أسطورة الجاز.. انفراد.. صفحات خاصة من سيرة يحيى خليل
- «أبونا عجمى».. قصة السورى صاحب الفضل على كل موسيقيى الجيل
ربما يبدو الحديث عن أى فنان أو موسيقى أمرًا سهلًا، وربما يكون عاديًّا أن تحكى حكايته بسلاسة ويسر، وهو أمر صحيح بالطبع، بل إنه ليس هذا فحسب، فهو فوق ذلك أمر ممتع أيضًا، كله شغف، وترقب، وانتظار، وتعلُّم، خصوصًا عندما يكون الفنان الذى تكتب عنه تركيبة متفردة، لا تُشبه أحدًا ولا يشبهها أحد، تركيبة ثرية بكل مفردات التحدى والإصرار على النجاح، والوصول إلى أقصى نقطة فى الطريق الذى اختارته بعناية ومحبة.. تركيبة تتحدى، وتصر على فعل الشىء الذى يسعدها قبل أن يُسعد الآخرين، خصوصًا إذا كانت الرحلة التى تكتب عنها هى رحلة تحوُّل من مجرد اكتشاف موهبة صغيرة السن، كبيرة التطلعات والأحلام، إلى فعل حقيقى يتراكم بخبراته حتى يصير حدثًا تشاهده بعينيك، وواقعًا تلمسه بيديك، وتحلّق معه فى دنيا الموسيقى والأحلام، وتاريخًا نتذكره، ونستمد منه الإلهام، والإيمان بقوة الأحلام، ونتحدث عنه بكل اهتمام.. تاريخًا مليئًا بالحياة وتحدى الصعاب، بالمتعة والتحقق.. محطات كثيرة، ومواقف ملهمة، ومكانة فنية واجتماعية كبيرة ومؤثرة.
الحديث هنا هو حديث لا تمل منه.. أن تمر داخل أعماق شخص يملك تلك الموهبة الكبيرة، والقدرة المدهشة على تحويل الأحلام إلى حقائق ملموسة ومباشرة، فتكتشف عوالمه المتعددة وتغوص معه وصولًا إلى حقيقته.. من أين بدأت الأحلام، وكيف صارت، وكيف نمت فتحولت إلى نغمات تسبح فى الفضاء الواسع ونسبح معها فى حالة من المتعة غير المشروطة، غير المحدودة، غير منتهية الصلاحية؟! كيف نجح؟! وكيف سقط؟! وكيف نجا وأصبح مؤثرًا وملهمًا لمعاصريه وللأجيال التالية؟!
تبحث عن أعماله لأنك تعرف جيدًا أنها هى وحدها التى ستنجدك فى لحظة ما من شعور محبط، أو رغبة غير مريحة، لا تريد لها أن تطول، فتعيدك إلى آفاق البهجة والحياة والحرية، بل تفتح لك أبواب الفرح والانسياب مع روح الكون، وكأنك بلمسة من أصابعه امتلكت القدرة على الطيران، فنبتت لك أجنحة تنافس الطيور فى السماء، فتسير معها فى رحلة راقصة مرحة، بلا إحباط ولا مشاعر سلبية ولا رغبة فى غير الحياة.. هذا هو أضعف الإيمان فى الحديث عن فنان عاش حياته كلها من أجل تحويل متعته الخاصة إلى متعة عامة، يشاهدها ويسمعها الناس جميعًا، ينفعلون بها ومعها، فتنتشر معها البهجة والمحبة لأكثر من ستين عامًا متواصلة.
من مدرسة «الخليفة المأمون» إلى كنيسة «أبونا عجمى»
بدأ يحيى خليل مبكرًا تكوين فرقته الأولى، وكان يجد صعوبة فى عمل بروفات فى بيته، وكان الأصعب أن يعلن لأسرته عن أنه أنشأ فرقة موسيقية، حيث لا يستطيع العزف أو ترتيب أى بروفات، فكان الأمر خفيًّا على والده، ولكنه سعى وبحث عن مكان يستطيع أن يتدرب فيه هو وأصدقاؤه.
لم ييأس يحيى لعدم وجود مكان يستطيع أن يقيم فيه بروفات، أو أن يعزف وهو غير متخوف من والده كالعادة، ففى يوم من الأيام، وأثناء ذهابه إلى مدرسته «الخليفة المأمون»، التى كانت فى ميدان روكسى، وأثناء مروره المعتاد على الكنيسة التى تقع بين بيته وبين المدرسة، استوقفته موسيقى كانت تخرج منها، على ما يبدو كانت موسيقى لبروفة احتفالات تقام فى الكنيسة، أو بروفات لفِرق أخرى، فقرر يحيى أن يدخل الكنيسة ويسأل عن المسئول، فأرشدوه إلى شخص يُدعى «أبونا عجمى»، وهو سورى الأصل من حلب، وراعى كنيسة للطائفة الكاثوليك فى مصر الجديدة.
كان «أبونا عجمى» شديد الاهتمام بشباب حى مصر الجديدة، فكان يستقبل المسيحيين والمسلمين فى نادى وقاعات الكنيسة لممارسة الأنشطة بترحيب بالغ، بل إنه كان يدعمهم بكل طاقته واهتمامه، خاصة الموهوبين منهم، ورغم أنه عُرف كرجل دين، فإنه كان مستنيرًا، محبًّا للحياة ولخدمة الإنسانية، بغض النظر عن نوع الطائفة أو الدين.
كان يمثل المحبة والاستيعاب، رجل دين كما يجب أن يكون، فحبه للموسيقى جعله يحب من يحبها، بل يدعمه ويرشده، وهذا يعكس أيضًا الصورة الذهنية للمتدينين فى زمن الستينيات، فلكل زمن رموزه التى تصفه كمرحلة فى حياة الشعوب، فهناك رموز ثقافية وفنية وأيضًا دينية، وليس من الغريب وصف فترة الستينيات بالمرحلة الذهبية، فالشعوب تصنعها الفنون والقيم الروحية وتأثير رجال الدين أيضًا، وكون «أبونا عجمى» المسئول عن كنيسته فنانًا وإنسانًا، ويحول كنيسته إلى مأوى للموهوبين، لم يعترض بحجة حرمانية الفن، أو اعتباره لهوًا عن العبادة.. كانت شخصيته حقيقية، استطاعت أن تصنع حالة من البهجة والاحتواء فى عصره، هذا ما عُرف عنه، وقاله النجوم الذين ساعدهم فيما بعد، فكان يحول فصول الكنيسة إلى أماكن لعمل بروفات للشباب الموهوبين، خاصة فى مجال الموسيقى، ولم يتأخر يومًا عن مد يد العون بأى وسيلة إلى هؤلاء الشباب.
والجميل أن أحدًا لم ينسَه ولم يُخفِ قيمة هذا الرجل القدوة، صاحب الفضل على كل موسيقيِّى هذا الجيل، الذين كان يمدهم أيضًا بآلات موسيقية، فكان يشتريها كهدايا لبعضهم تشجيعًا منه لهم.
ذهب إليه يحيى دون تردد، وسأله هل له أن يحضر آلة «الدرامز» ويتمرن فى الكنيسة؟، فكان رد «أبونا عجمى» قاسيًا وقتها، حيث قال له: «للأسف لا أستطيع، فالكنيسة متاحة لأبناء الجالية فقط»، واعتذر له، ثم شكره يحيى، لكنه استاء، ومضى دون أى تعليق.
مرت ستة أشهر ليجد يحيى تليفون بيته يرن، فيسأله المتصل: «هل يمكننى التحدث مع الشاب يحيى؟»، فيقول له: «أنا يحيى». فإذ به «أبونا عجمى» يخبره بأنه أنَّب نفسه ذلك اليوم على رفضه أن يأتى للتمرين، ويدعوه ليأتى بآلاته وفِرقته ليتمرن كما يشاء. وكانت الفرحة قد جعلت يحيى فى قمة حماسه وتوهجه. اتفق معه على الفور على المواعيد المناسبة، ودعا أصدقاءه، وبدأوا بالفعل عمل البروفات، وأنجز خلالها حفلات وأمنيات صغيرة كان يأمل أن يحققها، واستمر لسنوات يذهب إلى الكنيسة بموافقة «أبونا عجمى»، حتى فيما بعد، عندما كوَّن فرقته الأكبر المتخصصة فى فن الجاز التى كان أحد أعضائها عمر خورشيد وعزت أبوعوف ووجدى فرنسيس، فقد كانوا يأتون لعمل البروفات فى المكان نفسه، وكان «أبونا عجمى» قد أهدى عزت أبوعوف أول أورج دخل إلى مصر كهدية، ودعم موهبته عام ١٩٦٥، وفى الفترة نفسها، كان الرئيس جمال عبدالناصر قد منح العديد من المسلمين الأفروأمريكيين منحًا للدراسة فى جامعة الأزهر. وكان صديقه «لاكى»، الذى كان يسكن فى شارع سليمان باشا، عرض عليه أن يقابل أحد أصدقائه الأفروأمريكيين، وكان يُدعى «ماك سبيرز»، حيث كان يبحث عن عمل، وهو مقيم فى أحد البنسيونات، وجاء إلى الأزهر ليدرس الإسلام، وعرّفه بنفسه فيما بعد أنه مشهور فى ولاية نيويورك، وقدم له جرائد تتحدث عنه وعن فنه.. فقد كان يعزف على آلة «الساكسفون»، تعرّف يحيى إليه، وأخذ بعد ذلك اسم «عثمان كريم» عندما أشهر إسلامه، وبالفعل انضم إلى فرقتهم، كما انضم إليهم أيضًا «إيلى نجار»، المصرى- اللبنانى الذى ذهب بعد ذلك إلى لبنان.
بدأت الأحلام بمشاهدة ومتابعة حركة فِرق الجاز ونشاطها فى العالم، وكان يحيى قد أصبح مستعدًّا لخوض شكل جديد من الحفلات المتخصصة فى الفن الذى كرَّس له وقته وجهده وكل طاقته. والذى ساعد يحيى فى ذلك أنه كان قد كوَّن فى هذه الفترة فرقتين «فرقة البوب ميوزك»، وكان عضواها عمر خورشيد وهانى شنودة، وكانا يلعبان فى الإسكندرية فى ميامى وستانلى، وكانا مبسوطَين جدًّا، ونجحا وتعاونا معًا كثيرًا لسنين طويلة.. وأيضًا فرقة الجاز التى كوَّنها، وكانت قصة أخرى، فقد كان أعضاؤها العازف ماك سبيرز وعزت أبوعوف وعازف الكونترباص إيلى النجار، وهى فرقة «كايرو جاز كوارتيت».
عزف معهم إيلى النجار موسيقى الجاز لأول مرة، وكان وقتها عمره لم يتجاوز ١٩ سنة، ونجحوا، وزاد انتشارهم وتألقهم، وكانت حياة يحيى كلها شغف ومشاغل واتفاق على حفلات وانتشار فى عدة أماكن.. وأصبحت فكرة مُلحة أن يقيموا حفلة جاز على المسرح، تُباع لها تذاكر، وليست حفلة رقص، فبحث بصعوبة عن مكان، لأن كل الأماكن كان إيجارها مرتفعًا، وكانوا ما زالوا طلابًا وليست لديهم إمكانات لذلك.
لجأ يحيى دون تردد مرة أخرى إلى «أبونا عجمى»، الذى كان من البداية داعمًا ومرشدًا ومشجعًا له، وبالفعل، ساعدهم فى إيجار قاعة النيل التى تتبع المركز الكاثوليكى، التى تقام فيها حفلات التكريم وتوزيع جوائز الأعمال الدرامية. وتواصل «أبونا عجمى» معهم بصفته كاثوليكيًّا مثلهم لتأجير هذا المسرح، وقال لهم إنهم شباب واعد، ونريد مساعدتهم. فأجَّروا المسرح، وقتها كان إيجاره قرابة ثلاثين أو أربعين جنيهًا، ولكنه أقنعهم بتأجيره لهم بمبلغ رمزى: خمسة عشر جنيهًا. وباعوا التذاكر، بـ١٠ صاغ «عشرة قروش» التذكرة، وقتها كان لديهم أصحاب كثيرون، فباعوا لهم التذاكر، وهكذا مرة يدفعون ١٥ جنيهًا إيجارًا، والدخل كله قرابة ١٨ جنيهًا، فيدفعون الإيجار، ويكون لهم مكسب بسيط، لكنهم كانوا فى غاية السعادة، وعملوا عدة حفلات.. وذات مرة خسروا نحو ٧ جنيهات، ما أصابهم بالحزن والغم، وشعروا بالفشل، حينها عادوا إلى مصر الجديدة سيرًا على الأقدام، ورغم ذلك لم تتوقف الحفلات.
وبعد مرور أكثر من نصف قرن حصل يحيى على تكريم فوق خشبة المسرح نفسه، حيث أعلن خلال التكريم عن أنه فوق هذ المسرح أقام أول حفل خاص لموسيقى الجاز فى مصر، ولديه فيه ذكريات جميلة لن تُنسى.
خلال ذلك الوقت، لم تنقطع علاقته واتصاله الدائم مع «أبونا عجمى»، الذى كان دائمًا يدعمه ويشجعه، وكان يحس بمدى طموحه، ورغبته فى أن يكون شيئًا مختلفًا. وكان يحب عزت وعمر جدًّا، حتى إنه فى إحدى مرات سفره أهدى عمر جيتارًا، وهو الذى عزف عليه مع فرقة أم كلثوم. ومرة أخرى، أهدى عزت «أورج» ماركة «فارفيزا» الشهيرة، وهذا يُعتبر أول أورج «فارفيزا» يدخل مصر، وهو صناعة إيطالية، أما يحيى، فقد أرسل إليه هانى شنودة هدية من أمريكا، جهازًا اسمه «فريمن أند سمبل»، وكان يُعتبر أول جهاز فى التاريخ يعزف بأصوات الكمانجات.
بيروت نيويورك.. وأبونا عجمى مرة أخرى
طوال هذه الفترة، كأى مراهق، كانت له علاقات عاطفية كثيرة، أجانب ومصريون، ولكن أباه كان يسخر من علاقاته المبكرة، ويقول له بسخرية: «يلَّا اتجوز واحدة وأديكم المصروف إنتم الاتنين». والحقيقة، كان حلم السفر أكبر من أن يتزوج أو يرتبط رسميًّا، وكانت علاقاته تقف عند حد معين، لا تتجاوز أكثر من إعجاب وحب، فكان يضغط على قلبه، لأن عنده حلمًا أكبر، وغالبًا كانت علاقاته ستفشل إذا استمرت، فكانت علاقاته العاطفية كلها تفاهم، وكانت تنتهى بود وذكريات جميلة.
وقتها كان كل تركيزه على كيفية السفر، لأن الموضوع ليس سهلًا، ولم يكن يعلم إلى أين سيصل، ولا كيف، وما النتيجة؟
كان كل تفكيره يتلخص فى كيف يسافر ويصل إلى أمريكا. وحدثت المعجزة عندما أعلن عبدالناصر بعد الوحدة العربية عن أنه سيسمح بالسفر لأى مواطن يستطيع الحصول على دعوة من أى دولة عربية، فساعده وقتها «أبونا عجمى» فى الحصول على دعوة إلى لبنان، وكان وقتها ما زال يدرس، ولو انتظر إلى آخر سنة دراسية كان سيدخل الجيش، ومشكلته أنه عندما التحق بالجامعة لم يقدم على تأجيل التجنيد، وبالفعل استدعوه للخدمة العسكرية. ولما وصل مقر خدمته انزعج جدًّا، وكان المفروض أن يقضى الليلة فى القسم انتظارًا لترحيله فى اليوم التالى إلى الوحدة العسكرية، لكنه استطاع التواصل مع والده حتى يستطيع أن يخرجه يومها.
خرج يحيى من هذا المأزق على أمل أن يعود فى اليوم التالى لإنهاء إجراءات التجنيد، لكنه مشى ولم يعد، وقال لهم: «احكموا علىَّ بالإعدام، وأنا مش ممكن أرجع هنا»، المهم، حصل على الدعوة عام ٦٥ أو ٦٦ عن طريق «أبونا عجمى». وقتها كان القانون لا يسمح للمسافر إلى خارج البلاد بالسفر بأكثر من ٥ جنيهات، أى ما يوازى ١١ دولارًا وقتها، وكان معه جواز سفر مدته شهر وفيزا مدتها أسبوعان، كما كان لديه صديق يدرس أبوه فى جامعة بيروت، واتفق مع صديقه هذا على أن يعطيه ما يدخره من نقود ليرسلها إلى أهله فى بيروت، على أن يأخذها عندما يسافر، كما التقى «أبونا عجمى» قبل سفره، الذى سأله: «هل لديك أصدقاء أو أقارب ينتظرونك، أو سيوفرون لك مكانًا عند وصولك؟ وهل معك مبلغ يكفى لتأجير مكان؟»، وبالطبع كان رد يحيى أنه لا يعرف أحدًا هناك، وليست لديه فكرة عما سيحدث ولا ما سيلاقيه.
على الفور، اقترح عليه «أبونا عجمى» أن ينزل فى دير «الشير» فى سوق الغرب فوق الجبل، وهو من أشهر الأديرة فى لبنان. وقال له: «انتظِرنى، سأتحدث مع المسئول عن الدير».
وفعلًا، تحدث مع يحيى وأخبره بأنه قد أعد له مكانًا فى الدير، وأوصى المسئولين هناك عليه. وافق يحيى طبعًا، وشكره، وبدأ تجهيز أوراقه واحتياجاته.
كانت أول مرة يترك بيت أهله. خرج وبداخله حلم وفضول وخوف من المجهول.
من كتاب يصدر خلال أيام عن دار «ريشة» للنشر والتوزيع.