الإثنين 02 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

العارفات بالله.. روحى أنثى صوفية (4).. المرأة «ولية».. حين تصبح سيدة العارفين قطبًا وشيخة

أنثى صوفية
أنثى صوفية

 

على الرغم من أن مرآة الفكر الصوفى عكست صورًا أكثر إشراقًا وتقبلًا لحضور المرأة داخله بلغت ذروتها باستخدام صيغة التأنيث فى التعبير عن الذات الإلهية، كما يتبين فى تائية ابن الفارض، ومع رفض التصوف والمتصوفة اعتبار التمايز الجنسى معيار التفاضل بين الذكر والأنثى، بيد أن الذاكرة الجمعية له تحمل مؤشرات خافتة حول سيدات وصلن لدرجة الشيخة «القُطب»، مما يصعب معها تكوين صورة كاملة حول نظرة الصوفى المتسمة بالمساواة الإنسانية فيما يتعلق بمسألة «الولاية».

نظريًا أجازت أدبيات الصوفية تسليك المرأة، وأن تتدرج فى المراتب لتصل إلى أعلاها وهى «الولاية»، ففى فضاءات الروح تتساوى الحظوظ بين الذكر والأنثى، فحيثما نجد المريد تكون المريدة والعارف والعارفة. وكما أكد الشيخ ابن عربى على أن الرجال والنساء يشتركان فى جميع المراتب حتى فى القطبية، وأجاز إمامة المرأة فى الصلاة، وكان يرى أن دليل ما ينص على حرمة ذلك لا وجود له، وأعطى للمرأة مكانة النفس والرجل مكانة العقل، ويرى أنه يجوز للعقل اتباع النفس حتى لا تتبع الهوى، فقد ذهب إلى أن كل ما صح أن ينال الرجل من المقامات والمراتب والصفات يمكن أن يكون لنظيره من النساء.

تصورات الشيخ الأكبر الفكرية حول الأنثى فيما لو أصبحت قطبًا وخليفة تعنى بأنها ستكون وفقًا لذلك هى صاحبة الوقت، وسيدة الزمان، خليفة اللّه فى أرضه، ونائبة سيد المرسلين فى أمته، لا سقف يحدّها إلا مرتبة النبوة وشخص النبى صلى الله عليه وسلم، وارثة للاصطفاء والاجتباء والخصوصية الآدمية، إذ لا مانع لديه بيولوجيًا أو عقليًا من وصول المرأة إلى أعلى مراتب الولاية.

وعلى الأرجح فإن قناعات ابن عربى بالأهلية الروحية للمرأة تنطلق من باعثين أحدهما شخصى والآخر ظرفى وإذ إن تواجده فى الأندلس مع مجرى الحياة الاجتماعية هناك والتى سمحت للمرأة أن تتعلم وتعمل وتشارك الرجال فى طريق الزهد والتصوف، بل وتتفوق أحيانًا عليهم مقارنة بوضع مثيلتها فى المشرق قد أثرت على نحو إيجابى فى نظرته لمكانة الأنثى وطبيعة الأدوار المنوط لها القيام بها.

الرافد الثانى الذى استمد منه ابن عربى آراءه الفلسفية حول المرأة يتعلق بطبيعته التكوينية الحسّاسة تجاه المرأة حين أحبها من جهة والرعاية الحانية فى محيط الأسرة، أو فى دائرة تلمذته لشيخاته المتعبدات من زاوية أخرى، ومن ذلك حرصه على تزويج أختيْه من أكفاء، من غير القائمين على أمر السلطة، وبناء كوخ من القصب لشيخته فاطمة وخدمته لها عدة سنوات، مما أضفى بعدًا إيجابيًا متزايدًا لتأثيرها فى تكوين أفكاره ورؤيته.

لقد تمظهرت فكرة المرأة الـ«الولية» بالتراث الصوفى على نحو مكثف فى شخصية «رابعة العدوية»، وربما كان فى انتشار أشعارها بين الصوفية ما يبرهن على منزلة المرأة فى هذا الباب، ويستدلل به على أهليتها كجنس لطريق السالكين والعارفين، ومن ثم مشروعية أخذ الرجل عنها، وتربيته فى مجالسها، وتأدبه بنهجها وطريقها، فقد كانت رابعة سباقة إلى التعبير عن تلك الدقائق التى انتبه إليها الصوفية، والتى تهدف إلى تخليص العمل من النقائص التى تشوبه.

وتروى القصص أن الحسن البصرى طرح سجادة على الماء ونادى رابعة لتصلى معه، وتعجبت منه، حيث يعرض نفسه فى سوق الدنيا، وطرحت سجادة على الهواء وأشارت عليه بأن يفعل كما فعلت فلم يستطع أن يحظى بمثل مقامها، فوعظته وحثّته أن يشغل نفسه بالعمل، وهناك فاطمة النيسابورية أستاذة ذى النون المصرى والذى قال لها: عظينى، وقد اجتمعا ببيت المقدس، قالت له: الزم الصدق وجاهد نفسك فى أفعالك.

كما تشير عدد من الدراسات والكتب التى تناولت تاريخ المرأة فى التصوف إلى أن السيدة العابدة كانت تستقبل الرجال لتسمعهم وتجادلهم؛ بل تعلمهم على غرار «صفة الصفوة» لابن الجوزى، «ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات» لأبى عبدالرحمن السلمى، غير أنها تعرضت فقط لأحوال مجاهدتها وبعض الأقوال والأشعار المنقولة ولم تترجم هذه الكتب، دورَ المرأة المتصوفة كـ«واقفة» مثلًا، خصوصًا فى إطار توجُّه النساء عمومًا للوقف على مساجد وزوايا وتكايا.

وبحسب دراسة «سيرة المتصوفات فى التاريخ الإسلامى: وقفات أوليّة عبر تأملات منهجيّة» للباحثة عزة جلال فإنه إذا كان من الممكن تفهُّم ذلك خلال القرون الأولى «من القرن الثانى حتى القرن الخامس تقريبًا»؛ حيث ظل التصوف خلال هذه الحقبة «باستثناء نماذج قليلة» شأنًا فرديًّا يقوم على الزُّهد والعبادة والاعتزال عن الناس؛ فإن تجاهُل الأبعاد الاجتماعية والسياسية والعلميّة لشخصية المرأة المتصوفة فى القرون التالية؛ حيث تبلورت الطرقية «المدارس الصوفية» وبات التصوف ظاهرة اجتماعية، هو أمرٌ يَستدعى التساؤل، إذ لم نسمع عن مدارس صوفية نسائية أو طرُق، كما حدث مع المتصوفة الرجال كعبدالقادر الجيلانى وأبى الحسن الشاذلى.

وهو ما أرجعته الدراسة إلى عدة احتمالات منها تجاهُل المؤرخين، أو تقاعُس التلاميذ فى حق شيخاتهم المتصوفات، أو أن كون التلاميذ والأتباع فى الأغلب من النساء قد حال دون تشكّل مدرسة صوفية خاصة بالشيخة «القُطب».

لكن ثمة أبعاد أخرى تتصل بارتقاء الأنثى سلم العارفين قطبًا أو شيخًا للطريقة منها الجسد والذى مثّل عائقًا أمام التدرج فى مقامات العرفان، إذ يلزم عليها أن تنفى أنوثتها جمالًا وحملًا ودم حيض لترتقى لمراتب الصلاح، وعلى ذلك يكون عليها كشرط لدخول الولاية هو العمل على إمحاء ذلك الجسد، وهو ما قد يتعارض مع نوازعها الفطرية للأمومة، وما تعكسه بعض تراجم المتصوفات حول ما يمكن وصفه بالصراع بين رغبتها فى التفرغ للعبادة والتبتّل، وبين غريزة الأمومة، فكان هناك تنازع بين فطرتها وميلوها الروحانية تتقضى مجاهدة مضاعفة لإدارة هذا الصراع مقارنة بالرجال.

تأثر التراث الصوفى فى المشرق بالفقه التقليدى أفضى إلى حد كبير إلى تجحيم إمكانات بلوغ المرأة منزلة القطبية مما جعلنا بصدد نماذج مفردة لا ترقى إلى مستوى الطرح العرفانى فى نظرته للأنثى، وجعل عدد النساء الصالحات بالنسبة للذكور قليلًا، حتى وإن كان عددهن يتجاوز كمًا وكيفًا النسبة التى يمثلنها بين جمهور الفقهاء، فقد شهد العالم الإسلامى خلال القرن الأخير صعودًا لتيارات فكرية متشددة خلال القرن الأخير، طبعت بصماتها على الطرق الصوفية أسهمت بدورها فى تراجع نسبى بحضور المرأة فى التيار الصوفى، وذلك بسبب الموانع الثقافية والتقاليد الشرقية.

واقعيًا لم تحقق المرأة اختراقًا حقيقيًا بالقيادة الروحية فى المشرق إذ كان وما زال الرجل يجلس منفردًا على قمة هرم الولاية مستبعدًا الأنثى من قلب الفعل الصوفى إلى هامشه، لتبقى طوعًا أو كرهًا فى عداد المريدات الصالحات أو المرشدات التقيّات.