الأربعاء 04 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

محمد الغيطي يكتب: منير.. المتمرد على الصولجان والعرش

محمد منير
محمد منير

- عبقرية محمد منير ليست فى أنه حفر لنفسه أسلوبًا متفردًا بل لأنه فرض ذوقًا وذائقة تمثلان حتمية تاريخية

- مغنٍ يتمرد على واقع غنائى معتل ويقود الذائقة لآفاق رحبة ترقى بالكلمة واللحن والشكل أو الصورة وسط ثورة تكنولوجية فى تكنيك التوز يع والآلات

الكتابة عن محمد منير كالسباحة فى بحر بلا شاطئ، لكنها ممتعة لكثرة الفنارات المضيئة والموانئ المثيرة وثراء الوجوه العابرة والألوان والأصوات التى تضخ زخمًا يغريك بالسفر فى رحلته الأشبه برحلة سندباد، مغامر امتلك من الجرأة الفنية والإنسانية ما يجعلك مشدودًا ومشدوهًا، لأنه ليس له شبيه ومتفرد ليس له منافس، هو مجرة بمفرده وسط أكوان الإبداع الموسيقى، تجربة منير فى اعتقادى وتأثيرها تكاد تماثل تجربة العندليب عبدالحليم حافظ، البداية المرفوضة لأنها متمردة وتكسر النمط السائد فى الغناء شكلًا ومضمونًا، وتثور على القديم وتفرض صورة تعبيرية للمشاعر والأفكار تخترق القلوب وتتجاوز الحاضر لآفاق الحرية، وتشكل مفهومًا جديدًا للحب والوطن والإنسان، لو نتذكر بدايات العندليب الذى ظهر فى مناخ فنى يعتمد على الشكل التركى القديم، وما يسمى بالهنك والرنك والمقدمات الموسيقية الطويلة والميلودرامية فى الآداء والمحتوى وافتقاد الإيقاع بل وقتله لحد الملل، ثم يظهر العندليب ليسبح ضد السياق العام، ويصدح بأغنيات قصيرة وصوت مجدافه الإحساس وسفيره للقلوب قوة التعبير، بينما كان من قبله يعتمدون على قوة الحنجرة، واتساع مساحات الصوت الذى يرقع فى الخلاء مع معانٍ تتسم بتعذيب المحب والتلذذ بعذاب الهجر والشوق؛ ليأتى العندليب ليكسر هذا النمط وينطلق خارج السرب صانعًا كوكبه الدرى، هذا ما فعله منير بعد فراغ كبير تركه عبدالحليم وحاول كثيرون بعده ملأه وفشلوا، كانت الساحة فى النصف الثانى من السبعينيات فارغة ونبت فيها نبت غنائى شيطانى أو هيش أشبه بهيش المستنقعات، بين محاولات تقليد العندليب فى مستنسخات غنائية مشوهة وعقيمة الإبداع أو منتجات ذات إيقاع استهلاكى سريع أشبه بالفاست فود الذى لا يشبع ولا يبقى أثره، بل يدمر الذوق والذائقة ويفسد الجهاز السمعى للمتلقى. 

منير والحتمية التاريخية 

إذن كانت الحديقة الغنائية فى أواخر السبعينيات مترعة بما يشبه الهالوك الذى يعرفه الفلاحون بأنه نبات طفيلى يسيطر على الثمرة فى الأرض، ويلتهمها ويتسلق عليها ويتركها خرابًا وعدمًا، ووسط سياق سياسى واجتماعى عام تتمه الضبابية والفوضى بعد معاهدة السلام مع العدو والانفتاح السداح مداح، كما وصفه العظيم أحمد بهاء الدين وسيطرة الرأسمالية الطفيلية ومقولة السادات الشهيرة «اللى مش هيغتنى فى عهدى مش هايغتنى خالص»، وطبقة النوفو ريش وبيزنس العائلات الذى توحش وتسلطن فى العهد المباركى فيما بعد، ولأن الفن عمومًا والغناء خصوصًا مثل ورق النشاف يجسد حال المجتمع وبوصلته، وهو ما قاله الناقد والمؤرخ الموسيقى كمال النجمى، الغناء بعد جيل أم كلثوم وعبدالحليم أصبح طنينًا وهيصة تعبر عن التيه الذى يعيشه المجتمع وفقدان البوصلة من أعلى لأسفل.

هنا كان لا بد من ظهور المغنى الضرورة، مغنٍ يتمرد على واقع غنائى معتل ويقود الذائقة لآفاق رحبة ترقى بالكلمة واللحن والشكل أو الصورة وسط ثورة تكنولوجية فى تكنيك التوزيع والآلات وأيضًا ظهور الإخراج السينمائى للأغنية فى العالم، وهو ما عرف بالفيديو كليب. 

كان عالم الكاسيت منفجرًا بأغانى عدوية وأغان شعبية أخرى لما يسمى بصيته الموالد والشوادر، وكانت لا تزال أغانى أم كلثوم الأعلى مبيعًا فى السوق، بينما لا يجد جيل الشباب من يعبر عن ذائقتهم رغم وجود بعض الفرق التى حاولت التماهى مع ظاهرة الجاز الغربية فى صورة أغانٍ جماعية ذات إيقاع مثل الفور إم، والمصريين هانى شنودة وآل نوح وغيرهما. 

علمونى عنيكي

تخرج محمد منير فى كلية الفنون التطبيقية قسم الفوتوغرافيا والسينما والتليفزيون جامعة حلوان عام ١٩٧٦، وكان يغنى وسط الطلبة وبعض جلسات المثقفين والنوبيين أهل جلدته واستمع له المفكر الشيوعى النوبى زكى مراد، وطلب منه أن يغنى أغانى نوبية فصرخ فيه وقال ما معناه «صوتك لازم يوصل لكل الناس واستدعى الشاعر عبدالرحيم منصور بلدياته الذى قال له مرحبًا بالرفاجة وكان منصور شاعرًا معروفًا غنى له العندليب قومى يا مصر وغنت له سعاد محمد ومحمد قنديل يا معداوية وشادية الأولة مصر أمى وعايدة الشاعر وغيرهم، ولكنه فى رحلته ما قبل منير كما ذكر كان ينافق السياق العام، ويكتب ما يوافق نظام الإنتاج والإعلام الرسمى، لذلك ما إن التقى منير حتى وجد ضالته، وقال له هانغنى لنفسنا وجيلنا ونعلم الناس والجيل غنى غنى جديد مختلف، نغنى الشعر والقصيدة، وهذا ما فعله، لكن المغنى والشاعر ينقصهما ملحن، وهنا اقترح منصور الذهاب لأحمد منيب الذى كمن وجد «لقية» وأمسك الدف فى منزله، واستدعى التراث النوبى وتسلطن مع منير، وهنا وضعت أول بذرة لمشروع غنائى موسيقى ثقافى متكامل يحيى تراثًا مصريًا يحمل الشجن والزخم من أرض النوبة، خصوصًا ومنير مع منيب وأهالى النوبة تم تهجيرهم من النوبة القديمة لما وراء السد بسبب بحيرة ناصر بعد بناء السد العالى، ومنير هاجر مع أسرته للقاهرة فى سن العاشرة، أى أنه يحمل طفولته وأهازيج الصبا وفلكلور الشمندورة والسلم الخماسى فى قلبه، وبدأ المشروع الحلم يكتمل بعد لقاء هانى شنودة، ثم يحيى خليل حامل صولجان موسيقى الجاز وملكها فى مصر، وخرج أول ألبوم عام ١٩٧٧ علمونى عنيكى، أشعار عبدالرحيم منصور تلحين هانى شنودة، الأغنية صياغة مختلفة عن السائد شعرًا ولحنًا وإيقاعًا، علمونى عنيكى أسافر، علمونى أفضل مهاجر، علمونى أكون مسامح زى نبع الحب صافى، علمونى أعشق صحابى، وأنسى وياهم عذابى، والغريب لو دق بابى، يرتوى من نبع صافى، وتتدفق كلمات الأغنية القصيدة بصياغة مغايرة ومتمردة على النمط السائد الذى كان دومًا مذهبًا وكوبليه، ولكنه هنا ينهى كل بيتين بمقطع زى نبع الحب صافى بما يخالف سابقيه، من كتاب الأغنية، بل وبما يخالف أسلوب عبدالرحيم منصور نفسه فيما صاغه لمطربين قبل منير. 

الجرأة فى الصياغة صاحبها جرأة فى التلحين والتوزيع وجمعت بين الإيقاع والتعبير أو التصوير والتجريب أيضًا، لذلك كان لا بد أن تفشل فى أول طرحها فى الوصول للجمهور، وهو ما يذكرك ببداية العندليب عندما غنى صافينى مرة بالإسكندرية وفشل وأصيب بالاكتئاب، الغريب وهنا تماثل البدايات أن عبدالحليم غنى نفس الأغنية بعد عام أى سنة ١٩٥٣ فى حفل إعلان الجمهورية ونجحت جدًا وصفق لها الجمهور، وهو ما حدث مع منير عندما غنى علمونى فى العام التالى ١٩٧٨ توزيع يحيى خليل وكسرت الدنيا بتعبير أهل الفن. 

وأعتقد كان ذلك التدشين الحقيقى لموهبة منير الذى أطلق بعد عام ألبوم بنتولد فارتفع درجة ثم حدثت القفزة مع شبابيك ١٩٨١ وشجر اللمون وأصبح الرباعى منير، منصور، شنودة، خليل قاطرة الأغنية البديلة العصرية التى لهث لها الجيل الجديد، ويبشر بها فى كل مكان.

منير والجامعات

كنا فى كلية الإعلام أواخر الثمانينيات وكنت مسئولًا عن أسرة اسمها «العروبة» وفى نفس الوقت أمين اللجنة الفنية والثقافية باتحاد طلبة كلية الإعلام، واقترحت أن نقيم حفلة لمنير بالجامعة وقوبل الاقتراح بحماس وصرت مسئولًا عن ذلك، وذهبت لألتقى منير فى استديو بجاردن سيتى ونبضى يتسارع ويكاد قلبى يقفز قى صدرى، وعندما رأيته من أول لحظة كما يقول فتحت زرار قميصى للنسمة وللأمانى، ووجدت شابًا أسمر نحيفًا بابتسامة مشعة كسرت كل الحواجز والهواجس، وتوجس مقابلة النجوم وغطرستهم فى فيمتو ثانية، عشقت منير قبل أن نتكلم أو ننطق ببنت شفة، كان ودودًا، ونيسًا مؤنسًا، وظل هكذا حتى كتابة هذه السطور، الغريب أن الأمن رفض الحفلة خوفًا من تحويلها لمظاهرة، خصوصًا ومنير كان صوت اليسار والمثقفين، ونجح فيما بعد أن يخول بوصلته تمامًا ليكون صوت الشعب، المهم أنه بعدها بأسابيع غنى فى حفل بنادٍ على النيل بالمنيل، فقررت أن أحشد الطلبة، وذهبنا له وغنينا معه شجر اللمون، وبعد الحفل التقيته وقلت له شفت إحنا تسلقنا سور النادى عشانك، وكان سعيدًا بما فعلًا.

اتكلمى

أعتقد أن ألبوم «اتكلمى» ١٩٨٣ محطة خطيرة فى قطار الأغنية المصرية وفى مسيرة منير نفسه، ليس فقط لجرأة الكلمات لمنصور، وعظمة اللحن لأحمد منيب، ولكن لأنها جمعت بين الرسالة الصارخة والتمرد والثورة بلا مباشرة مستفزة، بل وتوحدت فيها شخصية المنادى بين الحبيبة والوطن، بين الأنثى والعلم، بين كيمياء الحب وفيزياء الأرض والحدود.

«اتكلمى يا تسكتى زمن، ليه تدفعى وحدك التمن، وتنامى ليه تحت الليالى، المشربيات عيونك بتحكى عاللى خانونى». 

ما أجملها من صورة شعرية عبقرية، وهذه العبارات الشعرية لم تكن موجودة فى أغانى ما قبل منير، ولا حتى بعده، باستثناء على الحجار، لقد نقل منير الأغنية من مجرد كلمات أو مولوجات واسكتشات عبيطة وساذجة واستهلاكية مثل ورق الكلينكس إلى آفاق الشعر، أخذ القصيدة من بطون الدواوين إلى أذن المستمع، فرقى وترقى به، ونقل ذائقته لمستوى ثقافى وفنى رفيع، لذلك تعامل مع شعراء وليسوا كتاب كلمات أو مؤلفاتية، لذلك تجده ضم الفلة جنب الياسمينا مع فؤاد حداد والأبنودى وسيد حجاب وجاهين ومجدى نجيب وأحمد حسن راؤل وأحمد فؤاد نجم. طبعًا الذى وضعه على خارطة الأغنية السياسية المباشرة وبعد انتشار ألبوم الأغنية اختار الناس أن يلقبوا منير بالملك، ثم منحته أجيال الألفية لقب الكينج. 

تجربة شخصية

فى التسعينيات طلب منى الدكتور سمير سرحان أن أكتب أوبريت عن مهرجان «القراءة للجميع» وسوف يلحنه هانى شنودة وذهبت للقاء خالى هانى فى الاستديو بالهرم، ثم عدت لمنزلى وكتبت الأوبريت وبعد حوالى أسبوع ذهبت له وقرأته فقال لى سيبهولى وبعد أيام طلبنى وقال تعالى دلوقت وخشيت ألا يكون أعجبه لكننى فوجئت به يقول لى دقايق وفيه مفاجأة وإذا بطارق على باب الاستديو وهو منير يقول لى إيه ياغيوطة الحلاوة دى، بتعرف تكتب ياواد، ولم أصدق أنه سيغنى أشعارى وأمامه كانت منى عزيز مطربة فرقة المصريين الأولى وكان الأوبريت إخراج الصديق محمد العمرى وأعطانى د. سمير سرحان الله يرحمه مكافأة كانت أكبر مبلغ أتحصل عليه من الكتابة وقتها. 

أسطورة الكينج

عبقرية محمد منير ليست فى أنه حفر لنفسه أسلوبًا متفردًا فى الموسيقى والغناء فقط، بل لأنه فرض ذوقًا وذائقة تمثلان حتمية تاريخية، هو مثل سيد درويش والرحبانية وبليغ حمدى يجمعهم الخلود لأنه لا أشباه لهم ولأنه مهما تداعت وتغيرت الأجيال فهم يجيدون جوهر وروح الشعوب، أتصور أننا لن نتذكر مثلًا عمرو دياب وآسف لأنى أجرح ما يسمى فانزاته وعندى ألف مبرر ومبرر، منير عنده مشروع ثقافى وطنى إبداعى لم يتوفر ولم نجده فى أحد من جيله أو الأجيال التالية له مما نشهد. 

منير كسر نمط الأداء وظهر متمردًا على الشكل والمضمون، لاحظ لم نر منير ببدلة رسمية أبدًا وهو يغنى ولا خارج الغناء، وهو أول مطرب مصرى يقدم موسيقى الريجى «شتا ويابنت ياللى، ممكن».

ثم إن «منير» أول من مزج بين الجاز والسلم الخماسى النوبى، صنع التمرد المقنن والفوضى المنظمة والحرية المسئولة، قدم نفسه كممثل مختلف سواء فى المسرح أو السينما أو حتى الدراما التليفزيونية، أول مطرب عربى يفوز بجائزة ميما، وأول مطرب تنفد تذاكر حفلاته فى أوروبا قبلها بشهور. 

مهما قلت عنك يا منير فلن تسعفنى المفردات من لغة الضاد، تظل أنت الملك والأسطورة عن حق، دمت لنا صحة وعافية بحق ما منحتنا من بهجة وونس وحب لك كل الحب.