الأحد 03 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الشِّعر أنقذ حياتى.. هكذا تكلم الشاعر الأمريكى چيمس رايت

چيمس رايت
چيمس رايت

- أحد أفضل الشعراء المُعاصرين فى أمريكا.. وحظى باحترام النُقَّاد والشعراء المُعاصرين له بسبب تنوُّع استخدامه للغة والأسلوب

- كتب مُذكرة انتحارٍ تشمل ترتيبات مفصَّلة لجسده وتعليمات بشأن التخلص من ممتلكاته وعمل نصب تذكارى له

فاتنى طبْعُ المُجاهِد 

لم أعُد غيرَ مُشاهِد

فَلأَ مُت غيرَ شَهيدْ

مُفصحًا عن غصَّةِ الإفصاحِ

فى قطعِ وَريدْ 

الشاعر اللبنانى خليل حاو «قُبيل انتحاره»

أعرفُ جيدًا قيمةَ الكتابة، وأعرف أيضًا قيمة أن تنشر ما تكتبه وتترجمه وأن يراك الناس ويسمعوك، أن تشعر بأنك موجودٌ وحاضرٌ فى مسرح الحياة وليس مُجرَّد مُشاهدٍ يتابعُ من بعيد. 

أن تقف صامِدًا أمام ريحِ الحياة ولا تهزمك تفاهات الأعداء بل تُزيدك إصرارًا على الصمود والنجاح والتقدم والرَّد على تلك التفاهات بعملك وإنجازاتك وتقدمك، أن ترد بقوة وشغف وعنفوان؛ مرفوع الرأس واثق الخُطى. 

هل الكتابة تحقق هذا التأثير؟ هل النشر يُعتبر مُكمِّلًا للكتابة ؟ وما فائدته؟ 

أجاب چيمس رايت عن هذه التساؤلات بطريقته الخاصَّة وقال إن الشِّعرَ أنقذ حياته بطرقٍ كثيرةٍ، وفى مراحل مختلفة من حياته. 

چيمس رايت

كتب الشاعر وكاتب المقالات الأمريكى چوناثان بلانك فى كتابه «چيمس رايت: حياة فى الشِّعرِ» James Wright:A Life in Poetry أن چيمس لم يُعلنها شفاهية وبصوتٍ عالٍ أن الشِّعر قد أنقذ حياته، ولكنه قالها وصرَّح بها بطرقٍ عدة فى المحادثات والرَّسائِل، وقال بلانك إن چيمس فى وقتٍ ما كتب مُذكرة انتحارٍ تشمل ترتيبات مفصَّلة لجسده، وتعليمات بشأن التخلص من ممتلكاته وعمل نصب تذكارى له ولكن بعد ذلك بفترةٍ قليلةِ دُعى رايت من قِبَل ناشر لتقديم كتابٍ شعريٍّ صغيرٍ جديدٍ، أعاده إلى الحياة الإبداعية من جديد وأبعده عن فكرة الانتحار. 

وفى سياقٍ آخر، أنقذ الشِّعرُ حياة رايت بعلاقته بالمراسلة مع الطالبة سونچيا أورسيث التى حوَّلها إلى «چينى» فى شعره. 

أثَّرت چينى على حياة چيمس وشعره، فقد أنقذته من اليأس والإدمان، ولكن بعد أن توقفت عن المُراسلة انهار مرة أخرى، وأدرك چيمس بعد ذلك أن چينى كانت أداة إبداعية ضرورية فى مرحلة من حياته حتى إنه بسببها انتقل إلى مرحلةٍ جديدةٍ فى شعره. 

الكتابة تُشفى ووجود ملهم وداعم فى حياتك يُنقذ من الضياع وفقدان الأمل واليأس الذى قد ينتابك بسبب فقد أو بيئة عمل سامَّة. 

تتعدد الأسباب ولكن المصادفات هى التى قد تبثُّ الرُّوح فى العقل والقلب من جديد. 

ولد الشاعر والناقد الأدبى والمُحاضر الجامعى الأمريكى چيمس رايت فى مارتنز فيرى بأوهايو فى ولاية نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٢٧. 

ونشأ چيمس فى أسرة تنتمى إلى الطبقة العاملة، وخدم فى الجيش الأمريكى خلال الحرب العالمية الثانية، وبعد ذلك درس رايت تحت إشراف الشاعر والناقد والمحرر الأدبى والباحث الأمريكى چون كرو رانسوم John Crowe Ransom «١٨٨٨-١٩٧٤» الذى يُعتبر من مؤسِّسى مدرسة النقد الجديد فى النقد الأدبى بكلية كينيون بجامبير فى أوهايو وحصل على البكالوريوس فى عام ١٩٥٢. 

وحصل رايت بعد ذلك على منحة فولبرايت للدراسة فى جامعة فيينا ما بين عامى ١٩٥٢ و١٩٥٣ وواصل دراساته تحت إشراف الشَّاعرالأمريكى الحائز على جائزة البوليتزر عام ١٩٥٤ ثيودور ريثك Theodore Roethke «١٩٠٨-١٩٦٣» فى جامعة واشنطن، حيث حصل على درجة الماچستير عام ١٩٥٤، وعلى درجة الدكتوراه عام ١٩٥٩. 

درَّس رايت بعد ذلك بجامعة مينيسوتا وفى كلية ماكالستر بسانت بول مينيسوتا قبل أن ينضم إلى هيئة التدريس فى كلية هنتر بولاية نيويورك فى عام ١٩٦٦. 

تأثَّر أوَّل كتابين له «الجدار الأخضر» The Green Wall «١٩٥٧»، و«القدِّيس يهودا» Saint Judas «١٩٥٩» بشعر الشَّاعر والكاتب المسرحى الأمريكى إدوين أرلينجتون روبنسون Edwin Arlington Robinson «١٨٦٩-١٩٣٥»، والشَّاعر النمساوى چورچ تراكلGeorge Trakl «١٨٨٧-١٩١٤» وبالشَّاعر الأمريكى الشَّهير روبرت فروستRobert Frost «١٨٧٤-١٩٦٣». 

ومن أهم أعمال چيمس رايت «الفرع لن ينكسر» The Branch Will Not Break عام ١٩٦٣، «الخريفُ يبدأ فى مارتنز فيري، أوهايو-برودسايد» Autumn Begins in Martins Ferry,Ohio-Broadside عام ١٩٦٣، «هل سنجتمع عند النهر» Shall We Gather at the River عام ١٩٦٧، «قصائد مُجمَّعة» Collected Poems عام ١٩٧١، و«لحظات الصَّيف الإيطالى» Moments of Italian Summer فى عام ١٩٧٦ و«إلى شجرة كمثرى مزهرة» To a Blossoming Pear Tree عام ١٩٧٧، وله الكثير من الأعمال التى نُشرت بعد وفاته ومنها «الرحلة» The Journey عام ١٩٨٢، و«قصائد مختارة» Selected Poems عام ٢٠٠٥، و«الكمال الجامح: رسائل مختارة لچيمس رايت»، A Wild Perfection:The Selected Letters of James Wright عام ٢٠٠٥. 

أما عن الجوائز التى حصدها رايت، فهى جائزة البوليتزر عام ١٩٧٢، وزمالة أكاديمية الشُّعراء الأمريكيين عام ١٩٧١، وزمالة جوجنهايمفى ١٩٦٤، كما فاز بجائزة ييل للشعراء الشباب المرموقة عن عمله الأول «الجدار الأخضر» عام ١٩٥٧. 

ويُعتبر چيمس رايت أحد أفضل الشعراء المُعاصرين فى أمريكا فلقد حظى باحترام النُقَّاد والشعراء المُعاصرين له بسبب تنوُّع استخدامه للغة والأسلوب، وكذلك بسبب الموضوعات التى كان يتناولها فى شعره، حتَّى إن بيتر إيه ستيت Peter A. Stitt أستاذ اللغة الإنجليزية بكلية جيتيزبيرج ومحرر مجلة جيتيزبيرج ريفيو كتب فى مينيسوتا ريفيو أن عمل رايت يقدم ويوازى تطور أفضل الشعراء الأمريكيين المعاصرين: قراءة القصائد المُجمعة لچيمس رايت من ناحية الأسلوب كقراءة تاريخ أفضل الشِّعر الأمريكى المُعاصر، فتكتشف تطورًا موازيًا للتطور العام لأفضل شعرائنا الحديثيين. «هذا التطور يظهر» حركة تبعد عامة عن البلاعة والوزن والقافية المنتظمة، وتتجه إلى الخطاب الأكثر بساطة والإيقاعات الأكثر حُرية وقليل من القوافى». 

كانت قصائد رايت الأولى خصوصًا فى أول مجلدين له «أكثر أدبية، وأكثر خُضوعًا لقصائد وشعراء الماضى» كما قال ستيت، كما لاحظ نُقَّاد آخرون وجود القوافى المُعقدة والبلاغة المُعقدة والاستخدام التقليدى للصور الشعرية فى عمليه الأولين، ولكن طوَّر رايت بعد ذلك من استخدامه للغة وأسلوبه الشِّعرى و«حرر أشكاله» و«نحت البلاغة إلى سلسلة من الإدراكات المختلفة» وذلك كما قال الشَّاعر والمحرر والأكاديمى الأمريكى بجامعة ميتشجان فى الولايات المتحدة الأمريكية لورانس جولدشتاين Laurence Goldstein «١٩٤٣» فى مجلة ميتشجان كوارترلى ريڤيو، وذلك أدَّى بعد ذلك إلى أن كلامه وأماكنه «التى كان يصفها» أصبحت أكثر طبيعية وكما قالت ناقدة الشعر والباحثة الأمريكية النمساوية مارجورى بيرلوف Marjorie G. Perloff «١٩٣١-٢٠٢٤» فى مجلة الأدب المعاصر «هى صور حلم عن كونها أماكن فعلية حقيقية». «كما قال عنه الشَّاعر والناقد الأمريكى بول زويج Paul Zweig «١٩٣٥-١٩٨٤» فى مجلة بارتيزان ريڤيو: «قبل أنيُمنح جائزة البوليتزر، كان قد اعترف به جيل من الشعراء بأنه صانع ماهر للغة جديدة للشعر: أسلوب السريالية الريفية «الرعوية» مبنيًّا حول صور قوية وبلاغة بسيطة منطوقة كما أن فن رايت لا يعتمد على النحو المعقَّد ولكن على بناء غير محدود من التصورات والتى أصبح لهم بيانهم الخاص «طبعهم الخاص». 

چيمس رايت

وعلى الرغم من تنوع استخدام رايت للغة والأسلوب الشعريين فإن ثيماته التى تتحدث عن الوحدة والاغتراب ظلت ثابتة لم تتغير، أى كما قال ستيت: «ربما الانفصال هو أكثر الموضوعات السَّائدة فى شعر رايت» وقال ستيت أيضًا: «يظهر الانفصال فى شكلين- كنتيجة للموت ونتيجة لكونك على خلاف مع مُجتمعك» كما أضاف أيضًا الشَّاعر الأمريكى چيمس سى James Seay «١٩٣٩» فى مجلة چورچيا ريڤيو عن رايت: «إن أكبر اهتماماته الدائمة هو الوحدة. إنها الملكة المجردة الأكثر تكرارًا فى عمله». هناك بعض الانتقادات التى وُجهت إلى شعر رايت يؤكد بأنه يفتقر إلى الانضباط وحددوا بعض نقاط الضعف عنده، ومنها أن شعره فى كثير من الأحيان يتسم «بالثرثرة والشفقة على الذات»، وأن هناك «مغالاة شخصية وطابعًا وحادثيًا»، هكذا قال ناقدٌ من مجلة سيوانى ريڤيو عن رايت وكان رايت على دراية بهذا القصور فى شعره فقال رايت فى مقابلة نُشرت بمجلة باريس «اللجاجة هى عدوى الرئيس فى الشعر. . علىَ أن أُكافح لأنظم قصائدى». 

كما فى الوقت نفسه، وجَّه النُقَّاد كثيرًا من الكلام الإيجابى عن أعمال رايت، فقال النَّاقد ڤان دن هوڤل Van Den Heuvel عن رايت «إنه حر فى يمكنه استخدام العناصر التقليدية فى فنه مع استكشاف وسائل تعبير جديدة فى الوقت نفسه كما قال سى عنه «إن ما يجعل شعر رايت خاصًا ليس لأن لديه أفكارًا فلسفية جديدة حول مشكلات الوجود، بل لأن لديه موهبة استخدام اللغة بطريقة تستيقظ فيها الروح البشرية وتنتبه إلى إمكانياتها الذاتية». 

أما عن القصيدة بالنسبة لرايت: فهى التى «لا تصبح قصيدة إلا عند تلاوتها بصوت عال». 

يُذكر أن چيمس رايت كان مترجمًا حصيفًا أى أنه ترجم للشاعر التشيلى الشهير الحائز على جائزة نوبل بابلو نيرودا Pablo Neureda «١٩٠٤-١٩٧٣» والشاعر النمساوى چورچ تراكل George Trakl «١٨٨٧-١٩١٤» والشاعر الألمانى السويسرى هرمان هيسه Herman Hesse «١٨٧٧-١٩٦٢» بالتعاون مع الشاعر والمترجم الأمريكى روبرت بلاى Robert Bly «١٩٢٦-٢٠٢١». بعد ترجمة هؤلاء العمالقة من الشعراء من جنسيات مختلفة، تأثر شعره بهم كثيرا حتى إنه تعلم منهم شكلًا من السريالية حيث تبدو الروابط بين الصور غائبة، حتى كانت هناك قواسم مشتركة عديدة مع الشعراء اللاتينيين والأوروبيين والصينيين الذين ترجمهم بكل حماسةٍ منه مع أى شخص آخر يكتب باللغة الإنجليزية. 

ويبدو أن مواهب رايت الفنية لا تنتهى، فأصدقاؤه كانوا يصفون ذاكرته السمعية بأنها «فوتوجرافيك» Phonographic لأنه كان يحب ترديد القصائد التى كان يعرفها عن ظهر قلب كما أنه كان يعرف معظمها فقال عنه زميله من قبل: «كأن لديه سجل بيانو فى رأسه» كما قال صديقه الشاعر والكاتب الأمريكى دونالد هول Donald Hall «١٩٢٨-٢٠١٨»: «إنه كان ينشد الشعر الألمانى لمدة عشرين دقيقة أمام جمع كبير من الرياضيين». كما قال أحد أصدقائه عن رايت: «أن تكون چيمس رايت فهذا عملٌ حقيقى (وظيفة حقيقية)» وبرغم نجاحه فى الوسط الأدبى الأمريكى فإن شعوره بالوحدة والاحتياج والعوز لم ينته فكان يعانى رايت من اضطرابات المزاج الاكتئابية وثنائية القطب وكلما زاد نجاحه، زاد احتياجه وإدمانه الكحول الذى جعله فى كثير من الأحيان متقلب المزاج غير مستقر. 

أما عن چيمس رايت كأب، فإنه كان يحضر بصورة جزئية فى حياة أبنائه وكان يعشق ابنيه فرانز ومارشال «فرانز رايت هو شاعر أيضًا حاز على جائزة البوليتزر عام ٢٠٠٤ وبهذا يصيران الثنائى الوحيد فى الوسط الثقافى الأمريكى الذى يحوز على الجائزة نفسها فى الفئة نفسها «الشعر». ولكن كما قال جوناثان بلانك عنه «لم يكن لديه موهبة كبيرة فى التربية وكان دائمًا منشغلًا» حتى إن ابنه فرانز قال: «كل ما أحتاجه هو وجودى معه فى الغرفة نفسها، هذا كل ما أحتاجه- وكان ذلك صعبًا بالنسبة له» قالها فرانز بقلبٍ محطمٍ، وبعد أن انتهى زواج جيمس رايت من زواجه الأول وحصلت زوجته على حضانة الأولاد، رأى رايت أن التواصل مع فرانز سهل وأصبح جيمس المرشد للشاعرالطموح «فرانز». أما مارشال، ابنه الثانى فكان دائم الغضب من أبيه وتوقف عن الكلام معه ولم يتصالحا أبدًا بشكل كامل، هكذا قال جوناثان بلانك فى كتابه. 

كتبت الشاعرة الأمريكية مارى أوليڤر Mary Oliver «١٩٣٥-٢٠١٩» رسالة أرسلتها إلى رايت بعد قراءة ديوانه «الفرع لن ينكسر»، إذ تبدو سعيدة بأحد أشخاص قصائده: «الليلة، فى غرفة تشبه الخزانة، أنا مُفلسة ومصابة بالبرد وأفكر فى شخص لم يأت بشكل متقطع ولا شىء يهم حقًا، أنا مليئة بالسعادة لأن جيمس رايت موجود». وقال الشاعر الأمريكى مارك ستراند Mark Strand (١٩٣٤-٢٠١٤): «هناك دائمًا طبيعية رائعة فى كتاباته وهذا جزء من الصدق» وأضاف: «أنت تقرأ الأدب ولكنك أقرب إلى روح الرجل مما ستكون أبدًا. أنت تشعر حقًا أنك قريب من مصدر الشعر، حيث يولد».

«چيمس رايت شاعر الشعب»، هكذا يطلقون عليه فى المجتمع الثقافى الأمريكى، وذلك لأن الفقر الذى عانى منه فى طفولته، وتجاربه الشخصية الصعبة فى الحياة أثَّر على عمله بصورةٍ كبيرةٍ حتى إنه عانى من انهيار عصبى عام ١٩٣٤. كل تلك المحن والظروف الصَّعبة جعلته مُتعاطفًا مع التجربة البشرية وأكثر تفهمًا لأوجاع الناس، مما جعله شاعرًا للشعب. 

وفى حوارٍ مع زوجته آنى رايت، وچوناثان بلانك مؤلف كتاب «جيمس رايت.. حياة فى الشعر»، أجرته الكاتبة الصحفية الأمريكية نانسى بيرنز فوسارو معهما لمعرفة المزيد عن الكتاب وعن كيف كانت علاقة آنى بزوجها رايت، قالت آنى إنها فى إحدى الليالى حضرت قراءة شعرية للشاعرة والنَّاقدة الأمريكية جوزفين مايلز Josephine Miles «١٩١١-١٩٨٥» وبعد القراءة الشعرية، حضرت آنى حفلة وهناك التقت زوجها المستقبلى. قالت آنى: «نظرنا إلى بعضنا بعضًا عبر الغرفة، وكان هو والشاعر والمترجم والأكاديمى الأمريكى آلان ماندلباوم Allen» Mandelbaum» «١٩٢٦-٢٠١١ وبعض الأشخاص الآخرين فى الخارج، وأخذنى جانبًا وقال: «أود الحصول على رقم هاتفك حتى أدعوك لتناول العشاء» ولكن مرت شهور قبل أن ترى زوجها المستقبلى مرةً أخرى، وقالت آنى: «كنت أقوم بعمل الحقوق المدنية طوال الصيف فى نيوتاون جورجيا من أجل برنامج هيدستارت».

وعندما عادت آنى إلى المدينة قبلت العشاء وبعد عام ونصف العام تزوجا فى كنيسة ريفرسايد. 

وعلى الرغم من أن آنى كانت محبةً للشعر، فلم تكن على دراية بأعمال رايت حيث قالت: «فى موعدنا الثالث سألنى إذا كنت قرأت شعره من قبل، وعندما قلت إننى لم أفعل ذلك، أتى إلىَ بحقيبةٍ مليئةٍ بكتبه». «وفى اليوم التالى ظلت آنى فى السرير تشرب القهوة وتقرأ قصائده»، قالت آنى: «كنت مفتونة». وأضافت على الرغم من أن زوجها كان يعانى من تقلب المزاج ويشرب بكثرة فى كثير من الأوقات فإنه كان شخصًا متعاطفًا بشكل عميق، خصوصا تجاه المسحوقين. 

و«كان شديد الحساسية، وكان مُعلمًا مُخلصًا». 

أعجبنى كثيرًا حديثها عن زوجها رايت وشعرت من كلامها بأنها رومانسية حالمة تمامًا كزوجها، وأحببت قصة حبهما التى استمرت حتى مماته. 

ومنذ قراءتى الأولى لشعر چيمس رايت شعرت بالسلاسة والوضوح فى استخدامه للغة، حتى إن ترجمتى لقصائده لم تستغرق وقتًا طويلًا لسلاستها، وأكثر ما لفت انتباهى إلى شعره أنه لا ينتقل فجأة من فكرة إلى فكرة من دون تنبيه كعدد كبير من أقرانه الشعراء الأمريكيين المعاصرين، بل يأخذنا بسهولة من فكرة إلى أخرى من دون توقفٍ مفاجئ، ولاحظت أيضًا كثرة الأصوات فى قصائده حيث وجدت معه دومًا صوتًا خارجيًا يحادثه كأن القصيدة حوار مع شخص آخر، وهذا يدل على تقلب مزاجه وشعوره بالوحدة والملل حتى إنه كان يخلق معه فى قصيدته أصواتًا خارجيةً ليؤنس روحه ويزيل شعوره بالوحشة والوحدة، وبرغم أفكار الانتحار التى كانت تأتيه من حين إلى آخر فقد أعجبنى كثيرا بأنه كان يترك باب قلبه مفتوحًا يستقبل الأمل أو الفرص التى قد تمنحها الحياة لشخص بائس مثله، ولم يفعل كما فعل بعض أقرانه من الشعراء الذين انتحروا وأغلقوا أبواب الحياة على قلوبهم، وقرروا إنهاء حياتهم من دون انتظار الوجه الآخر من الحياة على الرغم من أن الحياة قد أعطتهم الكثير من النجاحات لكن يبدو أنها لم تكن كافية بالنسبة إليهم. 

كما لاحظت أنه يختار عناوينَ طويلة لقصائده كأنه أراد أن يبلغ بها رسالة ما إلى المتلقى ولكن الحقيقة لم أتمكن من العثور على مبرر أو سبب لهذا الموضوع. 

وفى حوارٍ لچيمس رايت مع الأكاديمى والمحرر الأدبى بيتر إيه ستيت فى مجلة ذا باريس ريڤيو، أجاب رايت عن عدة أسئلة مهمة تخص عمله بوصفه شاعرًا وأكاديميًّا، حيث سأله ستيت عن شعوره تجاه الشاعر الأمريكى چون بيريمان لأنه قد درس معه فى جامعة مينيسوتا، فأجاب رايت: «كان چون بيريمان شاعرًا عظيمًا للغاية، وأعتقد أن أعماله ستبقى، ليس فقط لأنه حرفى جيدٌ، ولكنه كان يُظهر ذاته فى شعره وأعتقد أن ذلك تم دون أن يدرك تمامًا، والقصيدة ليست فقط شيئًا واحدًا يمكن أن يُصنع ويُنشأ بشكل جميل، ولكن الشعر عموما شىء متغير يمكن أن يستمر فى صُنعه حتى يصل إلى نقطة يعيد فيها إنشاء نفسه، فمن خلال نمو عمله وهو لم يتوقف أبدًا عن النمو، كان يظهر دومًا أن هناك شيئًا من الشعر فى الخيال الإنسانى الذى يشبه الربيع». 

سأله ستيت أيضًا: «هل كونك شاعرًا أمر مؤلم؟» أجاب رايت: «أنا أيضًا أستاذ جامعى، لى كتب شعرية ولكننى أستاذ جامعى، وبالنسبة لى شخصيًا التدريس هو الفن الذى يمنحنى متعة أكبر، لا أقلل من قيمة نفسى كشاعر ولكننى أعنى ما أقول، أى التواصل مع طلابى وقراءتى للكتب ومحاولة مشاركة أفكارى ومشاعرى مع طلابى يمنحنى متعة أكبر، وأنا أقدر هذا كفنٍّ سامٍ. 

سأله ستيت: «هل الشعر شىء لا يمكنك التخلص منه ؟» رد رايت: «أخاف أن أعترف بأننى لا أستطيع التخلص منه، وبالتالى أعتبره نوعًا من اللعنة . لقد فكرت فى ذلك كثيرا . لماذا لم أكن نجارًا أو عاملًا يدويًّا؟».

سأله ستيت أيضًا عن تجربته فى تدريس الكتابة الإبداعية، فقال رايت إنه حاول مرة واحدة وفشل تمامًا لأنه كان يجلس فقط ويتحدث إلى الفصل وكلما سأله شخص ما كيف عملت على شىء ما، كل ما يستطيع فعله هو «الهمهمة»، وقال هذا لا يعنى أنه عمل لا يمكنُ القيامُ به، فيمكنُ القيام به بشكل رائع مثل ثيودور ريتكى فهو كان معلمًا عظيمًا. 

إنه حوارٌ كشف عن تواضع وصراحة وعفوية رايت فى الحديث عما يخص شعره وعمله بوصفه أكاديميًا، فمن النادر أن نجد شخصًا يمتدح شخصًا آخر فى العمل ذاته، فهذا يدل على أنه شخص سوى وبرغم أنه ذو مزاج متقلب واكتئابى فإنه محب للناس ولم يجد مشقة فى التحدث عن مميزات أقرانه من الأكاديميين والشعراء ولعل ذَلِك درسٌ للجميع فى ضرورة إعطاء كل ذى حق حقه دون إجحافٍ أو أهواءٍ شخصيةٍ. فى كل مرة أكتب فيها عن حياة شاعر أتعلم، وأستفيد دروسًا ليس فقط فى الشعر والترجمة والتحليل والنقد، بل أيضًا فى الحياة ولكنها دروس باقية وراسخة لمثقفين كبار.