الكيان الحى ذو حاجات عضوية، من غذاء وماء وغيرهما، فإذا أحس ذلك الكيان الحى بالحاجة إلى غذاء توترت أجهزته العضوية، حتى إذا ما سرى فيه الغذاء المطلوب، استراح واسترخى، وهكذا دواليك طالما كان الكائن حيَّا، فإذا وجهنا أنظارنا إلى الإنسان، وجدنا تلك المراوحة لا تقتصر على الحاجات العضوية وحدها، بل تُضاف إليها فى هذا السبيل حاجات عقلية وحاجات وجدانية، أشد إلحاحًا عليه وأقسى، فانظر كم تتأزم نفس الإنسان إذا افتقد «الحرية» فلم يجدها، وإذا طلب «العلم» فسُدَّت أمامه الطرق، وفى كل حالة من حالات تأزمه لنقص فينا يشبع حاجاته العقلية والوجدانية، يتوتر كيانه كله، فلا يستريح إلا إذا أشبعت له حاجته الظامئة- وذلك هو الأرق الذى تتصف به كل حياة، وتتصف به حياة الإنسان بصفة أخص، وأدق، وأسمى.

ولم يَعُد الآن موضعًا لغرابة، إذا تناولنا اللفظ الثانى الذى استخرجناه من مادة «قرأ» وهو كلمة «أقر»، فقد رأينا فى الأرق أنه اضطراب يعقبه استقرار عندما تُشبع الحاجة، وهكذا تكون كلمة «أقر» فى معناه جزءًا من «أرق» ومعناها.

فإذا عدنا إلى «قرأ»، رأينا فى معناها ذلك العُمق الذى ظهر من النظر إلى شقيقتيها السالفتين، ففى فطرة الإنسان التى خلق عليها، حاجة حيوية لأن «يعرف» ما استطاع معرفته عما حوله، وعما فى نفسه، فتلك المعرفة عند الإنسان، ليست للزينة، أو للمفاخرة، بل هى لحياته كضرورة الهواء يتنفسه، والماء يشربه والطعام يأكله، فما لم «يعرف» الإنسان ما بدَّ من معرفته عن المكان الذى يسكنه وعن الزمان الذى يحيا فيه، لما استطاع العيش يومًا واحدًا، انظر إلى أهل الكهف حين استيقظوا، وسعوا فى المدينة وهم لا يعلمون أن الزمان قد تغير عما ألفوا، فتعذر عليهم التفاهم والتعامل، وإنه لمصير محتوم على كل إنسان يبتر الروابط عن ظروف مكانه وظروف زمانه، سواء أجاء هذا البتر بإرادته أم جاء مفروضًا عليه، فشرط الحياة للإنسان، حتى وهى فى أبسط درجاتها، هو أن «يعرف» ذلك الإنسان فى أىِّ مكان هو، وبأى زمان يستظل، ثم تتدرَّج معرفة الإنسان لمكانه وزمانه، تدرجًا يتفاوت فيه الصعود بتفاوت الأفراد. على أن صلاحية المعرفة المكسوبة- وأعنى صلاحيتها كمَّا وكيفًا- مسألة لا تُقاس بما يعرفه كل فرد على حدة، وإنما تُقاس بما تعرفه مجموعة الأفراد معًا فى شعب معين، إذ المطلوب ليس هو أن يعرف كل مواطن كل شىء، بل المطلوب هو أن يكون حاصل جمع ما يعرفه أبناء الشعب المعين، فيه ما يكفى لحياته كما يريد لنفسه أن يحيا.

هى فطرة الإنسان، التى لا تكلف فيها ولا تصنع، هى فطرته أن يكون على «معرفة» ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.. فإذا لم يشبع من فطرته تلك حاجتها من المعرفة «تأرقت» نفسه لذلك النقص الذى يحد من إنسانيته، بل يحد من قدرته على الحياة، وأما إذا أشبع تلك الحاجة «أقر» بذلك نوازع نفسه، ولكن ما وسيلته إلى تلك المعرفة التى هى من حياته بمثابة القلب والصميم؟ وسيلته إليها هى أن «يقرأ»، ومن هنا كان أول الوحى هو: «اقرأ».

القراءة أمرٌ إلهىٌ للإنسان، بل هى من الأوامر الإلهية أوَّلها نزولًا، فهل نخطئ إذا قلنا عن القراءة إنها عبادة؟ ولكن ما كل قراءة هى فى ذلك القبيل الأسمى، بل إن من القراءة ما يضل ويُفسد، إذن، فماذا تكون؟ وكيف تكون؟ إن الإجابة تتبدّى فى صيغة الأمر الإلهى نفسه: «اقرأ وربك الأكرم. الذى علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم» و«اقرأ باسم ربك الذى خلق». فى كلتا الحالتين يأتى الأمر بالقراءة متبوعًا باسم الله، فليست القراءة الواجبة- إذن- هى قراءة الآلى، وإنما هى القراءة التى تفك بها الرموز، فيكشف عن الكنوز المكنونة من معرفة لما كتبه قلم يحمل علمًا كان مجهولًا للإنسان قبل قراءته «الحالة الأولى»، ومن معرفة لما خلقه الله، وذلك بدراسته ما وسع الإنسان أن يدرس ليعلم «الحالة الثانية».

هى قراءة مزدوجة، فرع منها يقرأ الكلمات، وفرع آخر يقرأ مخلوقات الله، والفرعان كلاهما يستهدفان هدفًا واحدًا، وهو، «المعرفة» بعد فك الرموز والكشف عما تعنيه، ولعل الأمر يزداد أمامنا وضوحًا إذا ذكرنا محاولة من أهم محاولات الفلاسفة المسلمين الأولين، وهى محاولة قد وفقوا فيها إلى حدِّ بعيد، وأعنى محاولتهم أن يبينوا بأنَّ الحقائق التى نزل بها الوحى قرآنًا هى نفسها الحقائق التى يصل إليها العقل علمًا، وربما كان أمتع وأنفع ما نقرؤه فى هذا المجال، هو كتاب «حى بن يقظان» لابن طفيل، فهو «أمتع»، لأنه «أدب من حيث الشكل الروائى»، وهو «أنفع» لأنه وضع أمام قارئه إنسانًا نشأ وحده على جزيرة ليس فيها إلا نبات وحيوان وكائنات مادية كالأرض والماء والشمس، فلما نما جسمًا، ونضج عقلًا، استطاع من تأمل المخلوقات التى حوله، أن يستدل بعقله المحض على وجود الله، وطبائع الأشباه، وأريد للقارئ أن يتأمل الاسم الذى اختاره ابن طفيل لبطل روايته الفلسفية، إذا استخدمنا مصطلحات الأدب فى عصرنا، وأحب هنا أن أضيف حقيقة إملائية، وهى أن القارئ إذا ما رآنى قد كتبت «ابن طفيل» بحرف الألف فى «ابن»، فذلك هو الصواب، لأن الألف فى «ابن» لا تُحذف إلا إذا جاءت بين اسمين كقولنا: «عمر بن الخطاب»- أعود إلى سياق حديثى، فأقول إننى أريد للقارئ أن يتأمل اسم «حى بن يقظان»، ليرى كيف أحسن ابن طفل اختيار الاسم، لأنه إذا كان الإنسان المعزول وحده فى جزيرة منذ وُلد، قد استطاع بعقله أن «يقرأ» الكائنات من حوله، قراءة كشفت له عن الحق سبحانه، وعن حقائق الأشياء وطبائعها، فذلك لأنه لم يكن غافلًا ولا لاهيًا بما يسمع ويرى، أعنى لم يكن غافلًا أو لاهيًا عندما «قرأ» الذى قرأه فيما حوله، فذلك لأنه «حى» بكل معنى الحياة، ولأنه «يقظان» بكل وعيه وإدراكه.. فهذا الذى صنعه الفلاسفة المسلمون الأولون، حينما بيَّنوا التقاء ما نزل به الوحى، وما يدركه العقل باستدلالته وبراهينه، يوضح لنا ما قلناه عن القراءة بشعبتيها، وتلك هى القراءة العابدة، لأنها قراءة باحثٌة كاشفةٌ عارفة.

ومن هذا الذى قدَّمناه، تتولد نتيجة أراها ذات أهمية كبرى فى رؤيتنا الإسلامية من جهة، وفى تربية أبنائنا على تلك الرؤية من جهة أخرى، وأعنى بها النظرة التى ننظر بها إلى الحلال والحرام، اللذين هما جوهر الشريعة، فالحلال حلال لأن شريعة الله قد أحلَّته، والحرام حرام لأن شريعة الله قد حرمته، وهما بغير شك مطاعان عند المسلم لمجرد أنهما شريعة الله، وهناك علماء من أفضل العلماء، يرون أن طاعة المسلم فيما حلل له وما حرم، يجب أن تؤخذ بغير أن يسأل: لماذا كان الحلال حلالًا وكان الحرام حرامًا؟ والرأى عند كاتب هذه السطور هو- بكل التواضع الذى يقبل التصحيح بلا تردد إذا ظهر له أن فى الرأى خطأ هو لا يراه، أقول: إن الرأى عند كاتب هذه السطور هو أن الخير كل الخير أن نسأله: لماذا؟ وأن نحاول الجواب والبيان وهذا الرأى أبنيه على ازدواجية القراءة التى أسلفت ذكرها، فإذا كان الأمر هو كما بيَّنه الفلاسفة المسلمون الأوَّلون، أن العقل يمكنه بالاستدلالات الصحيحة من وقائع العالم كما تقع لنا، أن يستنتج الأحكام التى نزلت وحيًا، كان معنى ذلك هو أن الحلال والحرام هما النافع والضار فيما يدركه العقل، لو أنه تعقب حقائق الأشياء وطبائعها ونتائجها القريبة والبعيدة، فكل حلال إنما هو فى حقيقته الواقعية، شىء يُفيد فائدة مطلقة، لا يحتمل أن يشوبها ضرر مهما امتدَّ حبل النتائج التى تترتب عليه، وكل حرام هو شىء ضار، قد يظهر ضرره فور وقوعه، وقد يكون ضررًا كامنًا تظهر نتائجه بعد حين قصير أو طويل، وأعتقد أن بيان ما هو حلال وما هو حرام، لمن نربيه على الإسلام، يزداد عمقًا فى نفس المتعلم- وفى نفس المسلم عامة- إذا «عرف» بعقله لماذا حلل الحلال، وحرَّم الحرام، إن الأوامر والنهى لا يتبدل فيهما شىء، عندما ينتقلان من مرحلة القبول الذى لا يسأل عن الأسباب، إلى القبول ومعرفة أسبابه، ففى تربية الوالد الرشيد لولده، يأمره بأفعال وينهاه عن أفعال، لكنه يمسك عن ذكر الأسباب إذا رأى طفله أقل قدرة على إدراك تلك الأسباب، لكن كلما نما ولده وازداد قدرة، اتسع المجال أمام ذلك الولد، ليشرح لولده لماذا كان الأمر ولماذا كان النهى.

لكنه فى الوقت الذى لا يتغير فيه شىء من الحلال والحرام، بين أن يكون الإنسان على علم عقلى بالأسباب، أو لا يكون على شىء من ذلك العلم، فإن الفرق كبير فى الإنسان نفسه، بين أن يعلم تلك الأسباب وألا يكون على علم بها، فاستعداد الإنسان لقبول أحكام بغير علم بمبرراتها، قد يتسع مداه فى حياته الإدراكية- دون أن يشعر بذلك- من دائرة الطاعة الصامتة فى مجال الدين، إلى الطاعة الصامتة كذلك فى مجال العلاقات الاجتماعية، بما فى ذلك علاقة الحكومة بالشعب، وعندئذ قد يطغى من يطغى، دون أن يكون من حق المحكوم أن يسأل لماذا؟.. ثم قد يتسع المدى كذلك لينتقل الإنسان السلبى فى طاعته، من دائرة الأحكام الدينية، إلى دائرة الاعتقادات التى لا هى من أحكام الدين فتطاع بغير سؤال من العقل، ولا هى من المعرفة العلمية التى محَّصها العقل وأثبت صحتها قبل قبولها، وأعنى بتلك المجموعة الضخمة من الاعتقادات، التى لا هى من دين، ولا هى من علم، تلك «الخرافات» التى إذا شاعت ودامت مع الناس، رسخت فى نفوسهم كأنها حقائق لا موضع فيها لجدل أو سؤال، لا سيما إذا كانت الأغلبية الغالبة من الشعب قد حُرمت من الحد الأدنى من التعليم والتثقيف، ذلك الحد الأدنى الذى لا يسمح لصاحبه أن يقبل رأيًا، أو فكرة، أو حكمًا، أو صورة من صور السلوك، إلَّا إذا كان لها مُبرر معروف.

وارتفع بالمسألة المطروحة درجة، لأقول إن عقيدة المسلم هى أن الإسلام دين لكل زمان ولكل مكان، ومن الحكمة أن نُبين للناس ذلك الأساس الذى يُؤيد صدق عقيدة المسلم فى دينه، والأساس هو استناد الإسلام إلى «العقل» ليكون هو أداة الإدراك كلما أريد للفكرة المدركة أن يكون لها ثبوت وثبات، وليس الإسلام هو المسئول، إذا نشأت جماعة من المسلمين على تربية تبيح لهم أن يبيعوا عقولهم من أجل خرافة ووهم، فالحقيقة العقلية وحدها هى التى تستطيع بحكم طبيعة تكوينها- أن يدوم لها صدقها مهما تغير بها المكان أو الزمان، وإذا قلنا الحقيقة العقلية فقد قلنا الحقيقة العلمية، إذ لا فرق- فى الأساس- بين العبارتين، وهل يتأثر الصدق فى قولنا «إن الاثنين نصف الأربعة» مهما تغير المكان أو الزمان الذى تُقال فيه؟

من هنا يكون الفرق بين أن تذكر لى أسلوبًا معينًا من أساليب العيش، قائلًا لى إنه أسلوب جيد أو أسلوب ردىء، وبين أن تذكر لى فى الوقت نفسه «المبدأ» العقلى «أى التعليل» الكامن وراء ذلك الأسلوب من أساليب العيش، فيجعله حسنًا أو رديئًا، لأن المبادئ العقلية، أو قل: الحقائق العلمية هى وحدها التى لا يتغير من صدقها شىء برغم تحولات المكان والزمان، وفى هذه المناسبة أروى عن سقراط، وقد كان فى موقفه من تاريخ الفكر الإنسانى، ينقل المفاهيم العامة والمهمة فى حياة الناس، ينقلها من حالات الغمموض والإبهام إلى حالة التحديد العلمى، ليتبين صدقها أو بطلانها، فلقد صادف سقراط شابَّا فى ساحة المحكمة، وسأله عما جاء به إلى هناك، فقال له الشاب «وهو أوطيفرون»: جئت لأشكو أبى، لأنه قتل عبدًا فى المزرعة بغير حق، مما قد جاوز بالوالد حدود التقوى، فسأله سقراط، وما هى حدود التقوى؟ فأجابه الشاب بما معناه أنها هى الحدود التى جعلت أباه فى قتله للعبد على باطل وضلال، وجعلته هو فى رفع الأمر إلى القضاء، مع أن القاتل هو أبوه، على حق وهدى، فاعترض سقراط على تلك الإجابة، مبينًا للشاب أنه إنما يحدد معنى التقوى بسلوك معين فى موقف معين، مع أن التحديد لا تتوافر فيه الشروط العقلية- إلا إذا جاوزنا الموقف المعين، لنستخرج ما يكمن وراءه من «مبادئ»، لأن المبدأ هو الحقيقة العامة التى تتخطى جزئية السلوك الفردى فى مكانه المعين وزمانه المعين، ليشمل كل سلوك لأى فرد، فى أىَّ مكان، وفى أىِّ زمان.

وهذه النقطة هى عندى بيت القصيد، فلقد كان الإسلام آخر الرسالات الدينية لهذا السبب نفسه، وهو أن الإسلام قد أوكل المشكلات التى قد تنشأ فى حياة الناس، مما لا يكون قد ورد فيه حل قاطع، أوكلها إلى «العقل» الإنسانى، أى أنه أوكلها إلى «العلم»، فكل مشكلة مهمة تعترض حياتنا، هى بمثابة موضع يختص به علم معين، أو مجموعة علوم، إذ قد تكون من اختصاص علماء الطب أو علماء الاقتصاد أو علماء النفس والاجتماع، أو غير ذلك من سائر العلوم، حسب طبيعة المشكلة المطروحة، وما دام الأمر فى تدبير الحياة إذا ما أشكلت على الناس، قد أحيل «فى الإسلام» إلى عقل الإنسان وعلمه، ففيم تكون الرسالات الدينية بعد ذلك؟

إنها رؤية إسلامية، تنظر إلى الإسلام من ناحية إقراره لعقل الإنسان وأحكام ذلك العقل فى استدلالاته إذا ما التزم فيها منهج العلم، وهى رؤية أذكرها، لا لأضيف بها جديدًا من حيث الأساس، بل لأذكر بها من نسيها أو تناسها والذكرى تنفع المؤمنين.