جبهة أخرى للصراع.. أزمة الهُوية فى «شامة سوداء أسفل العنق»

القضية الفلسطينية مرآة تعكس أعمق أزمات الوجود الإنسانى، خاصة إذا تناولنا الأمر من خلال الصراع بين حق أصحاب الأرض والاحتلال، بين الهُوية والشتات. فى هذا السياق، تتجلى رواية «شامة سوداء أسفل العنق» الصادرة عام 2024م عن دار المرايا للطباعة والنشر والتوزيع، للكاتب الفلسطينى: جهاد الرنتيسى، كنافذة حية تُعيد تشكيل المعاناة الفلسطينية عبر عدسة أكثر موضوعية؛ ربما لأنه يمكننا اعتبار الوظيفة التلقائية للهُوية هى حماية «ذات» الكاتب من عامل التعرية التى تتم نتيجة التوترات النفسية، وعامل الذوبان الناتج عن سُلطة «الجماعة السيكولوجية»؛ فالعامل المشترك بين الجماعات هو عامل «الهُوية» التى تُحددها مستويات مختلفة من الانتماء إلى العلامات اللغوية الواحدة.

فى الرواية يواجهنا العنوان الذى يحمل دلالات تتماشى مع موضوعات أزمة الهُوية، النضال، والمعاناة. فالشامة تُعتبر علامة مميزة على الجسد، قد تكون مؤلمة، لكنها فى الوقت نفسه جزء من الهُوية يصعب التخلص منها. القضية الفلسطينية أيضًا تظل تتطلب تذكيرًا دائمًا بالمعاناة.. هذا ويمكننا تناول الرواية بالقراءة النقدية من خلال النقاط التالية:
أولًا: من خلال الشخصيات والأحداث، تسلط الرواية الضوء على أزمة الهوية التى تُطارد أصحاب الأرض، والتى تتشابك مع الذاكرة الجمعية التى تحمل أعباء الماضى، وكأن الذاكرة صوت يقاوم النسيان ويحفظ جذور النضال. الرواية تُبرز كيف أن النفى القسرى يُعيد تشكيل الهوية، ليصبح البحث عن الذات مرتبطًا بالعودة، ليس بالضرورة إلى المكان، بل إلى حالة من التوافق مع ذاكرة الوجدان.
ثانيًا: الرواية تُظهر أن الأزمة ليست ضعفًا بقدر ما هى انعكاس لتعقيد النضال الفلسطينى، حيث تصبح الهُوية جبهة أخرى للصراع، تُعيد تشكيلها كل تجربة، وكل خسارة، وكل أمل، فها هو بطل الرواية: جواد الديك «يجره خياله إلى مرور أم كلثوم عليه ذات مساء».
ثالثًا: يمكننا اعتبار الرواية بمثابة شهادة على جُرح وطن مقسَّم داخليًا ومشرَّد خارجيًا، من خلال: الانقسام الداخلى، النضال الفلسطينى، الهوية فى المنفى، والذاكرة الجمعية بوصفها حجر الزاوية فى صمود الشعب الفلسطينى.
رابعًا: البحث عن الذات فى ظل الشتات، فى قلب الرواية يبرز البحث عن الذات كمعضلة وجودية تواجه الشخصيات الفلسطينية، المنفية جسدًا ووجدانًا عن وطنها. مع ملاحظة أن الشتات هنا لا يعنى فقط فقدان الأرض، بل هو أيضًا تيه داخلى يتجسد فى سؤال الهوية والانتماء: كيف يمكن للفرد أن يُعرِّف نفسه فى غياب وطن ملموس؟ يتقاطع هذا التساؤل مع رواسب الذاكرة الجمعية، حيث يتحول الماضى إلى عبءٍ ثقيل.
خامسًا: الشخصيات تبدو ممزقة بين ماضٍ تسعى للحفاظ عليه وحاضرٍ يفرض واقعًا مريرًا من الغربة. مثال لذلك أفراد عائلة: أم عامر «عامر فى البحرين، أبوه فى أمركا، رمزى فى لبنان»، هذا التمزق يجعل البحث عن الذات رحلة مليئة بالصراع النفسى، إذ تسعى الشخصيات للعثور على موطئ قدم يُعيد إليها إحساس الانتماء. من خلال استعراض هذه الرحلة، تُظهر الرواية أن الهوية ليست مجرد انتماء جغرافى، بل هى نضال مستمر لإعادة تعريف الذات فى مواجهة التشريد والاغتراب. فالشخصيات فى الرواية تجد نفسها عالقة بين ولاءات متباينة، تعكس صراعات أكبر بين فصائل متناحرة، مما يؤدى إلى انقسامات داخلية تفاقم الشعور بالغربة والخيبة.
سادسًا: الذاكرة كأداة للحفاظ على القضية تتجلى فى الرواية كحارس أمين للقضية الفلسطينية، تسكن النصوص بأحداثها وشخوصها، وتبقى حية رغم محاولات الطمس والتشويه. فالذاكرة ليست مجرد استدعاء للماضى، بل هى أداة فعّالة للحفاظ على الهوية، حيث تُعيد الشخصيات من خلالها صياغة معانى النضال.
سابعًا: الكتابة التوثيقية: تعكس الرواية أهمية التوثيق الموضوعى للتجربة الفلسطينية كجزء من مشروع مقاومة النسيان، حيث تتحول رسائل «فانيسا ريدغريف» والحكايات والصور والرموز إلى ذاكرة مضادة تحمى الحقيقة.
ثامنًا: الانقسام الداخلى: جُرح الذات الفلسطينية يشكل الانقسام الداخلى، أحد أبرز الجراح التى تنزف فى الجسد الفلسطينى، وقد عكست الرواية آثاره على الهوية والوعى الجمعى. فبينما تواجه القضية الفلسطينية تحديات الاحتلال والتهجير، يُضاف الانقسام السياسى والاجتماعى كعبء ثقيل يُعمِّق حالة التمزق. مع إبراز الكيفية التى يتحول بها الانقسام إلى قوة معرقلة للنضال الجمعى، حيث يُضعف الوحدة الوطنية ويجعل الفلسطينى فى حالة صراع مزدوج: صراع مع المحتل وصراع مع الذات المنقسمة. لذلك قام الراوى العليم بمقارنة عداء المنظمات الصهيونية بهجمات بعض العرب.

تاسعًا: الكولاج السردى الذى اتضح من خلال: رسائل «فانيسا ريدغريف»، وصورة الملكة إليزابيث على طابع البريد، التقرير المصور عن العدوان الثلاثى على مصر، تقرير المصور عن إحدى الصحف البريطانية، ذكر مجلة التايمز، الأمثال الشعبية مثل: إن أكل الرجال على قدر أفعالها، وأول الرقص حنجلة، كتاب حكمة الغرب لسلسلة عالم المعرفة، نسخة كتاب التفكير العلمى، ملف زيارة فانيسا للكويت، خريطة تصفيات اليمين واليسار والوسط فى بريطانيا، أفلام: المخدوعون، وعائد إلى حيفا، روايات إيميل حبيب وجبرا إبراهيم جبرا، آرثر ميلر ومسرحية الثمن، بوق الشاحنة التى تمر قرب نافذة القبو.
عاشرًا: الميتاسرد من خلال: الهوامش الكثيرة، وتعدد الضمائر؛ فنجد التحدث بضمير المتكلم على لسان «فانيسا»، وبضمير الغائب على لسان الشخصية المحورية، والتعليقات السردية التى هى من وظائف الراوى العليم فى الرواية.