الأربعاء 04 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

نوال السعداوى تحاكم «طبيبة كفر الدوار» من قبرها.. نحن أطباء ولسنا قضاة

نوال السعداوى
نوال السعداوى

- معظم الحالات المرضية تُشْفَى وحدها بقوة الطبيعة

لا نستطيع أن ندين الدكتورة وسام «طبيبة كفرالدوار» أو نصدر حكمًا عليها، فنحن لسنا جهة تحقيق تسأل وتجرى تحريات وتطابق الفعل مع صحيح القانون لترى إن كان هناك تجاوز أم لا، لكننا نستطيع أن نضبط الطبيبة متلبسة بخطئين، الأول حين أصدرت أحكامًا أخلاقية قطعية على مريضات واتهمتهن بالزنا، والثانية حين تحدثت عن الامتناع عن علاج فتيات عقابًا لهن ولأهاليهن.

«وسام» تقول إنها تفعل ذلك بوازع أخلاقى، لكن هذا بعيد جدًا عن أخلاق الطبيب المفترضة.. إنه مكلف بعلاج المريض تحت أى ظرف والحفاظ على أسراره.. وهذا المعنى قد عبر عنه د. مجدى يعقوب حين تحدث عن تجربة إنقاذه إرهابيًا من الموت، وعندما اندهش من سمعه، قال عبارته الشهيرة «نحن أطباء ولسنا قضاة».

هذا المعنى كانت قد تحدثت عنه الراحلة العظيمة د. نوال السعداوى فى كتابها «المرأة والجنس»، وهو كتاب عمره يقترب الآن من ٦٠ سنة.

«نوال» حكت عن فتاة جاء بها الزوج إلى عيادتها متشككًا فى عذريتها لأنها لم تدفع بـ«دم أحمر» فى «ليلة الدخلة».

لكن تعامل «المفكرة العظيمة» مع هذه الحالة كان درسًا لكل طبيب.. فما الذى جرى؟.. تعالوا نقرأ معًا.

ما زلتُ أذكر هذه الفتاة رغم مرور عشر سنوات أو أكثر على اليوم الذى رأيتُها فيه، كنتُ طبيبة ناشئة ولى عيادة فى ميدان الجيزة، وما أكثر ما يرى الطبيب فى عيادته؛ بشرط أن يجتاز بتفكيره وإحساسه حدود مهنةِ الطب التقليدية، وأن يَتخلَّص بفطرتِه القوية من آثار الأسلوب الضحل الذى درسنا به الطب، والذى يُفقِد المريض إنسانيتَه ووحدته، ويجزئه إلى أعضاء غير مترابطة معزولة عن النفس منفصلة عن المجتمع.

كنت فى ذلك اليوم أُفكِّر فى غلق العيادة؛ فقد آمنت بعد خمسة عشر عامًا أنفقتها فى دراسة الطب وممارسته داخل الوطن وخارجه أنَّ أكثرية المرضى ليسوا مرضى، وإنما تدفعُهم ظروفهم الاجتماعية السيئة إلى الإحساس الدائم بالمرض، وأن معظم الحالات المرضية فعلًا تُشْفَى وحدها بقوة الطبيعة وإرادة الإنسان فى الحياة.

فى ذلك اليوم كنتُ أجلس أُصمِّم بينى وبين نفسى على غلق عيادتى الطبية حين دخلَت هذه الفتاة، شدَّتنى إلى عينَيها نظرة غريبة مذعورة تبحث بلهفة فى عينى عن النجدة، وبمرور السنين نسيتُ ملامح الفتاة تمامًا، لكن هذه النظرة فى عينيها انحفرت فى ذهنى وأصبحت جزءًا منى.

لم تكن وحدها، كان معها رجل قال بصوتٍ غليظ مُنفعِل: أرجو يا دكتورة أن تفحصيها.

ووجهتُ سؤالى إلى الفتاة قائلة: بمَ تشْكين؟ ولكنها أطرقت ولم تردَّ، وقال الرجل بصوت أكثر غلظة وانفعالٍ أشد: تزوَّجنا بالأمس واكتشفتُ أنها ليسَت عذراء.

وسألته: وكيف اكتشفتَ ذلك؟

قال بغضب: هذا شىء معروف؛ لم أرَ دمًا أحمر!

وحاولت الفتاة أن تَفتح فمَها لتقول شيئًا، لكنه قاطعها قائلًا: إنها تدَّعى أنها بريئة؛ ولهذا جئتُ بها إليكِ لتفحصيها.

واتَّضح لى بعد الفحص أن الزوجة تملك غشاء البكارة وأنه سليم تمامًا، ولكنه مَن ذلك الذى يُسمَّى فى الطب بالنوع «المطاط» يتَّسع ويضيق بمرونة دون أن يَتمزَّق ودون أن تسيل منه قطرة دم واحدة.

وشرحتُ الأمر للزوج بدقَّة، وكان رجلًا مُتعلمًا سافر إلى الخارج فى بعثة، وخُيِّل إلىَّ أنه فهم وقتنع، وتنهَّدت العروس كأنها تتنفَّس لأول مرة بعد طول اختناق.

لكنَّ الأمر لم يكن بهذه البساطة، بعد أيام قليلة جاءتْنى الفتاة وحدها، لم يكن وجهها هو وجه فتاة الثامنة عشرة التى رأيتُها منذ أيام وإنما وجه امرأة عجوز شاخت قبل الأوان، ورسم الحزن والألم على وجهها تعبيرًا غريبًا جعله أشبه بوجوه الموتى التى رأيتُها كثيرًا فى ظلِّ مِهنة الطب.

وقالت بصوت مشروخ: طلَّقَنى وكادت تكون فضيحة لولا أنَّ أبى تكتَّم الأمر.

وسألتها: وهل يفهم أبوك؟

هزَّت رأسها بالنفى وكَسَتْ عينَيها الذابلتين سحابة أوحت بدموع سالت وجفَّت حتى نضجت تمامًا.

وقالت: لا أحد يعرف براءتى إلا أنتِ يا دكتورة، وأنا الآن أعيش فى خوفٍ من انتقام أبى وأخى.

ذهبتُ معها إلى أبيها وشرحتُ له الأمر، قلت له إن ابنته عذراء، وإن غشاء البكارة من النوع المطاط الذى لا يتمزَّق إلا عند ولادة أول طفل، ودهش الأب حين سمع هذه الحقيقة العِلمية وضرب كفًّا بكف، وقال فى غضب: هذا يعنى أن ابنتى قد ظُلِمَت.

قلت: نعم.

قال: ومَن المسئول عن هذا الظلم؟

قلت: أنتم.. زوجُها وأهلها!

قال بغضب: بل أنتم المسئولون يا أطباء؛ لأنَّكم تَعرفون هذه الحقائق وتُخفونها عن الناس، ولولا هذه الحادثة التى حدثت لابنتى بالصدفة لما عرفتُ شيئًا، لماذا لا تَشرحون هذه الأمور لكل الناس؟

إنه واجبكم الأول حتى لا تُظلم مثل هؤلاء الفتيات البريئات!

وصممتُ يومها على أن أعود إلى مكتبى وأكتب شيئًا فى هذا الموضوع، لكننى رأيت أن الأمر يحتاج إلى علاج متعدِّد النواحى، فليس هو موضوعًا طبيًّا فحسب، وإنما هو موضوع اجتماعى واقتصادى وأخلاقى، ولا يُمثِّل فيه الطبُّ إلا جانبًا واحدًا.

ومرَّ عام وراء عام وقصص أخرى بمشاكل أخرى تمر أمام عينى، ومآسٍ عديدة لفتيات ونساء وأطفال راحوا ضحية الجهل الشائع والتقاليد السائدة، بعضهم مات موتًا حقيقيًّا أثناء عملية إجهاض أو عملية ختان أو ولادة تحت ظروف سيئة، أو حوادث قتل أو اعتداء لعدم ثبوت دم العذرية، وبعضهم مات موتًا نفسيًّا واجتماعيًّا بعد مأساةٍ بسبب أو بآخر، وما أكثر الأسباب التى تتعرَّض لها المرأة فى مجتمعنا لتُقْتَل نفسيًّا وتعيش عمرها فى حالٍ تجعل حياتها كالموت، بل إن الموت قد يكون أرحم فى كثير من الأحيان.

وقد ساعدتْنى أسفارى المتعدِّدة لمُعظم بلاد العالم فى أن أحيط بوضع المرأة فى مختلف المجتمعات المتقدِّمة والمُتخلِّفة، الرأسمالية والاشتراكية.

واستطعتُ أيضًا من خلال قراءاتى فى العلوم الأخرى غير الطبِّ والتاريخ والأدب أن أتفهَّم كيف ولماذا فُرضَت القيود على المرأة.

هذا وإنَّ تجربتى الخاصة كامرأة تُزوِّدنى بحقيقة أحاسيس المرأة العميقة. وما أحوج العالم إلى معلومات صحيحة عن المرأة تُغيِّر المفاهيم الخاطئة التى أُشِيعَت عنها، وتُصحِّح المعلومات التى راجت عنها فى العالم، والتى كانت تُكْتَب فى معظم الأحيان بأقلام الرجال.

ولهذا لم تكن هذه المعلومات تعبيرًا عن حقيقة المرأة، ولكنها كانت وجهة نظر الرجل فى المرأة، وما أكبر الفارق بين الحقيقة وبين وجهة النظر!

نوال السعداوى ديسمبر ١٩٧١م