إيهاب الملاح يكتب: «قنديل أُم هاشم».. رصاصة يحيى حقى الحانية!
كم كان يضيق بشدة من ذكرها وحدها وعدم الالتفات إلى باقى ما كتب من روايات وقصص!
وأيًا ما كانت دوافعه ومبرراته فهو من الكتاب العظام الذين يخلطون ما يكتبونه بالهواء الذى يتنفسه والدم الذى يجرى فى شرايينه ومبادئه التى يعتنقها، وقد كان الجد المقدس يحيى حقى «١٩٠١- ١٩٩١» واحدًا من هؤلاء النبلاء المترفعون المسالمون الذين يجيئون إلى هذه الدنيا فيتركون أثرًا لا يزول! أبدًا.
على المستوى الشخصى أحببته جدًا جدًا من نصوصه ومن الصورة الذهنية الصادقة والأمينة التى تشكلت حوله وعنه سواء من الصور الفوتوغرافية المتداولة فى الصحف والمجلات، أو من خلال البرامج التى سجلت معه وتجلى فيها بصوته الهادئ وحضوره المسالم وثقافته الواسعة وأدبه الجميل وخبراته الإنسانية والفنية التى لا تقدر بمال.
لم يكن صاحب «أم العواجز» مبدعًا رفيع المقام فقط فى القصة والرواية، كان مبدعًا عظيمًا فى كل ما خطت يمينه فى الأدب والنقد والفن والتاريخ والترجمة، مُبدعًا لا يُبارى فى تذوق النصوص، والتعليق عليها، والكشف عن جمالها، والتوقف المتأنى عند عباراتها وألفاظها وتصاويرها، والعلاقات المركبة فيما بينها ومدى ملائمتها للمعنى الذى تعبر عنه أو تسعى لتصويره، مبدعًا فى علاقته الحميمة باللغة التى يكتب بها، ويحاورها، يهامسها، ويُسايسها حتى منحته كنوزها وخفاياها ينهل منها ما شاء كيفما شاء..
كتبت كثيرًا وسأكتب عن يحيى حقى وأدبه وحضوره الفذ فى الثقافة المصرية والعربية، والدور الريادى التأسيسى الذى لعبه فى ترسيخ فن القصة القصيرة والرواية فى أدبنا العربى الحديث والمعاصر، فضلًا على أدواره المتميزة فى دعم هذه الدور بالكتابة النقدية، والتأريخ الأدبى، واكتشاف المواهب من أصحاب الأقلام المميزة فى القصة والرواية..
ظل طوال عمره يمارس هذه الأدوار بتبتل وزهد وشفافية وإخلاص.
كتب يحيى حقى الكثير من النصوص قبل «قنديل أم هاشم»، وبعدها، ولكنها ظلت دائمًا درته المتوهجة والأكثر جماهيرية ورواجًا بين بقية أعماله الإبداعية.. ذلك أنها الرواية التى جسدت ببراعة إشكالية «اللقاء/ الصدام بين الشرق والغرب»، يقول عنها حقى:
«إنها خرجت من قلبى مباشرة كالرصاصة، وربما لهذا السبب استقرت فى قلوب القراء بالطريقة نفسها».
صدرت «قنديل أم هاشم» فى طبعتها الأولى عام ١٩٤٤ عن سلسلة «اقرأ» بدار المعارف.. ثم طبعت مرارًا بعد ذلك «كان آخرها الطبعة الثانية عشرة فى ٢٠٠٤ عن دار المعارف، هذا عدا عشرات الطبعات التى صدرت عن دور أخرى غير تلك الطبعة».
قرأتها للمرة الأولى فى ١٩٩٤، فى الطبعة التى صدرت عن «مكتبة الأسرة» بغلاف جميل أبدعه الفنان الراحل جمال قطب «أشهر مصمم أغلفة لكبار كتاب ومبدعى مصر فى القرن العشرين».
لم أكن قد دخلت الجامعة بعد، قرأتها فى جلسة واحدة أو جلستين على الأكثر، وكنتُ شاهدت الفيلم المأخوذ عنها من بطولة شكرى سرحان «وكالعادة اكتشفت أن الفيلم لم يكن بجمال وعمق النص المكتوب، أو هكذا أتصور».
قراءتى الأولى مرت بهدوء فلم أكن فى تلك السن بقادر على امتلاك زمام التحليل العميق والقراءة المنتجة للمعرفة، فقط شعرت بسعادة كبيرة أننى أنجزت قراءة هذا النص المعروف والمشهور فى تاريخ الأدب العربى، ولم يكن مزعجًا أبدا، بالعكس كانت قراءته مريحة للغاية وسلسة للغاية، وممتعة أيضًا، وخرجت من هذه القراءة بمحبة كبيرة للنص ومؤلفه القدير.
فى الجامعة، كان تعرفى «النقدى» العميق- إن جاز التعبير- على هذا النص وقيمته ومحوريته، وتعدد مستويات القراءة وإنتاج الدلالة فيه..
«مدين أنا لكل أساتذتى الكبار رحمهم الله عبدالمنعم تليمة وجابر عصفور وسيد البحراوى وسليمان العطار هؤلاء الكبار الذين نشطوا خلايا التفكير النقدى والتذوق الجمالى وأعادوا هيكلة تكويننا الفنى والثقافى وأكسبونا المهارات والإجراءات التى تمكننا من القراءة الدقيقة الفاحصة المنتجة والالتفاف إلى المفاتيح القرائية فى أى نص أدبى؛ قصيدة أو رواية أو قصة أو مسرحية.. رحمهم الله جميعًا وأسكنهم فسيح جناته وجازاهم خير الجزاء عما علمونا وأفادونا».
قرأت «قنديل أم هاشم» فى تلك المرحلة مرة واثنتين وثلاث مرات! وكانت كل قراءة منها مختلفة عن التى قبلها! بدأت أرى هذا النص الفريد بعين مختلفة تمامًا، فكل كلمة، وكل عبارة، وكل جملة حوار، تحمل من المعانى والدلالات و«الإشارات» ما يفتح أفقًا لا ينتهى من التأويلات والتفسيرات! وهذه سمة النصوص الحية المتجددة الأصيلة!
حينها أدركت لماذا هى «أى الرواية» بهذه الخطورة والقيمة التى توقف عندها عشرات النقاد والقراء ومؤرخو الرواية والأنواع الأدبية الحديثة.
كانت بصفحاتها التى لم تتجاوز الستين صفحة «رصاصة» خرجت من قلب حقى إلى قلوب قرائه وقراء الرواية.
كانت بحق تمثيلًا رائعًا لروح ووجدان وأزمة المجتمع المصرى فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى، وضعت يدها على عمق هذا التناقض الضارب بجذوره فى البيئة المصرية منذ لحظة الحداثة الملتبسة «سواء كانت فى الربع الأخير من القرن الثامن عشر أو مع الحملة الفرنسية أو مع دولة مع محمد على» أيًا ما كانت..
معظم الآراء النقدية تلاقى حول القضية التى عالجتها الرواية وهى «لقاء الشرق بالغرب» أو التمحور حول ثنائيات «الإيمان/ العلم»، «الأصالة/ المعاصرة»، «روحانية الشرق/ مادية الغرب».. إلخ تلك الصياغات المكررة وباتت شديدة التقليدية والنمطية! مع تفسيرات تتقارب وتتباعد للحل الذى طرحه يحيى حقى فى روايته وهو «التصالح» أو «التحايل» أو «التعايش» واختر منها ما شئت!
الراوى فى «قنديل أم هاشم» على قناعة ويقين بأنه لا بصَر لمن فقد البصيرة، ولا شفاء من مرض أو نجاة من شقوة إلا لمن كانت بصيرته مترعة بالإيمان، ولهذا ألح حقى فى التأكيد على الدلالة الروحية والإيمانية العميقة لليلة القدر التى هى «خير من ألف شهر» فى الإشارة إلى التحول الذى سيصيب «إسماعيل» «بطل الرواية» ويخرجه من وهدة اليأس وحافة الجنون إلى ذرى اليقين وسكينة الإيمان الذى يعاوده مرة ثانية..
يعود الإيمان إلى إسماعيل الذى وصفه أستاذه الإنجليزى «بأن روح طبيب كاهن من الفراعنة تقمصته».
لكن بالإضافة إلى هذا الطرح الإشكالى العميق وتلك المعالجة التأملية لموضوع العلم والإيمان فى إطار قضية العلاقة بين الشرق والغرب لا يفوتنا براعة حقى فى رسم تلك المشاهد الحية والنابضة بعصارة مقطرة للحياة المصرية «الصميمة» فى أحيائها الشعبية العريقة، ففيها خلاصة معتقة لسلسال هذا الشعب بكل تفاصيله التى تميزه وتمنحه خصوصيته الفريدة على مر العصور وتعاقب الأجيال، حتى وإن تراءى أن هذه العصارة شابها بعض التغيير وتعرض بعض عناصرها للانحلال والذوبان فى ماهيات أخرى..
يحدثنا حقى عن بطله إسماعيل الذى تابعناه صبيًا ومُراهقًا وشابًا، وهو يجوس فى أنحاء الميدان «ساعيًا بين «ما شاء الله» بائعة الطعمية والبصارة والأسطى حسن الحلاق، والشحاذين الذين يحيطون بأبواب المقام، وهدير أصوات الباعة والشابة التى تنبت فجأة وسط الحارة عارية أو شبه عارية، صوتها الصارخ يجذب الوجوه للنوافذ، وبائع الدقّة الأعمى الذى لا يبيع شيئًا إلا إذا أقرأه الشارى السلام. فيقرئه وراءه الصيغة الشرعية للبيع والشراء».
وإسماعيل يتحرك وسط هذا المشهد المزدحم بتفاصيل شديدة الواقعية، وينسرب فى هذه التفاصيل عطر يشى بحضور مقام السيدة الطاهرة «أم هاشم» التى نشأ الجميع فى حراستها - بعد الله.