الخميس 13 فبراير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مهنة سريـة.. سباحة ضد تيار القيم المجتمعية البالية

حرف

- يحمل عنوان الرواية «مهنة سرية» دلالات عميقة تعكس جوهر العمل وطبيعته الغامضة

تدور الفكرة الرئيسية لرواية «مهنة سرّية»، الصادرة حديثًا للروائى المصرى محمد بركة عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، حول رحلة البحث المضنية عن الذات والمعنى فى عالم متناقض وملىء بالغموض. تتجسد هذه الرحلة فى حياة «علاء»، الشاب الذى يعمل فى مهنة سرية وغير تقليدية، حيث يقدم خدمات المتعة المدفوعة الأجر للنساء. يبدو هذا الاختيار المهنى فى ظاهره كونه مجرد وسيلة لكسب العيش، ولكنه فى العمق يتجاوز ذلك ليصبح استكشافًا عميقًا للعلاقات الإنسانية، والهوية، ومعنى الحرية. 

يطرح الكاتب عبر هذه الفكرة الرئيسية تساؤلات حول طبيعة الرغبات البشرية، وكيف يمكن أن يتلاعب المجتمع بالقيم والأخلاق لتحقيق مصالحه. فكرة «المهنة السرية» نفسها ليست مجرد وسيلة لكسب الرزق، بل هى مرآة تعكس الصراعات الداخلية لبطل الرواية، ورغبته فى الهروب من قيود المجتمع، والعائلة، والتقاليد.

إلى جانب هذه الفكرة المحورية، تتشعب أفكار ثانوية تزيد من ثراء العمل وعمقه، مثل فكرة الصراع بين الشرق والغرب، الذى يظهر فى علاقة «علاء» بالأجنبيات، وفى نظرته المتباينة للقيم والمفاهيم. كما تطرح الرواية فكرة الاستغلال والتلاعب، سواء فى العلاقات العاطفية أو فى مجال العمل، ما يطرح تساؤلات حول العدالة الاجتماعية والأخلاقية. هناك أيضًا فكرة الهوية المزدوجة، حيث يعيش البطل بين هويته كشاب مصرى من خلفية تقليدية، وهويته كشخص يعمل فى مهنة غير تقليدية تتنافى مع القيم السائدة فى مجتمعه. 

كما تبرز فكرة الحرمان، سواء كان حرمانًا عاطفيًا أو ماديًا أو اجتماعيًا، وكيف يؤثر ذلك على خيارات الأفراد وتوجهاتهم، كما تتجلى كذلك فكرة البحث عن السعادة، حيث يسعى البطل للوصول إلى لحظة الإشباع الحقيقية التى لم يختبرها قط، ما يدفعه إلى استكشاف عوالم مختلفة ومواجهة تحديات عديدة.

يحمل عنوان الرواية «مهنة سرية» دلالات عميقة تعكس جوهر العمل وطبيعته الغامضة. كلمة «مهنة» تشير إلى عمل منظم ومحدد، بينما كلمة «سرية» تضيف إليه طابعًا من الخفاء والغموض. هذا التناقض فى العنوان يلفت انتباه القارئ ويثير فضوله، ويدفعه للتساؤل عن طبيعة هذه المهنة الغريبة التى اختارها البطل لنفسه. والعنوان لا يكشف عن طبيعة العمل بشكل مباشر، بل يترك مساحة للتكهن والتخمين، مما يزيد من جاذبية العمل ويشجع على قراءته. إضافة إلى ذلك، فإن كلمة «سرية» تلمح إلى أن هذه المهنة تخالف الأعراف والتقاليد السائدة، وأن البطل يعيش حياة مزدوجة، ظاهرها العمل الروتينى وباطنها عالم ملىء بالأسرار والمغامرات. كما يشير العنوان إلى أن هناك جانبًا خفيًا فى شخصية البطل لا يعرفه الآخرون، وأن هناك دوافع خفية تدفعه إلى ممارسة هذه المهنة. 

أما عن عتبة النص، فتبدأ الرواية بعبارة لافتة: «آمنت بالجنة لسبب بسيط لا يخطر ببال معظم المؤمنين وهو أن لحظة الإشباع الحقيقية لم أعرفها أبدًا فى حياتى».. هذه العبارة الافتتاحية تصدم القارئ وتثير تساؤلاته، حيث تبدو وكأنها تناقض الاعتقاد الدينى التقليدى حول الجنة. كما أنها تكشف عن جانب من شخصية البطل، وهو بحثه الدائم عن الإشباع الحقيقى، سواء كان ماديًا أو روحيًا. ثم ينتقل السرد إلى وصف دقيق ومفصل لحياة البطل، حيث يظهر كشخص يعيش فى عزلة اختيارية، ويتفرغ لطقوس غريبة مثل تربية النحل وممارسة اليوجا، ومنافسة الذكاء الاصطناعى فى الشطرنج. هذا التقديم للشخصية يضيف المزيد من الغموض على العمل، ويدفع القارئ للتساؤل عن طبيعة هذا الرجل، وما الذى دفعه إلى اختيار هذه الحياة الغريبة. 

محمد بركة

تتضمن رواية «مهنة سرية» فلسفة وجودية، تتجلى فى تساؤلات البطل المتكررة حول معنى الحياة، وطبيعة السعادة، ومفهوم الحرية. تنطلق الرواية من فكرة أساسية هى أن الإنسان يعيش فى عالم عبثى، لا يحمل أى معنى جوهرى، وأن على كل فرد أن يخلق معناه الخاص بنفسه. هذا التوجه الوجودى يظهر فى نظرة البطل إلى عمله، فهو لا يرى فيه مجرد وسيلة لكسب الرزق، بل هو استكشاف للرغبات البشرية، ومحاولة لفهم الذات والعالم من حوله. كما تتبنى الرواية رؤية نقدية للقيم السائدة، حيث يظهر البطل كمتمرد على التقاليد والأعراف الاجتماعية، ويسعى إلى خلق قيمه الخاصة. 

تتناول الرواية أيضًا فكرة الجسد والروح، والصراع الدائم بينهما. فالبطل يعمل فى مجال يركز على الجسد، لكنه فى الوقت نفسه يبحث عن معنى روحى أعمق. هذا الصراع يظهر فى تناقضاته الداخلية، وفى محاولته المستمرة للتوفيق بين رغباته الجسدية وتطلعاته الروحية. بالإضافة إلى ذلك، تطرح الرواية تساؤلات حول طبيعة الحقيقة والوهم، حيث يعيش البطل فى عالم ملىء بالأقنعة والأكاذيب، ويصعب عليه التمييز بين الحقيقة والزيف. هذا التوجه الفلسفى يظهر فى أسلوب السرد، حيث تتداخل الأحداث الواقعية مع الخيالات والتأملات، ما يخلق جوًا من الغموض والتساؤل.

كما تتناول الرواية قضايا أخلاقية، مثل مفهوم الخيانة، والصدق، والأمانة، وتطرح تساؤلات حول الحدود التى تفصل بين الخير والشر. كما تركز على فكرة أن الإنسان حر فى اختياراته، وأنه مسؤول عن عواقب هذه الاختيارات، وأن لا أحد يستطيع أن يملى عليه طريقة عيشه. كما تعكس الرواية رؤية متشائمة للطبيعة البشرية، حيث يظهر الإنسان ككائن أنانى يسعى لتحقيق مصالحه الخاصة، حتى لو كان ذلك على حساب الآخرين.

تعتمد رواية «مهنة سرية» على تقنيات سردية متنوعة ومتداخلة، مما يثرى العمل ويجعله أكثر جاذبية. يبرز استخدام ضمير المتكلم بصورة رئيسية فى السرد، حيث يتيح ذلك للقارئ الدخول إلى أعماق البطل، والتعرف على أفكاره ومشاعره وتناقضاته. كما يتيح هذا الأسلوب السردى خلق جو من الألفة بين القارئ والشخصية الرئيسية، ويجعل القارئ جزءًا من رحلة البحث عن الذات والمعنى. هناك أيضًا استخدام لتقنية التداعى الحر للأفكار، حيث ينتقل السرد بسلاسة من موضوع إلى آخر، مما يعكس تدفق الوعى لدى البطل، وتأملاته فى الحياة والعالم من حوله.