الجمعة 23 مايو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

عبدالناصر وإسرائيل.. القصة السرية الكاملة

عبدالناصر ومعمر القذافي
عبدالناصر ومعمر القذافي

- عبدالناصر بعث برسالة إلى رئيس وزراء إسرائيل عام 1954 وقال له: أتمنى إنهاء المشكلة بالحل السلمى من أجل مصالح بلادنا 

- مبعوث أمريكى سرى للشرق الأوسط يقول: كتبت معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل.. وعبدالناصر وافق عليها

- عبدالناصر يعرض الجلوس مباشرة مع الإسرائيليين بعد الانسحاب

- «ناصر» دعا رئيس المجلس اليهودى العالمى إلى زيارة مصر.. وجولدا مائير رفضت

- مبادرة ناصر للسلام فى 1969: حدود آمنة لإسرائيل وحرية عبور للسفن الإسرائيلية من قناة السويس مقابل عودة الأرض المحتلة

كان «الرئيس» من يتحدث، وليس «الزعيم»

هذا ما بدا لى من التسجيل الصوتى الأخير لاجتماع عُقد عام 1970 بين جمال عبدالناصر والعقيد الليبى معمر القذافى.

توقف كثيرون عند مرارة «عبدالناصر» من «المزايدات» العربية عليه، بعد قبوله مبادرة وزير الخارجية الأمريكى روجرز لوقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل 1970، وهو الموقف الذى جرَّ عليه اتهامات «التخوين» من أنظمة العراق وسوريا والجزائر واليمن الجنوبى والفصائل الفلسطينية.

وتوقف كثيرون عند ضيق «عبدالناصر»، بل «كفره» بالوحدة العربية، وهو ما بدا فى قوله للقذافى: «روحوا حاربوا وحلوا عننا».

وهذه وقفات مهمة بالطبع؛ لكن ما أخذنى أكثر هو بحث «عبدالناصر» عن مصلحة مصر أولًا، وهو ما يختلف عن «عبدالناصر» قبل هزيمة 67، عندما كان يتحدث بلسان «الزعيم» الذى يهتم بصورته ومواقفه المتناغمة مع مزاج العالم العربى، لا «الرئيس» الذى يضع مصلحة بلده قبل أى شىء.

ثم إن واقعيته فى النظر إلى المعركة مع إسرائيل كانت مفاجئة لكثيرين ممّن يحملون «عبدالناصر» أكثر مما يحتمل فى هذه المساحة، استنادًا إلى صورة مرسومة- على غير الحقيقة- عن «الرجل الذى أراد أن يرمى إسرائيل فى البحر»، و«الزعيم الذى يقول: فلسطين من النهر إلى البحر».

لكننى لم أتفاجأ بهذه الواقعية؛ فلم يقل «ناصر» أبدًا إنه يريد أن يلقى اليهود فى البحر، ولم يؤمن بإزالة إسرائيل وإقامة فلسطين من النهر إلى البحر. ولا أتجاوز إذا قلت إنه أراد سلامًا مع إسرائيل فى وقت مبكر، لكن «عبء الزعامة» وتداعى الأحداث أجهض مشروعات السلام.

أما كيف حدث ذلك؟ فهذا ما نقرأه معًا فى هذه الوثائق الموجودة والمتاحة عن محاولات السلام المصرية الإسرائيلية على يد جمال عبدالناصر شخصيًا.

عبدالناصر حاول التوصل إلى «تسوية سلمية» مع إسرائيل بعد عامين فقط من ثورة يوليو

 إحدى الوثائق بشأن مراسلات شاريث وناصر 

نحن الآن فى عام ١٩٥٤، الثورة تحتفل بعيدها الثانى و«عبدالناصر» يفكر فى تسوية لقضية إسرائيل، وقد قرر أن يكون الحوار مباشرًا.

عن طريق مبعوث خاص فى باريس، أرسل رسالة مفاجئة إلى رئيس وزراء إسرائيل، موشيه شاريت، تحدث فيها عن حل المشكلات القائمة بين مصر وإسرائيل بالطرق السلمية.

المفاجأة أدهشت «شاريت»، الذى رد برسالة دافئة بتاريخ ٢١ ديسمبر ١٩٥٤.

حسب ترجمة الزميل محمد البحيرى، المتخصص فى الشأن العبرى، للوثائق الإسرائيلية المفرج عنها فى عام ٢٠١٣ بشأن اتصالات «شاريت» و«عبدالناصر«، فقد رد رئيس الوزراء الإسرائيلى قائلًا:

«الكثير منا نحن الإسرائيليين يقدرون مثاليتك الشجاعة والجريئة، وإصرارك على أداء واجبك. ونتمنى لك كل النجاح فى تحقيق استقلال أرض النيل من بقايا الحكم الأجنبى، وأن يسير جموع الشعب المصرى قدمًا نحو جنة التطور الاجتماعى والازدهار الاقتصادى.

وصلتنى رسالتك التى أرسلتها عبر مبعوث خاص يقيم الآن فى باريس، وشعرت بكثير من الرضا عندما أدركت أنك تطلب التوصل إلى حل المشكلات القائمة بين مصر وإسرائيل بالطرق السلمية. وأهنئك بصفة خاصة على استعدادك للتفكير فى اتخاذ إجراءات لتحسين الوضع الحالى وتقليل حدة التوترات القائمة. ونحن من جانبنا مستعدون تمام الاستعداد للتعاون معك فى الجهود التى تستهدف تحقيق هذا الهدف. ونحن واثقون أنك تسعى لتحقيق السلام والتقدم، ونفهم جيدًا أن الأمرين مرتبطان ببعضهما البعض.

ولهذا السبب، نأمل فى مشاهدة أدلة ملموسة على أنك وزملاءك تمهدون الطريق أمام التوصل إلى تسوية مع إسرائيل، من خلال تأهيل الرأى العام لديكم ليلتفت إلى الأهمية القصوى لإحلال السلام فى الشرق الأوسط».

وهنا يحدد رئيس الوزراء الإسرائيلى خطوتين مطلوبتين كبادرة حسن نية، ويقول:

«هناك موضوعان على نحو خاص قد يكون لطريقة التعامل معهما تأثير كبير وحاسم على تطور العلاقات بين دولتينا. أولًا، السماح بحرية المرور فى قناة السويس أمام السفن المتوجهة إلى إسرائيل والراحلة منها، وهو ما يعنى التزام مصر بتعهداتها الدولية، وسوف ينظر المجتمع الدولى إلى ذلك بتقدير كبير.

أما الموضوع الثانى فهو المسألة العاجلة المتعلقة بالمحاكمة الجارية الآن فى القاهرة (كان يقصد القضية المعروفة بفضيحة لافون عندما ألقت الأجهزة الأمنية المصرية القبض على اليهود وعملاء الموساد المتورطين فى استهداف مصالح أجنبية فى مصر بقصد تعطيل الانسحاب البريطانى)، ولا أستطيع أن أبالغ فى التأكيد على خطورة الأمر المطروح على العدالة، ولكننى آمل من كل قلبى ألا يتم إصدار الحكم الذى تطالب به النيابة، وهو الحكم بالإعدام على المتورطين فى هذه القضية.

فلو حدث ذلك، سيؤدى حتمًا إلى إثارة أزمة حادة، ويعيد إشعال نار المرارة والصراع مرة أخرى، وسيجهض جهودنا، ويخمد حماسنا لقيادة شعوبنا نحو طريق السلام. ونتمنى أن تنتصر السياسة بعيدة المدى على تفكير اللحظة، من أجل الهدف الذى أفترض أنه هدف مشترك بيننا، وهو التوصل إلى اتفاق سلام بين مصر وإسرائيل، وأن يحل السلام والرخاء فى أنحاء المنطقة كلها».

هذه الرسالة رد عليها «عبدالناصر» بخطاب قال فيه لـ«شاريت»:

«لقد تلقيت رسالتك المكتوبة بتاريخ ٢١ ديسمبر ١٩٥٤، وأبلغت مبعوثى الخاص أن يبلغك شفهيًا إجاباتى عن الأسئلة التى ذكرتها فى خطاباتك. وأنا سعيد للغاية لتقديرك الجهود المبذولة من جانبنا لدفع علاقاتنا نحو الحل السلمى. وآمل أن يقابل ذلك جهود مماثلة من جانبكم، حتى يتيح لنا ذلك تحقيق النتائج التى نسعى إليها من أجل مصالح بلادنا نحن الاثنين».

وقد شُطب اسم المبعوث الخاص من الرسائل، ولم يوضح الأرشيف الإسرائيلى إلى أين انتهت «دبلوماسية الرسائل» بين «عبدالناصر» و«شاريت»، لكن الأكيد أنها فشلت. وقد تكون أحكام «فضيحة لافون»، خصوصًا الإعدامات، من بين أسباب الفشل.

بن جوريون

محادثات سرية بين عبدالناصر وبن جوريون بوساطة من الأمريكيين والإنجليز.. ولا أحد يعرف إلا على صبرى وزكريا محيى الدين

الوقفة هذه المرة مع وثائق الخارجية البريطانية، التى رفُع الحجب عنها فى يناير ٢٠٢٤، ونقرأ فيها أسرار محادثات سرية غير مباشرة بين «عبدالناصر» وديفيد بن جوريون، رئيس الوزراء الإسرائيلى.

وهذه المحادثات كانت مشروعًا أمريكيًا بريطانيًا بالأساس ضمن ما يُعرف بـ«مشروع ألفا» الذى حاول رفض حصار سياسى اقتصادى على الاتحاد السوفيتى وتقويض نفوذه.

فى وثيقة تحمل عنوان «محادثات مع رئيس جمهورية مصر العربية جمال عبدالناصر حول إسرائيل وفلسطين» نعرف أن الوسيط بين «عبدالناصر» و«بن جوريون» كان روبرت أندرسون، وزير البحرية الأمريكية السابق ونائب وزير الدفاع.

هذا الوسيط دخل إلى مصر سرًا والتقى «عبدالناصر» لأول مرة فى ١٢ يناير ١٩٥٦، ثم عقدا لقاءات فى أيام تالية.

وفى هذه اللقاءات جرى الحديث عن تسوية محتملة مع إسرائيل، وتعهد «عبدالناصر» بالمضى فيها مقابل أن تدعم الولايات المتحدة وبريطانيا جهودًا من أجل «وحدة عربية».

إحدى الوثائق البريطانية

وقد أكد الأمريكيون فى هذا الشأن، حسب الوثائق، أنهم لا يمانعون «الوحدة»، واعتراضهم الوحيد أن تكون موجهة ضد إسرائيل.

وفى اللقاءات الأولى لم يكن هناك حديث تفصيلى عن تسوية القضية الفلسطينية، ولم يكشف أيضًا «ناصر» أوراقه كاملة.

أما على الجانب الآخر، فقد التقى الوسيط مع «بن جوريون» وخرج بانطباع إيجابى، لكن اللقاءات التالية أعطت مناخًا سلبيًا بعد أن رفض رئيس الوزراء الإسرائيلى الكشف عن «الثمن النهائى للسلام»، واشترط أن يكون ذلك فى محادثات مباشرة مع «ناصر» على طاولة واحدة.

وفى لقاءات تالية تكشف الوثائق عن أن «عبدالناصر» كان متخوفًا من تسريب هذه المحادثات، حتى إنه لم يعرف بها أحد سوى اثنين، وهما: على صبرى وزكريا محيى الدين. فقد كان يخشى الاغتيال- لدرجة «الرعب المرضى» كما تقول إحدى البرقيات- إن تسرب أمر المحادثات أو تبين أنه مستعد للتفاوض مع إسرائيل.

وأمام ذلك، حاول الوسيط الأمريكى أندرسون جمع «ناصر» و«بن جوريون» فى لقاء مباشر حتى يكشف كل طرف عن أوراقه.

لكن «عبدالناصر» رفض فكرة إجراء محادثات مباشرة سواء مع حكومة إسرائيل أو حتى مع يهودى أمريكى يتصرف نيابة عنها، ووافق فقط على «وسيط» بينه وبين إسرائيل.

وتنهار المحادثات عند هذه النقطة، خصوصًا مع عدم استجابة الطرفين للنداء الأمريكى بتهدئة التوتر الإعلامى ووقف العنف المتبادل والتطلع إلى المكاسب الاستراتيجية. ثم جاء العدوان الثلاثى وازداد العداء.

الزعيم يعرض السلام والتطبيع على إسرائيل فى 1964 مقابل استعادة الأرض 

كانت فرصة السلام الثالثة فى عام ١٩٦٤.

أجرى «عبدالناصر» حوارًا مع الصحفى الفرنسى الشهير، إريك رولو، صاحب كتاب «فى كواليس الشرق الأوسط»، وتحدث لأول مرة بكلمات مثل «السلام» و«علاقات طبيعية».

فى هذا الحوار قال «ناصر»:

«يتعين على إسرائيل إعادة الأراضى المحتلة (يقصد خارج حدود قرار التقسيم) وإعادة اللاجئين أو تعويضهم، فى مقابل السلام مع العرب والعلاقات الطبيعية».

ويطير إريك رولو، وكان يهودى الديانة ولد فى القاهرة ودرس فيها، إلى إسرائيل وينقل كلمات «عبدالناصر» إلى ليفى أشكول، رئيس الوزراء آنذاك.

لكن «أشكول» باغته- كما يصف فى كتابه- برد صادم: «ولا شبر واحد ولا لاجئ واحد».

هذا الرد الذى علق عليه إريك رولو بقوله: «لم أكن أتوقع رد فعله الحاد هذا، رغم أننى كنت على دراية باعتدال الزعيم الإسرائيلى وميله للحلول الوسط».

عبدالناصر والصحفى الفرنسى إريك رولو

عبدالناصر يكتب معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل ويضع ملاحظاته بـ«قلم أحمر»

قد يستغرب كثيرون أن «عبدالناصر» ذهب بعيدًا فى الواقعية بعد هزيمة ٦٧ لدرجة القبول باتفاق سلام منفرد مع إسرائيل، وهو ما يخالف ما صرح به فى العلن بالطبع.

الرواية صاحبها الدكتور وليم بولك، المبعوث الأمريكى الذى قام باتصالات سرية بين «عبدالناصر» وهنرى كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية الأشهر، بعد فوز ريتشارد نيكسون بالرئاسة.

«بولك» كشف، فى حوار مع مجلة «المجلة» السعودية قبل ٥ سنوات، أنه وضع بنفسه مسودة اتفاق سلام بين مصر وإسرائيل، وحصل على موافقة «عبدالناصر» عليها.

القصة تبدأ فى ديسمبر ١٩٦٨ عندما التقى «بولك»- كما روى- بـ«كيسنجر» فى فندق بيار فى نيويورك، وهو المقر المؤقت الذى أنشأه نيكسون لمستشاريه بعد فوزه بالرئاسة.

يقول «بولك» عن هذا اللقاء:

«تحدثنا طويلًا عن الوضع فى الشرق الأوسط، وأراد كيسنجر أن يعرف بشكل خاص إذا كانت هناك فرص حقيقية لتحرك جاد يستهدف إيجاد حل للنزاع بين مصر وإسرائيل.. وقلت له إن الفرص تبدو طيبة وإن الرئيس عبدالناصر أظهر فى أحاديثه غير العلنية قدرًا من المرونة أكبر بكثير مما يستطيع إظهاره علنًا بالطبع، وتتمثل المشكلة فى إيجاد صيغة معقولة لا تؤدى إلى فقدان عبدالناصر ماء وجهه واعتباره (خائنًا) للقضية العربية، بحيث تؤدى هذه الصيغة أيضًا إلى حماية المصالح المصرية والإسرائيلية والأمريكية».

.. وفى نهاية الحديث، طلب منه «كيسنجر» التوجه إلى القاهرة ومقابلة «عبدالناصر» واستطلاع آرائه.

بالفعل، توجه المبعوث الأمريكى إلى القاهرة وقابل «عبدالناصر»، وكانت بينهما معرفة سابقة ولقاءات فى الفترة من ١٩٦١ إلى ١٩٦٣، فى عهد الرئيس جون كينيدى.

يقول «بولك»:

«أمضيت عدة أيام فى القاهرة، خلال يناير ١٩٦٩، لإعداد صيغة تسوية سلمية وقضيت وقتًا طويلًا مع الدكتور حسن صبرى الخولى، أحد مستشارى عبدالناصر.. وخلال هذه اللقاءات أعددنا مسودة اتفاق سلام بين مصر وإسرائيل وسلمنا عبدالناصر النص وأجرى عليه تعديلات بالحبر الأحمر».

ماذا كان مضمون مسودة اتفاق السلام؟

«ركز الاتفاق على ضرورة انسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء التى احتلتها خلال حرب ١٩٦٧، وفى مقابل ذلك يوافق المصريون على أن تكون سيناء مجردة من السلاح، وعلى إنهاء المقاطعة بين مصر وإسرائيل وقيام تبادل تجارى بين البلدين.

ووفقًا لمسودة الاتفاق، فإن الجانبين سيعملان على تخفيف التوتر بينهما. ونص الاتفاق أيضًا على أن يتم تبادل العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإسرائيل بعد فترة معقولة».

وقد وافق «عبدالناصر» على معظم ما جاء فى مسودة الاتفاق، وأدخل عليها فقط تعديلًا بسيطًا يتعلق بتوقيت المراحل المختلفة للاتفاق بين البلدين.

عاد «بولك» إلى واشنطن وهو متحمس للغاية بهذا «الفتح الدبلوماسى»… لكنه فوجئ برد فعل «كيسنجر»، الذى لم يبدِ اهتمامًا بما حمله مبعوثه من القاهرة.. وكان المبرر انشغاله بفيتنام، الحرب التى أضاعت- كما يقول- فرصة تاريخية للسلام فى الشرق الأوسط.

والحقيقة أن «كيسنجر» لم يكن فقط منشغلًا بفيتنام، بل كان يؤمن بأنه لا سبب لتقديم تنازل مثل الانسحاب من الأرض المحتلة.

وهذا بالضبط ما قاله للرئيس السادات، عندما عرض عليه تسوية سلمية للصراع قبل حرب أكتوبر، فرد بقوله:

«إسرائيل انتصرت عسكريًا، والوضع فى الشرق الأوسط هادئ، ولا توجد حاجة ملحة لتحريك المياه الراكدة».

وهذه الإشارة فهمها «السادات»، فكان لا بد من تحريك الأوضاع على الأرض عسكريًا لإجبار أمريكا على التدخل من أجل التسوية.

عبدالناصر يرسل أحمد حمروش للوساطة مع زعيم الصهيونية ويوافق على مبادرة روجرز يأسًا

أحمد حمروش

فى بداية عام ١٩٧٠، طلب «عبدالناصر» اللقاء مع الصحفى الفرنسى إريك رولو، وأبلغه بأنه على استعداد لعقد اتفاقية سلام مع إسرائيل والبدء بالتطبيع الكامل مع الدولة الصهيونية بشرط إعادة جميع الأراضى المحتلة.

نشر «رولو» التصريحات «القنبلة»، لكن تل أبيب اعتبرتها مجرد دعاية.

لم ييأس «ناصر»، وبعد ذلك، وبالتحديد فى مارس ١٩٧٠، أرسل أحمد حمروش، الضابط والمؤرخ، إلى باريس للقاء إريك رولو، الذى يروى فى كتابه «فى كواليس الشرق الأوسط» ما جرى:

«اتجه حمروش مباشرة إلى هدف الزيارة: فقد كان مكلفًا من قِبل الرئيس لدعوة ناحوم جولدمان إلى القاهرة. كانت تلك خطوة غير مسبوقة فى تاريخ النزاع الإسرائيلى الفلسطينى، وكانت تهدد بإثارة عواصف من الاستنكار فى الشرق الأوسط. كان جولدمان، رئيس المجلس اليهودى العالمى، أحد أعمدة المنظمة الصهيونية العالمية، كما كان مواطنًا لدولة معادية، هى إسرائيل».

رتب إريك رولو لقاءً بين «حمروش» و«جولدمان» فى شقته بباريس، حيث نقل «حمروش» لرئيس المجلس اليهودى العالمى اقتراح «عبدالناصر» بأن يأتى إلى القاهرة فى زيارة شخصية بعد الحصول على تصريح بذلك من جولدا مائير.

طار «جولدمان» مسرعًا إلى القدس، كما قال، «بقلب منشرح وكله ثقة أن جولدا مائير والقادة الإسرائيليين سيسعدون بهذه الخطوة التاريخية والتى لا تلزمهم بشىء».

لكن حدث العكس!

يقول «رولو»:

«تظاهرت مائير بالاهتمام بالمشروع، لكنها رفضت إعطاءه موافقتها، كما رفضت الاحتفاظ بالأمر سرًا، مثلما طلب منها محدثها. فقد ادّعت أن عليها استشارة مجلس الوزراء، وهى تعلم أن غالبيته العظمى سترفض. والأهم، أن الخبر سيتسرب حتمًا مما سيُثير ردود فعل معارضة داخل غالبية الأحزاب السياسية».

وبالفعل، رُفضت زيارة «جولدمان» الذى اضطر للاعتذار عن عدم تلبية الدعوة.

وفى هذه الأجواء، ومع غياب الرغبة الأمريكية فى تسوية حقيقية للصراع، لم يكن أمام «عبدالناصر» إلا أن يقبل بمبادرة وزير الخارجية الأمريكى، وليام روجرز، لوقف إطلاق النار فى يوليو ١٩٧٠، وهو الموقف الذى جرَّ على «ناصر» الويلات واللعنات من «أنظمة المزايدة».

هذه المزايدات التى خلفت مرارة تحدث بها فى التسجيل الذى سمعناه أثناء لقائه مع «القذافى».

جولدا مائير

جولدا مائير ترفض عرض ناصر للسلام.. وتقول له: إعادة سيناء غير مطروحة بالمرة 

بعد مبادرة السلام الفاشلة بشهر واحد، وتحديدًا فى فبراير ١٩٦٩، قدم جمال عبدالناصر خطة للسلام من خمس نقاط، فى مقابلة نادرة مع صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية.

 

مبادرة ناصر للسلام فى ١٩٦٩ 

عرض «عبدالناصر» قيام مصر بإنهاء حالة العداء تجاه إسرائيل، والاعتراف بحق كل دولة فى العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها، واحترام السيادة والسلامة الإقليمية لجميع دول الشرق الأوسط، بما فى ذلك إسرائيل، وضمان حرية الملاحة فى الممرات الدولية، والسعى إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين.

وفى المقابل، انسحاب إسرائيل من الأراضى العربية المحتلة خلال حرب يونيو ١٩٦٧.

وفى هذه المقابلة، تحدث «ناصر» عن الاستعداد لإجراء لقاءات مباشرة مع الإسرائيليين إذا ما زالت أسباب الاحتلال، مدللًا بأنه سبق أن جلس معهم فى مفاوضات الهدنة أثناء حرب ١٩٤٨.

لكن الرد الإسرائيلى كان رفض المبادرة، وتحدثت جولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية وقتها، عن استحالة العودة لحدود ما قبل ٦٧، بل وتجاوزت ذلك وقالت إن «عودة سيناء غير مطروحة بالمرة حتى لو كان الثمن السلام والتطبيع الدائم».