الثلاثاء 03 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

اعترافات الفيلسوف الهباش.. قراءة جديدة فى مذكرات عبدالرحمن بدوى راهب الفكر والفلسفة

عبدالرحمن بدوى
عبدالرحمن بدوى

- قرر بدوى وهو ابن الثالثة عشرة ومازال طالبًا فى السنة الأولى بمدرسة السعيدية الثانوية أن يتعلم الألمانية

- مذكرات بدوى صاحب الشخصية الصدامية المقاتلة تعج بالصدامات العنيفة والآراء الحادة

- قامت ثورة الفاتح وبدوى فى ليبيا واعتبر بدوى أن القذافى ورفاقه هم النسخة الليبية من عبد الناصر

- كان بدوى من أسرة تساند الأحرار الدستوريين وذلك بحكم الأطيان التى تملكها الأسرة

- كفر بدوى بالسياسة وبالسياسيين وبالحياة الحزبية وقرر أن ينصرف إلى ما هو أجدى له وللبلاد فقد كرس نفسه للإنتاج العلمى

فى رائعته «الشياطين» أو«الممسوسون» يصف «دوستويفسكى» العظيم إحدى شخصياته بأنه «التهمته الفكرة» فقد عاش بها ولها. 

يصدق هذا الوصف على المفكر الكبير وأستاذ الفلسفة د.عبدالرحمن بدوى، ويحق لنا بعد قراءة مذكراته المهمة أن نرى بوضوح أن «الفكرة» قد التهمت الدكتور بدوى، والفكرة عند بدوى هى الفكر والفلسفة والتاريخ والأدب والترجمة من اللاتينية إلى الألمانية والإيطالية ناهيك عن الإنجليزية والعربية، لقد ألف مائة وعشرين مؤلفًا مهمًا.

فى المذكرات التى صدرت عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» عام 2000 فى طبعتها الأولى بعنوان «سيرة حياتى» سنرى أن حياة بدوى لم تكن سوى نسيج خاص مرهف وعنيف للجدية والبحث فى أرفع مستوياته، والانضباط الفكرى والسعى الدءوب للمعرفة والتفوق والنبوغ والعزيمة والعمل والإخلاص للعلم والمعرفة، فلم يتزوج ولم ينجب، وعاش راهبًا فى محراب الفكر، فيكفيه فخرًا أنه قام بتأليف أكثر من مائة وعشرين كتابًا. 

وفى مذكراته يعلن صراحة بأنه منذ تخرجه فى كلية الآداب كان قد حدد هدفين أساسيين لحياته الفكرية المقبلة، الأول منهما تقديم الفلسفة الأوروبية الحديثة بمناهجها وفرسانها إلى القارئ العربى، فألف عن نيتشه وشوبنهور وإيمانويل كانت وهيدجر وإشبنجلر وأسبينوزا وغيرهم، وقدم ينابيع الفكر الإغريقى فى سلسلة «الينابيع» أرسطو وسقراط وأفلاطون. 

أما الهدف الثانى فقد كان منصبًا على التراث الإسلامى بصفة عامة، وفلاسفته ومفكريه وشعرائه وتاريخه بصفة عامة، والتصوف فى الإسلام فكرًا وتاريخًا ومدارس بصفة خاصة، وغير ذلك من الترجمة إلى العربية لعيون الأدب الأوروبى الحديث، فعن الألمانية ترجم آلام فيرتر وفاوست. 

تعلم بدوى اللغة الألمانية وهو فى الثالثة عشرة من عمره، وكان وقتذاك تلميذًا فى القسم الداخلى للمدرسة السعيدية، قبلها كان قد قرأ كتاب «مع جيته» للعقاد ووصفه بدوى بأنه كتاب تافه، وسدد سهام النقد إلى المترجم «عوض محمد عوض» الذى ترجم الجزء الأول لـ«فاوست» لأن عوض لم يدرس الألمانية إلا فترة قصيرة على يد رجل ألمانى كان محبوسًا معه فى مالطة قبيل ثورة ١٩، ولهذا تعرضت ترجمة عوض لهجمات عبدالرحمن بدوى. 

قرر بدوى وهو ابن الثالثة عشرة ومازال طالبًا فى السنة الأولى بمدرسة السعيدية الثانوية أن يتعلم الألمانية، فعثر على ضالته فى المدرسة الألمانية فى باب اللوق، فهى تفتح أبوابها للراغبين فى تعلم اللغة، فالتحق بتلك المدرسة، وكانت دروسه حصتين أسبوعيًا فى المساء، وهنا ظهر عائق كبير يمنعه من الدراسة، أنه كان تلميذًا فى القسم الداخلى، لكن شغفه الشديد أخذ على عاتقه أن يتسلق أسوار المدرسة المدببة، ويقفز إلى الخارج لينطلق إلى عالم اللغة الألمانية فى باب اللوق. 

هنا لا بد أن نتوقف عند هذا الصبى الاستثنائى من جميع الوجوه، أبرزها الشغف بالعلم وبالمعرفة، صغر سنه بالنسبة لتلك الغايات الوعرة، وإصراره الحديدى على تخطيها، وهكذا أجاد راهب الفكر المخلص للعلم اللغة الألمانية.

مانيفيستو حياة صاخبة

عندما كان بدوى طالبًا فى السنة الأولى بالمدرسة السعيدية، وبينما كان ناظر المدرسة «محمد رفعت» يمر على قاعات المذاكرة، حدث شغب ما وسمع الناظر به، فدخل القاعة، وطلب من التلميذ المشرف على الفصل، وكان طالبًا غبيًا يلعب الملاكمة، أن يمده بأسماء المشاغبين، فاستضعف الطالب الغبى أهدأ طالبين فى الفصل كله وأبلغ الناظر بهما، فطلب الناظر أن يمثلا باكرًا بين يديه فى مكتبه. 

حاول بدوى أن يدافع عن نفسه أمام الناظر بأنه الثالث فى الترتيب بين الطلاب، وأنه من أوائل المدرسة فلا يعقل أن يثير وهو المتفوق شغبًا، فنهره الناظر فى غلظة وصرخ فى وجهه: اخرس... أنت كاذب. 

كان ما جرى فى غرفة الناظر هو درس العمر بالنسبة لبدوى، كتب عنه: «كان لهذا الحادث أثر عميق فى نفسى، وصرت أتذكره كلما حل بى ظلم شديد دون أدنى ذنب ارتكبته، وأقنعنى بسفالة الإنسان وحماقة تصرفاته، وولعه الشديد بالقسوة على الأبرياء والخوف من الأقوياء، وأيدت الأحداث بعد ذلك فيما سيحدث لى طول حياتى صدق هذا التصور للطبيعة الإنسانية، وأن اللؤم والخسة والولوع بالأذى هى الصفات المميزة للإنسان». 

هذا المفهوم وتلك القناعة كانت بمثابة مفتاح لشخصية بدوى، نحن أمام شخصية مثالية تنشد الكمال وتتخذ من الاستقامة هدفًا وسبيلًا، وكما أخذ نفسه بالشدة سيحاسب الآخرين بنفس الشدة، فإن لم يتحققا فلا مجال للضعف الإنسانى، ولا التماس الأعذار. 

لكل ذلك كانت مذكرات بدوى صاحب الشخصية الصدامية المقاتلة، تعج بالصدامات العنيفة، والآراء الحادة، للكثير من الأسماء اللامعة فى الفكر والثقافة والسياسة، وسوف أبدأها بصدامه العنيف مع المفكر والكاتب والمؤرخ أحمد أمين، وبعدها سننتقل إلى الحياة الجامعية فى مصر فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن المنصرم كما كتب عنها فى مذكراته.

جريمة أحمد أمين

دعت كلية الآداب وعميدها د. طه حسين المفكر الفرنسى «كراوس» لإلقاء محاضرة فى الجمعية الجغرافية، فقابله بدوى ولم يصدق كراوس أن بدوى الطالب فى السنة الثالثة يجيد الفرنسية ناهيك عن الألمانية، فأراد كراوس أن يستوثق، فأخرج من عنده كتابًا بالألمانية عن التصوف الإسلامى فطلب من بدوى أن يترجم له فى الحال شيئًا من الكتاب، فترجم بدوى عن الألمانية إلى الفرنسية للعالم كراوس، وانبهر كراوس بذكاء بدوى ونبوغه، لدرجة أنه فى اليوم التالى، عندما استقبله طه حسين عميد الآداب فى مكتبه، أبلغه كراوس أن لديه طالبًا فى السنة الثالثة يجيد اللغتين الألمانية والفرنسية إجادة تامة. 

استدعى طه حسين بدوى، وقرر إعجابا به وتقديرًا لاجتهاده أن يمنحه بعثة صيفية إلى ألمانيا وإيطاليا للدراسة لتحسين لغاته الأوروبية، وقال لبدوى: لا تنس أن تذكرنى بالوعد فى الإجازة الصيفية. 

وبالفعل وفى العميد بوعده، وبالرغم من أن اللوائح كانت تنص على أن المنح الصيفية قاصرة على المعيدين والمدرسين المساعدين وممنوعة على الطلاب، لكن العميد المستنير الواسع الأفق تجاوز عن اللائحة تقديرًا لنبوغ بدوى واجتهاده. 

وبتوصيات من على عبدالرازق ومسيو كويريه ولالاند وميسينيون وهم علماء فرنسيون كانوا يدرسون فى جامعة القاهرة، فى تلك الفترة التى شهدت ازدهارًا علميًا فى آداب القاهرة، تم تعيين بدوى معيدًا فى قسم الفلسفة، واختار رسالة الماجستير عن «الموت فى الفلسفة الوجودية» وتم تغيير العنوان بواسطة المشرف، وهو أحد الفرنسيين إلى «الموت فى الفلسفة الأوروبية الحديثة». 

وشأن كل متفوق أنهى بدوى كتابة الرسالة وتقدم بها أستاذه للمناقشة، وفوجئ بدوى أن أحمد أمين عميد الكلية يعترض على مناقشة الرسالة، بحجة أن اللوائح تقضى بأن يتقدم الباحث بالتبليغ عن اسم الرسالة قبلها بعام، الأمر الذى فات على بدوى، حاول بدوى ومعه المشرف العالم الفرنسى «ألكسندر كويريه» أن يعدل أحمد أمين عن موقفه المتعسف، خاصة أن المشرف كان سيهاجر ويترك البلاد بعد شهر واحد، فأمعن أحمد أمين فى الرفض، وأصر على أن لا تناقش الرسالة إلا بعد عام كامل. 

طلب بدوى من أستاذه على عبدالرازق الذى كان يحب تلميذه لذكائه ولتفوقه أن يتوسط له عند أحمد أمين لكنه رفض وساطة عبدالرازق. 

حضر رئيس الجامعة د. طه حسين مجلسًا للكلية لمناقشة مشكلة رسالة بدوى، وطالب بأن تتم المناقشة وأن تبتعد الجامعة وهى مفتاح التنوير والعلم عن الشكليات الفارغة، لكن أحمد أمين تمسك برأيه، وطلبوا التصويت على القرار، فتم التصويت وانقسم مجلس الكلية إلى نصفين، نصف الأصوات مع بدوى ونصفها مع أحمد أمين، وكانت اللائحة تقر بأن فى حالة تساوى الأصوات فى الكفتين، فصوت عميد الكلية يرجح ويحدد الجهة الفائزة فى التصويت، لأن صوت عميد الكلية يحتسب بصوتين، وهكذا رجحت كفة رفض المناقشة وتأجيلها عامًا كاملًا، وخرج د. طه حسين غاضبًا ساخطًا على التعسف والظلم.

تشاجر بدوى مع المؤيدين المنافقين- كما وصفهما- الذين عطلوه وظلموه تزلفًا لرئيس الجامعة أحمد أمين، وقام العالم الجليل «لالاند» بتطييب خاطر بدوى وقال له: إنه الحقد.. هو يحقد عليك لأنك وأنت فى عمرك هذا ألفت كتابين، وكل كتاب تؤلفه ما هو إلا خنجر حاد فى صدور الحاقدين، فعليك بتأليف المزيد من الكتب. 

لم ينس عبدالرحمن بدوى تعسف أحمد أمين وبعد مرور أربعة عقود على الواقعة، كتب فى مذكراته عنه: وكان أحمد أمين رجلًا حقودًا تأكل الغيرة قلبه من كل متفوق، ومن كل متقن للغات الأجنبية، لأنه كان لا يعرف سوى قشور تافهة من أوليات اللغة الإنجليزية، وكان يسعى لتعويض عجزه بانتحاله أعمال الآخرين، خصوصًا الناشئة المتطلعون إلى الشهرة بالتسلق على أكتاف الشخصيات ذوى الشهرة والنفوذ، وقد حاول أن يصنع معى هذا الصنيع لما قدمت إلى لجنة الترجمة والتأليف والنشر- وكان رئيسها- أصول كتابى «التراث اليونانى فى الحضارة الإسلامية» فى أواخر عام ٣٩، فلم يفلح فى محاولته، فقد صددته من اللحظة الأولى، وقلت فى نفسى وما شأن هذا الرجل بكتاب مؤلف من دراسات بالإيطالية وبالألمانية، وفى موضوع بعيد عنه، وكيف يمكن أن أبرر وجود اسمه بجانب اسمى على كتاب كهذا، إنها صفاقة ما بعدها صفاقة. 

الضحايا يتساقطون تحت أقدام بدوى

عاش بدوى طالبًا ومعيدًا ومدرسًا وأستاذًا فى الجامعات المصرية، وكتب تفاصيل صراعاته وصداماته مع قيادات الجامعة وزملائه من أعضاء هيئة التدريس، وهو يصف لنا المناخ الجامعى منذ الثلاثينيات وحتى الآن بكلمات قاسية وبتحديد الأسماء فى صراحة تدعو إلى التقلب بين الإعجاب بشجاعة بدوى والإشفاق على قامات عظيمة نحتت أسماءها فى حياتنا العلمية والفكرية، أوردها بدوى فى مذكراته موارد التهلكة. 

يكتب بدوى: إن الجو فى كلية آداب القاهرة جوًا فاسدًا للغاية، وخير وصف له هو عبارة د.طه حسين:

«الذين لا يعملون ويكرهون أن يعمل الناس»، لم يكن سلاحهم فى التنافس فيما بينهم ليس العلم والإنتاج العلمى، بل الدس والوشاية والوقيعة، والتزلف إلى ذوى النفوذ داخل الجامعة وخارجها، فتحولت هيئة التدريس إلى عش للأفاعى، ينهش بعضه بعضًا، ويؤرث هذا الشقاق بينهم عمداء لم يصلوا إلى المنصب بالعلم أو بالكفاءة الإدارية بل بالصلات مع من فى الحكم مثل أحمد أمين أو العلاقات الحزبية الدنيئة مثل حسن إبراهيم حسن، أو الدجل الدينى والسياسى مثل عبدالوهاب عزام، أو الدسائس الخبيثة مثل زكى محمد حسن. 

ويكتب عن أسطورة الطب والجراحة د. على إبراهيم: ولم يكن د. على إبراهيم ورئيس جامعة القاهرة سوى مهرج يحب الظهور مهرجًا يحب الظهور فى الأماكن العامة كان على إبراهيم جبانًا هيابًا للسلطة، ولم يكن له أى مبدأ فى السياسة، بل كان انتهازيًا يأكل على كل مائدة من موائد الأحزاب السياسية والسلطات.

العقاد كاتب مأجور

أما الكاتب الكبير عباس محمود العقاد فهو فى تقدير بدوى أنه: كان العقاد طول حياته مأجورًا لحزب من الأحزاب... الوفد حتى ١٩٣٥، وخصوم الوفد من ٣٥ -١٩٣٨ والسعديين من ٣٨ حتى ١٩٥٠، كما كان مأجورًا لبريطانيا طوال مدة الحرب من ١٩٣٨ حتى ١٩٤٥ على الأقل، يستخدم سلاطة لسانه، وما يزعمه لنفسه من قوة عارضة فى التطاول على خصوم من يستغلونه للدفاع عنهم.

وللعقاد قصة طريفة مع بدوى نتعرف من خلالها على الحياة السياسية الحزبية وكيف كانت تدار فى سنوات من الثلاثينيات فى القرن المنصرم، وكيف انخرط بدوى فى الحياة السياسية ومارس العمل السياسى الحزبى بحماس الشباب من ناحية الميول السياسية. 

كان بدوى من أسرة تساند الأحرار الدستوريين، وذلك بحكم الأطيان التى تملكها الأسرة فى قرى ناحية فارسكور بالدقهلية مسقط رأسه، ولكنه انتمى إلى مصر الفتاة، شارك فى الحزب بالكتابة فى جريدة «الصرخة»، وكتب المقالات الحماسية الملتهبة التى تهاجم وتحرض الجماهير للثورة على الحكومة والسراى لخضوعهما المهين للاحتلال الإنجليزى. 

اشترك بدوى فى المظاهرات، ويصف المظاهرة الكبرى التى نظمها طلاب جامعة القاهرة عام ١٩٣٦ وفتح الإنجليز كوبرى عباس وقتل فيها طالبين، ولاذ بدوى بالفرار فى أزقة الروضة، ويصف لنا المعارك العنيفة والمشاجرات الحامية بين شباب مصر الفتاة وشباب الإخوان، والتى كانت تدور رحاها فى الجامعة، أو فى المناسبات التى تجمعهما فى مكان واحد، وكانت وزارة السعديين وهم المنشقون على حزب الوفد. 

وكان النقراشى باشا، رئيس الوزراء ووزير الداخلية رجلًا قوى الشكيمة ذا قبضة قوية، فهاجمته جريدة «الصرخة» هجومًا عنيفًا، فتصدى عباس محمود العقاد وهاجم بقلمه السليط اللاذع حزب مصر الفتاة وحركة الإخوان المسلمين، وكان العقاد قد غير انتماءه من الوفد، إلى حزب الكتلة السعدية. 

تولى محمد صبيح كتابة مقال عنيف هاجم فيه العقاد فى جريدة الصرخة بعنوان «العقاد الجهول يريد أن يعلمنا ما لا يعلم»، فرد العقاد بمقال نارى وهاجم مصر الفتاة هجومًا شرسًا عنيفًا، وكأن العقاد كان ينتظر مثل تلك المعركة، لينهال على مصر الفتاة بالسخرية الجارحة والهجوم اللاذع، ودار التفكير بالرد بمقال عنيف يهجو فيه العقاد ويهاجمونه. 

ويعترف بدوى بأنه نصح قادة الحزب بأن أسلوب الرد بمقالات للهجوم على العقاد لن تردعه، على العكس إذ سيرحب العقاد بالهجوم عليه وسيسعد به، لكى يتمكن من توجيه قلمه الحاد ضد الحزب وزعيمه، ولكن الحل الوحيد لردع العقاد- فى تقدير بدوى كما أقترحه عليهم- هو الضرب. 

قررت قيادة الحزب أن تجرب نصيحة د. بدوى، فأوكلوا المهمة إلى شابين من شباب الحزب، لهما سوابق فى هذا المضمار، فتربص الشابان بالكاتب عباس محمود العقاد وهو يمشى فى طريقه إلى بيته فى مصر الجديدة، وانهالا عليه ضربًا وركلًا وصفعًا، وفى نهاية العلقة، أفهماه أن هجومه على مصر الفتاة هو السبب فى تلك العلقة الأليمة، وهدداه بالعودة لضربه إن تكرر منه ذلك، وبالفعل لم يهاجم العقاد حزب مصر الفتاة مرة أخرى، بعد أن تلقى البراهين الأليمة بغلطته فى مصر الفتاة.

انتهازية أحمد حسين السياسية

يرصد بدوى الانتهازية السياسية للزعيم أحمد حسين، رئيس حزب مصر الفتاة، فقد فوجئ أعضاء الحزب بأحمد حسين يغير اسم الحزب من «مصر الفتاة» إلى «الحزب الوطنى الإسلامى»، ويسمى د. بدوى الأشياء بأسمائها، فيصف أحمد حسين بالعناد والحمق والانتهازية، فعندما يعترض شباب الحزب على أحمد حسين، يكيل لهم حسين الاتهامات، فهذا ضعيف الإيمان، وذلك فاسد العقيدة الدينية، والثالث لا يكترث كثيرًا بالدين.

لم يكن تحول أحمد حسين الدينى عن تدين حقيقى، لكنه كان لأسباب انتهازية سياسية، فعندما دخل أعضاء حزب مصر الفتاة من الطلاب انتخابات اتحادات الطلاب فى مختلف الكليات، فوجئ أحمد حسين باخفاقهم كلهم فيما عدا إبراهيم شكرى الذى نجح فى كلية الزراعة لصفاته الشخصية، زد على ذلك أن أحمد حسين لاحظ ازدياد الحضور الجماهيرى فى شعبة الإخوان بمقرهم بالحلمية الجديدة، وكان الإخوان قد تحولوا عام ١٩٣٨ من جماعة دينية بلا نشاط سياسى، إلى النشاط السياسى المباشر، وطلب أحمد حسين من حسن البنا أن يتوحد الحزب مع الجماعة، ليبتلع أحمد حسين الجماعة، وفطن حسن البنا إلى ألاعيب أحمد حسين، فلم يستجب لدعوته ورفض تقرب أحمد حسين له، فهاجم أحمد حسين الجماعة، ودارت المعارك بين شباب الإخوان وشباب مصر الفتاة بالجنازير والمولوتوف. 

هنا سلك أحمد حسين مسلكًا انتهازيًا صريحًا عندما تبنى الدعوة الإسلامية والتوجهات الدينية، ليأخذ جماهير الإخوان إلى صفه، وهكذا قرر أحمد حسين أن يزايد دينيًا على الجماعة، فإذا كانت الجماعة تدعو إلى مقاومة المنكر بالوعظ واللسان، قرر أحمد حسين ألا يكتفى بتغيير المنكر باللسان ولكن سيغيره باليد، فدعا لتحطيم البارات والحانات فى القاهرة والإسكندرية، وبالفعل قام شباب الحزب بتحطيم عدد من بارات القاهرة، ويذكر د. بدوى أن بار «الكاب دور» العريق الكائن فى شارع عبدالخالق ثروت حطمه شباب مصر الفتاة تلبية لدعوة الزعيم. 

ويشعر المرء بالدهشة أن يتورط صاحب هذا العقل المثقف الكبير فى تلك الأفعال غير المعقولة.

لقد ورط أحمد حسين د. بدوى فى مهزلة لا تصدق، تبدأ المهزلة عندما كتب أحمد حسين رسالتين، وجه واحدة منهما إلى أودلف هتلر، والثانية إلى موسيلينى.

فى الرسالتين دعا أحمد حسين كلًا منهما إلى دخول الإسلام، على غرار الرسائل التى كتبها النبى ووجهها إلى كسرى والمقوقس والنجاشى يدعوهم لدخول حظيرة الإسلام، وطلب أحمد حسين من د. بدوى- الذى يجيد الألمانية والإيطالية- أن يترجمهما، واحدة إلى الألمانية لهتلر، والثانية إلى الايطالية لموسولينى. 

حاول بدوى أن يوقف هذه المهزلة التى تنتمى إلى اللامعقول والعبث، وأن يقنع الزعيم أن يكتفى بتوجيه رسالة مفتوحة على صفحات جريدة الحزب، إلا أن أحمد حسين أبى إلا أن يبعث بالرسالتين فى خطابين بالبريد إلى السفارتين بالقاهرة.

الغريب أن بدوى يعترف بقيامه بترجمة الرسالتين، ويكتب بدوى بالنص «ومن عجبٍ أننى أطعت» ووصلت الرسالتين إلى السفارتين، ويعلم بدوى أن المستشار الشرقى للسفارة الألمانية اعتبر أن الرسالة عبث لا يستحق الرد عليه، وقرر إهمال كل الرسائل التى ترد من ذلك الحزب، أما الملحق الإيطالى فكان رجلًا فكاهيًا يحب الدعابة فقد ساير أحمد حسين سخرية بالطبع، لأن موسولينى بالفعل له ميول إسلامية، وبعدها أدرك بدوى مدى غباء وسخافة أفكار زعيم الحزب.

وبعدها لم تستمر علاقة بدوى بالحزب فقد انسحب تدريجيًا، وفى عام ١٩٤٢، بعد حادثة ٤ فبراير الشهيرة، عندما حاصرت الدبابات الإنجليزية قصر عابدين وتحت تهديد السلاح أجبر المندوب السامى البريطانى الملك فاروق ليصدر قرارًا بتولى النحاس باشا رئاسة الوزراء وتشكيل حكومة وفدية. 

فى تلك الفترة كان أحمد حسين محبوسًا بالسجن عقوبة له على إشعال الحرائق وتحطيم البارات والمنشآت، ومن خلف القضبان، بعث أحمد حسين بخطاب يوجهه إلى خصمه التاريخى مصطفى النحاس رئيس الوزراء يستعطفه للعفو عنه، ويعلن فيه توبته عن الهجوم على الوفد، ويعتذر عن كل ما فعل بحجة «أننا ما زلنا أطفالًا نحبو فى السياسة»، وعندما وصلت إلى أننا مازلنا أطفالًا ونحبو، فهذا فراق بينى وبينكم. 

هنا تقدم بدوى باستقالته، وغادر الحزب، لكنه لم يفلت من عيون الأمن فظل يهرب هنا وهناك حتى نسوه، وقامت ثورة يوليو، لقد انتهت الحياة الحزبية وزالت الأحزاب من الوجود، لكن بعد مرور ما يقارب الربع قرن ففى عام ١٩٦٥ فوجئ باستدعاء من الأمن، وهو متهم بأنه عضو فى مصر الفتاة، واسمه مدرج فى لوحة المحفوظ- عفوًا فى القوائم، رغم أن الحزب نفسه اختفى من الوجود منذ ١٩٥٤، لكن القوائم مثل المادة.. لا تفنى!

كفر بدوى بالسياسة وبالسياسيين وبالحياة الحزبية، وقرر أن ينصرف إلى ما هو أجدى له وللبلاد، فقد كرس نفسه للإنتاج العلمى الغزير والثمين، لكنه لم ينس السياسة، فهو متابع عظيم لكل مايدور فى البلاد، ويكتب عنها وعن السياسيين فى مذكراته، وسجل آراءه فيهم وفيها، بالنسبة لسعد زغلول يعدد بدوى بلا لبس سوءات سعد زغلول السياسية وخاصة قبل ثورة ١٩، فسعد فى تقديره رجل انتهازى ووصولى، ألم يتزوج ابنة مصطفى فهمى المعروف بولائه للمحتل؟ ألم يتولى وزارة التعليم تحت رئاسة مصطفى فهمى رجل الإنجليز كما هو معروف؟، ألم يقم حفلة لوداع عميد الإحتلال اللورد كرومر، جلاد دنشواى، الذى من شدة ظلمه وقسوته فى قضية دنشواى أبعدته الدولة الإنجليزية من مصر! فيحتفل به سعد زغلول!

وكذلك النحاس باشا، ألم يحكم البلاد تحت رماح المحتل فى حادثة ٤ فبراير؟

ألم يصرح عام ١٩٣٠ بعد فشل مفاوضاته مع الانجليز بشأن إنهاء الإحتلال «خسرنا المعاهدة لكننا كسبنا صداقة الإنجليز» أما النقراشى باشا فهو ضيق الأفق وغبى.

عبدالرحمن بدوى فى ليبيا

عندما وقعت النكسة كان بدوى فى باريس فى مؤتمر علمى، ولا ينسى أن يكتب عن السياسة الفرنسية فى النكسة، موقف ديجول وموقف كبار السياسيين والأحزاب والصحافة والكتاب الذين وقفوا مع إسرائيل وفضحوا صهيونيتهم، ويعود إلى القاهرة حزينا، فلا يطيق البقاء فى مصر حيث فقد الناس التمييز بين الصواب والخطأ، فهم يهللون لمن كان سببا فى الهزيمة، فيبحث عن عمل خارج الديار، فيحصل على عقد عمل أستاذا للفلسفة فى جامعة «قار يونس» فى ليبيا فى بنغازى.

يرحل بدوى إلى «قار يونس» عام ١٩٦٧، ويجد الحفاوة والترحيب من د. عبد اللطيف دغمان رئيس الجامعة، الذى كان يعرف قدر د. بدوى، ويرأس بدوى قسم الفلسفة، فيتفرغ إلى البحث والعلم، ويجد مكتبة الجامعة خاوية، فيطلق رئيس الجامعة يد د. بدوى فى شراء عشرات الألوف من الكتب والمراجع والدوريات، ويسأل عن مجلة الجامعة العلمية، فيجد انها لم تصدر سوى عدد واحد خلال ست سنوات، فيبعث د. بدوى فيها الحياة، ويستكتب فيها كبار العلماء فى شتى فروع الفلسفة والفكر من العرب والمستشرقين والأجانب، فتتوالى صدور الأعداد القيمة، ولم ينسى بدوى أن يقدم فى مذكراته نبذة وافية ومختصرة فى كل ما يخص ليبيا الشقيقة، تاريخها منذ الإغريق مرورا بالفتح العربى .... إلى إدريس السنوسى، العشائر والقبائل واللهجات والطرق الصوفية والعادات... إلى آخره.

قامت ثورة الفاتح وبدوى فى ليبيا، وأعتبر بدوى أن القذافى ورفاقه هم النسخة الليبية من عبد الناصر، وانزوى بدوى مبتعدا عن الهياج السياسى والذى صاحب ثورة القذافى، فقد فوجئ بالثورة تعتقل رئيس الجامعة شهرين ثم تعيده شهرا واحدا ثم تحكم عليه الدولة بالسجن عشر سنوات بحجة التآمر على الثورة.

وفى إبريل عام ١٩٧٥ قام القذافى بما أسماه» الثورة الثقافية» وأصدر قرارات ثورية، منها إلغاء جميع القوانين فى الدولة، وأن يتصدى الشعب- لجانه الثورية الشعبية- لأعداء الثورة، وإلغاء المحاكم وفصل القضاة، وفصل كل موظف يتقاعس عن تأدية خدماته للشعب.... إلى آخره. وتكونت اللجان الشعبية الثورية وتشكلت بالانتخاب فى مؤتمرات شعبية، وراحت تهاجم اوكار الرجعية فى كل مكان بالجماهيرية، وذات مساء وجد بدوى بضابط برتبة ملازم أول يرتدى ثيابا مدنية يقتحم منزله، بل ويقبض عليه، ويفتش المنزل العامر بالكتب والأبحاث، فلا ياخذ منها سوى كتاب عن أرسطو، فيتسائل بدوى – فى نفسه- عن علاقة أرسطو بليبيا؟، فيسلمه الضابط إلى قسم الشرطة فيجد أن عددا كبيرا من زملائه فى الجامعة رهن الاعتقال لا يعرفون مثله سبب اعتقالهم.

وبعد سبعة عشر يوما أطلق سراح د. بدوى من الحبس، فقد جرت اتصالات مصرية على أعلى مستوى، فلما عرف محمد عبد السلام الزيات وكان يعمل رئيسا لمجلس الأمة، بالخبر وكان زميلا لبدوى فى مرحلة دراسية ما، أسرع إلى انور السادات، الذى كان يعرف بدوى، تعرف السادات على بدوى فى الأربعينيات عند عزيز المصرى الذى كان بدوى يزوره باعتباره من الضباط الوطنيين، ولم يتردد السادات، فأوفد على الفور أشرف مروان إلى القذافى الذى استجاب لطلب السادات، فخرج بدوى من الحبس بعد سبعة عشر عاما، ليجد الضابط المسئول عنه يسأله سؤالين

أولهما لماذا لم يتزوج، فأجابه بدوى لكى يتفرغ للعلم والبحث والمعرفة، السؤال الثانى كان» ما رأيك فى سارتر»، وفى اغلب الظن أن الوشاية كانت بسبب تدريسه لكتب سارتر، والوجودية فى نظر اللجان هرطقات رجعية، اجابه بدوى بتقييمه لسارتر أنه أديب أكثر منه فيلسوف، وكشخص فسارتر يدعى اليسارية لكنه فى حقيقته انتهازى لا اكثر، والدليل أن سارتر أيد- بطريقة ملتوية- العدوان الإسرائيلى فى ٥ يونيو، وهنا أدرك بدوى أن الضابط الذى أخذ كتاب أرسطو، اختلط عليه الامر بين أرسطو وسارتر!

هل تريد شيئا، نعم أريد كتبى وأوراقى التى أخذتوها، والثانية أطلب أن أغادر ليبيا فى أقرب فرصة، وخرج بدوى ولم يستعيد كتبه وأوراقه، ووصله خطاب يطلب منه أن يغادر ليبيا، فعاد إلى القاهرة.

لابد أن أذكر أن إعتقال بدوى أثار الرأى العام فى مصر وخارجها، فكتب أنيس منصور وغيره ينددون باعتقال هذا الفليسوف العربى العظيم، ووقع المثقفون والكتاب على بيان رافض لاعتقال بدوى، ووجه القذافى وهو فى باريس وفى مصر بالصحفيين يطلبون منه تفسيرا لاعتقال بدوى، ولم يحر جوابا إلا بكلام متهافت لا معنى له، وفى مصر وجه لويس عوض السؤال نفسه، وألح د. لويس فى طلب الإجابة، وهنا انبرى أحمد صدقى الدجانى وهو فلسطينى وفى حاشية القذافى فقال( بكل وقاحة) أنه لم يحدث ولم يتم اعتقال بدوى، لينقذ القذافى من الحرج.

عاد بدوى إلى القاهرة بلا عمل فهو مفصول من جامعة عين شمس لأنه تجاوز مدة الإعارة، وبدأ زملائه وتلاميذه فى عين شمس يتصلون به، فاتفق معهم على اللقاء فى جروبى بعيدا عن الكلية، وطلبوا منه أن يعود إلى آداب عين شمس وأن يقدم طلبا لرئيس الجامعة د. إسماعيل غانم، فرفض بدوى فى اباء، لو يعيدونى إلى وظيفتى سأعود بالطبع لكننى لن أكتب طلبا بهذا، فكما فصلونى عليهم أن يصدروا قرارا بعودتى، ولم يتصل به احد المسئولين فى إدارة الجامعة، ويذكر بدوى ان د. إسماعيل غانم كانت له صلات بالمخابرات، وكان يكتب التقارير عن زملائه من اعضاء هيئة التدريس، فكافأته السلطة بترقيته إلى منصب رئيس الجامعة.

ويجد د. بدوى أن حكم السادات لا يختلف كثيرا عن حكم عبد الناصر ويجد زيف المثقفين والكتاب وغفلة الشعب كما هى، فيرحل ثانية هذه المرة إلى باريس، حيث يعيش فى حجرة صغيرة فى فندق متواضع، عاكفا على الدرس والأبحاث ومشروعه العلمى بلا كلل ولا ملل، ويحضر المؤتمرات العلمية فى الهند وفى لندن وبيروت وباريس، ورحل فى صمت بعد ان ملأ الدنيا علما وثقافة وفلسفة، فهو الرجل الذى قال عنه طه حسين بعد مناقشته له فى رسالة الدكتوراة» وأخيرًا أصبح لدينا فيلسوف عربى».