السبت 27 يوليه 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

التجربة الشعرية في ديوان «زهرة محاربة» لمروة مجدي

غلاف الديوان
غلاف الديوان

تعد الحالة القياسية في شعر مروة مجدي لغة نابعة من القواعد الحاكمة لتجربة الشعر في مصر في الجيل الجديد، وبالتالي جاءت تجربتها الشعرية معبرة عن عدة محطات ذات أبعاد متباينة كمداخل لقراءة شعر ذلك الجيل فيما يلي:

  1. ثبات النسق النفسي لمجموعة القصائد، والمتبدئ من خلال عناوين القصائد وكذلك توافقها مع العنوان، وهي درجة من الحرفية أرسى قواعدها أساتذة ذلك الجيل مثل فؤاد حداد وصلاح جاهين، علاوة على انعكاس الواقع بأزمته على أداء شعراء ذلك الجيل؛ لكن التحليل اللغوي لا يكون بعيدًا عن فكرة الأسلوبية التي تتعامل مع الشعر كلغة فقط دونما اعتبار للدور الاجتماعي للشاعرة.
  2. نجاح الشاعرة في اختيار لغة تعبر عن ذاتها ورؤيتها للعالم من خلال بنية اللغة وقدرتها على خلق المعادل الموضوعي للحالة الذهنية للشاعرة؛ وذلك تأسيسًا على أن الشعر ليس رفاهية على مدى تاريخه، سواء كان في بداياته القياسية؛ وإن كان المردود الاجتماعي والنفسي على الشاعر نفسه مرهونًا بوضعه الاجتماعي.
  3. نسبة الوعي المتوفرة لذلك الجيل بحكم الخبرات الجماعية التي توفرت له بحكم ثورة 25 يناير 2011 تُعتبر درجة نوعية للفعل الاجتماعي المشترك، وكم الاحباط الذي يعانيه ذلك الجيل بفعل ردة الفعل المنظمة لشيطنة ذلك الفعل التاريخي النبيل، وذلك تأسيسًا على أن الجيل هو الفترة الزمنية التي تقارب الأربعين عامًا.

آليات التعبير اللغوي عند مروة مجدي في "زهرة محاربة"

يعبر المجاز في صناعة عناوين القصيدة عن نوع من التمني المستحيل، وفي هذه الحالة يصبح عدم التحقق أمرًا واقعيًا كما يلي:

  • في عنوان الديوان "زهرة محاربة"، يتضمن المجاز ازدواج المعنى بفقدان الزهرة بكارتها وأيضًا بكونها تحارب باستخدام أدوات الورود في رؤيتها للعالم المحيط. كما تظهر ثلاثية الزمن من الوردية حتى التحول النهائي بالثبات على حالة مغايرة لحالة الميلاد، وهو أمر مرتبط بالوعي الذي ينشأ لدى الحالمين بالعدل على هذه الأرض. تسيطر سيميائية العنوان على مفردات التشكيل البصري في الغلاف، وتبرز جدلية الأرض والموت والحياة؛ وكذلك صعود الحلم يساوي ارتفاع الجبال والجذور المنبتة من القدم القابع خضوعًا في إطار لون العدم، وهو الأصفر القابل للتلاشي مع تضاؤل مساحة الشمس في أقصى يمين المشهد البصري.
  • في قصيدة "حنين لوجه مخملي"، يتضمن المجاز عدم التخصيص واستخدام صيغة المطلق ليختبئ خلف الكلمات والزمن، حيث يُصوّر البراءة الأولى التي صاغت أحلامنا ذلك القدر الذي يطاردنا، وتطاردنا المرآة التي تذكرنا بتجاعيد الزمن عبر مراهنا المجهدة. كما يستعير مدلول النور المصاحب لحركة الشمس وخلود الزمان من مشهد تعامد الشمس على وجه رمسيس كنوع من التجديد الروحي.عبر ستار الموت والايهام اللذان نجحت فيهما الشاعرة، بأن النداء نابع من الاشتياق لأمها كذات، ولكن العنوان يخرجنا خارج إطار ذلك الاستنتاج لأنه عمم الوجه المخملي ولم يخصصه بحرف كاف يفيد التخصيص. ولكن طول القصيدة ودقة العنوان جديران بتوظيف المجاز في فكرة الايهام، لخلق حالة من تجاوز الذات الشاعرة ليصبح ذلك الحنين حالة عامة يلتقي فيها المبدع والمتلقي. وفي الزمان الداخلي لدى الشاعرة، تعيد لحرف الكاف وظيفته اللغوية من خلال تخصيص المخاطب لتتحول تلك العجوز إلى معادل موضوعي للزمن، الذي أهرم تلك الشابة التي تمارس التوحد مع عجوز رحلت حتى صار ذلك التوحد قدرا مقدورا.
  • تحتوي قصيدة "نزيف على سريري" على أبعاد مجازية تتعدى مستوى القراءة الأولى. يُعرض هذا العنوان تفسيرات متعددة نظرًا لاحتمالية الاستسهال والتوافق مع واقع الشاعرة كسيدة وملامح ذلك المتوحش الذي يكمن في أبعاد الكون. في هذه القصيدة، تناوب المفهوم حول الشرف المرتبط بالدم، وهذا ما يؤدي إلى تكون فكرة الدم كمعادل للكون في صيغته الجنينية. يظهر هذا التأرجح في المقطع الأول حيث يتسرب إلينا ذلك البعد المتاح، بينما تتحول الدماء إلى معادل للكون حيث تسقط الدماء من عيني ذلك المتوحش. ثم يأتي تخصيص المسلوب دمه والوطن، ولكن التخصيص يأتي بعد تعميم يحمل نوعًا من التغريب المتعمد ليبقي المبدع وعي المتلقي خارج إطار الاستهلاك المباشر للتأويل. تعتمد هذه القصيدة على تقنية الفصيح القرآني "ليس البر..." كوسيلة للنفي السائد كنوع من الإزاحة، ولكن مع تباين مستوى القائل في الحالتين. تأتي صيغة المجاز هنا بمعنى تجاوز المألوف للوصول إلى ما وراء المعنى، ليصبح الدم دالة على مساحة الفقد المتواصل للذوات مع تعدد أشكال الفقد، والتي تبدأ تكونها من فقد الذات الكينونية.
  • تحمل قصيدة "صمت ينهر عجزه"، معنى الموت كبنية حياة خاصة، وأن منظومة الكون جاءت من الموت. وبالتالي، يمكننا قراءة شعر ذلك الجيل على أنه استصراخ لذلك الأمل القائم خلف سدود العجز واللا معنى. وبالتالي، يصبح الصراخ وظيفة وجودية حيث يصبح حنين الثورة كامنًا يُسهِّل استخراجه عند إدلهام الرؤية. ففي القصيدة الأولى تعلن الزهرة رفضها للموت، وفي الثانية يأتي تطوير ذلك الربط لإعادة إنتاج الذات لصالح الثورة كمرادف للحياة والانتصار لفكرة رفض الموت. هنا، يُستدعى مفهوم سيزيف معليًّا لوظيفة الأسطورة، حيث يتم تدعيم التقاليد والموروثات وتضفي عليها قيمة أكبر، وذلك سعيًا نحو الحقيقة. ولعل وعي الشاعرة بأبعاد القضية التي تحركها انعكس على صياغة الجملة: "آخر أنفاسه في وجه اليأس تجاهد". إن انتهاء البيت بفعل مضارع يفيد الاستمرارية، وكذلك انتهاء القصيدة بجملة تقريرية، قد يُضعفان مسار اللغة عبر القصيدة. ولكن، ثقل الموضوع الذي تناقشه الشاعرة، وهو الأزمة التي يمر بها جيلها ما بين التطلعات والواقع، قد اقتضى هذا السياق الموضوعي للقصيدة. وبذلك يمكن معالجة الشعر العربي والإنساني من خلال نظرية المثل وليس الانعكاس، لأن الشعر في النهاية رؤية الشاعر بمجموع قيمه التي تحركه والتي لا يملك التحرر منها حال مشاركته في واقعه. ولذلك، ارتفعت وتيرة اللغة والصرف والموسيقى. بحكم الاحتكام لواقع شفهي في ظل خلافات اجتماعية لها بعدًا قبليًا قائمًا على فكرة الحروب، ولكن ما يعاني منه الشاعر كعين إنسانية تعاني مساحة التباين ما بين الواقع والمثال. فإما أن يكون شعره سياسيًا وإما مجازيًا، مع مراعاة مساحة الحرية المتاحة في المجتمع الذي يعيش فيه.
  • اللغة هنا تراعي موسيقى العامية وشكل الفصحى، بدليل استخدام أدوات النفي (لا وَفَلا)، وكذلك استخدام ضمائر للمستقبل والمكانية (هُنالِك). ويظل القلق الكامل خلف الحلم في جدل وشغف حتى مع قسوة الحياة: وتظل الزهرة محاربة /حتى إن فرَّت من الموت/ إلا أنها/ لم تنجُ بعد. تأتي المراوحة في الحركة ما بين الموت والحياة كعلامة صدق في شعر ذلك الجيل، وذلك بحكم التحول ما بين قسوة الواقع وبكارة الحلم.
  • البعد التغريبي والميل العقلي في شعر مروه مجدي: الحديث عن الذات عن بعد، وكان توصيف العرض نوعًا من إدراك الواقع وتحويله لمفردات غريبة حتى في عنوان القصائد: "عرض مضحك للوجع". تعمد الصياغات الصادمة لصياغة حركة مركبة من ثلاثة مقاطع: الحديث عن السيجارة كمعادل موضوعي للذات المحترقة وتحويلها لأنثى، وتعبير عن جثث أحلام مغتالة بصدرها، الغرض الرئيسي هنا تكثيف وبناء منطقي، والحياد المطلق من خلال عرض صور مبررة بخلفية سردية مع صياغة موسيقية وترتيب الضمائر (أنا/ هم/ هو المجهول)، مع صيغة الجملة الفعلية، حيث يصبح الوجع فاعلاً رئيسياً في المشهد.
  • في قصيدة "قرار مكين"، يتم التعبير عن معنى الرحم المفقود وهو الأمان. العلاقة بين الذات والموضوع تظهر من خلال استخدام اللغة لخلق جدار بين انطباع المتلقي التلقائي "أعرف بنتاً غريبة" والواقع. تأتي حديث الغرابة كمداهنة للواقع بسبب مفردات القهر المنتشرة عبر القصيدة، حيث تتحد الحالة على الرغم من تعدد وجوهها: من كثرة الاستحمام بلهيب دمعها صيفًا/ وبرودته شتاءً.
  • في هذا النص، يتم التعبير عن الدمع كحالة محاصرة للروح، ويتم التأكيد على فكرة التغريب من خلال الصمت وعدم   التحقق. يُظهر القبر هنا كمجاز يعبر عن التوافق مع الأزمة. يتناول المفهوم الروحي والجسدي، حيث يُعتبر الجسد   سجنًا  للروح. يُظهر سلوك التعامل مع الأزمة نوعًا من التعالي على مفرداتها، ويعتبر جزءًا من مهارة اللغة يُظهر التمرد على  قوانين الجسد ويُظهر الاستغلال والتهميش الذي تواجهه الأنثى في واقعها.
  • يتم استخدام الصورة المركبة في هذا السياق كنوع من الأداء التنويري للجيل، ليمثل توقيعًا للفعل التنويري المراد نقله من خلال الشعر. تظهر الشاعرة في هذا السياق كمن تعاني من تأثيرات العالم المحيطة التي تنعكس عليها، مما يؤدي إلى فقدان احترامها لذاتها، حيث تدرك العالم من منظور رومانسي. تبرز المهارة الشعرية للشاعرة في استخدام الأسلوب التشويقي في صياغة عناوين قصائدها، مثل "عناقيد تأكلني/ الشوق يقتلني ولست بأكله". تتجلى روعة شاعرتنا في امتلاكها لنواصي اللغة وقدرتها على ضبط الإيقاع النفسي، مما يمكنها من الوصول إلى آفاق التنوير الشعري وتحقيقه بأبعاده المتعددة، كوسيلة للتعبير والتنفيس عن تضييق مساحة الحرية في واقعنا.