حرف التقت به فى عزلته الإجبارية
آخر أنبياء الشعر.. زيارة خاصة لـ«محمد فريد أبوسعدة»

- الشاعر الكبير لـ«حرف»: «أحضروا لى الأقلام والورق لأكتب سيرتى الذاتية»
«سمعت من يقول
سأجعلُكَ تسمعُ ما لا أذنٌ سمعتْ
وترى ما لا عينٌ رأتْ
تسمعُ موسيقى الأفلاكِ
وأصواتَ الأنبياءِ السابقين»
انطلاقًا من هذه الأبيات، ضمن قصيدته «فض» المنشورة فى ديوانه «مكاشفتى لشيخ الوقت» «2008»، استطاع الشاعر محمد فريد أبو سعدة، آخر شعراء «شلة المحلة» الأدبية، التى نشأت فى قصر ثقافة المحلة الكبرى، أواخر الستينيات، وضمت أسماءً لامعة مثل جابر عصفور ونصر أبوزيد وسعيد الكفراوى ومحمد المنسى قنديل ومحمد صالح وجار النبى الحلو، أن يخلق عالمًا شعريًا فريدًا يُسمع القارئ من خلاله ما لم تسمعه أذن، ويرى ما لم تره عين.
منذ أن أطلق صيحته الإبداعية الأولى عبر مسرحيته الشعرية «سيفك يا طومان باى» «١٩٦٩»، وحتى آخر إصداراته، ظل «أبوسعدة» ينسج عوالمَ شعريةً تتراقص فيها موسيقى الأفلاك، وتتهادى فيها حكمة الأنبياء.
«قدمى على قدم الولاية.. صاعدًا..
حولى ملائكة مؤانسة..
فقلت: امكث.. ولا تبرح فؤادك»
فى دار مسنين بمنطقة الهرم، يقيم الآن الشاعر الكبير محمد فريد أبوسعدة، أحد أبرز شعراء جيل السبعينيات، الذى سجل اسمه بحروف من نور فى سجل الشعر العربى الحديث.
رغم ابتعاده عن الأضواء، يظل «أبوسعدة» محتفظًا ببشاشة وجهه وابتسامته الدافئة، التى جمعت حوله أصدقاء العمر من «شلة المحلة»، أولئك التنويريين الذين حملوا مشاعل الفكر والإبداع فى أنحاء مصر كافة.
هذا ما لمسناه شخصيًا عندما استقبلنا، أنا والكاتبة الصحفية أنس الوجود رضوان، فى مقر إقامته، مرحبًا بنا ترحيبًا حارًا، متمتمًا بأبيات من الشعر وكأن لسانه يهمس: «دعوا كلماتى تعود لتتردد فى أروقة المحافل الثقافية»، باعتباره آخر أصوات أنبياء الشعر، الذى تؤنسه الملائكة من حوله، ويضع قدمه على قدم ولاية الشعر والمسرح.
تحدثنا مع صاحب ديوان «أطير عاليًا»، وبعد الاطمئنان على حالته الصحية، تذكرنا معه أصدقاء الدرب فى «جماعة المحلة»، وخص بالحديث وزير الثقافة الأسبق الراحل، الدكتور جابر عصفور، والذى أعرب عن تأثره الكبير بفقدانه.
وبسؤاله عن سيرته الذاتية التى لم تر النور، وهو صاحب ديوان «سيرة ذاتية لملاك»، قال بحماس شديد: «أحضروا لى الأقلام والورق وسأسجلها تباعًا».
فى مسيرته التى امتدت لنحو ٥ عقود، قدّم «أبوسعدة» للمكتبة العربية أعمالًا إبداعية متنوعة بين الشعر والرواية، منها: «السفر إلى منابت الأنهار» (١٩٨٥)، و«وردة للطواسين» (١٩٨٨)، و«الغزالة تقفز فى النار» (١٩٩٠)، و«وردة القيظ» (١٩٩٣)، و«ذاكرة الوعل» (١٩٩٦، ١٩٩٧)، و«طائر الكحول» (١٩٩٨)، و«معلقة بشص» (١٩٩٨)، و«جليس لمحتضر» (٢٠٠١)، و«سماء على طاولة» (٢٠٠٣)، و«سيرة ذاتية لملاك» (٢٠٠٩)، و«أنا صرت غيرى» (٢٠١٢)، «وأطير عاليًا» (٢٠١٧)، و«الصبى الذى كنت» (٢٠١٧).

صدرت لـ«أبوسعدة» الأعمال الشعرية الكاملة، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، عام ٢٠١٣، فى ٣ أجزاء من القطع المتوسط، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الشعر، ووسام الامتياز عام ١٩٩٣، وجائزة اتحاد الكتاب فى المسرح، وتم تكريمه فى الملتقى الأول لقصيدة النثر العربية ٢٠١٠.
يحمل «أبوسعدة» سجلًا مهنيًا وإبداعيًا طويلًا، فهو حاصل على بكالوريوس الفنون التطبيقية، ودبلوم الدراسات العليا فى الصحافة، وعمل بمؤسسة «دار المعارف»، وتولى إدارة النشر الثقافى بها قبل تفرغه للكتابة.
بخلاف الشعر، كان لـ«أبوسعدة» إسهامات كبيرة فى مجالى المسرح والرواية، وفازت مسرحيته «ليلة السهروردى الأخيرة» بجائزة اتحاد الكتاب المصريين، وعرضت على خشبة المسرح تحت عنوان «سيد الوقت». كما صدرت له رواية «قبلة الريح» عام ٢٠١٩، إلى جانب أعمال مسرحية أخرى، صادرة من فصل واحد، ونُشرت فى كتابين، هما: «حيوانات الليل» و«عندما ترتفع الهارمونيكا».
حصل «أبوسعدة» على جائزة اتحاد كتاب المسرح عام ٢٠٠٣، وتُرجمت بعض أعماله إلى الإنجليزية والفرنسية، وتم تكريمه فى العيد الفضى لمؤتمر أدباء مصر فى نفس العام، إلى جانب حصوله على جائزة الدولة للتفوق فى الآداب عام ٢٠١٤.
ورغم كل هذه الإنجازات، يظل «أبوسعدة» يحمل فى داخله رصيدًا إبداعيًا لم يُستكشف بعد بالشكل الكافى، سواء فى الشعر أو المسرح أو الرواية أو حتى سيرته الذاتية التى تنتظر من يرويها بما يليق بمنجزه الأدبى الثرى.
جار النبى الحلو: عشت معه أجمل أيام العمر
«حرف» تواصلت أيضًا مع الأديب الكبير جار النبى الحلو، أحد أبرز أصدقاء محمد فريد أبوسعدة، فقال: «التقيت محمد فريد أبوسعدة مبكرًا جدًا مع المنسى قنديل، وهما فى المرحلة الثانوية، وقتها ذهبنا إلى قصر ثقافة المحلة، فى يناير ١٩٦٥، ومنذ هذا اليوم لم نفترق إلا منذ مرض أبوسعدة».
وأضاف «الحلو»: «محمد فريد أبوسعدة من المحلة، حيث كنت أقيم، لكنه قرر السفر إلى القاهرة، والتحق بكلية الفنون التطبيقية مع آخرين، وكان ممن يكتبون الشعر، واستمر فى ذلك حتى تحقق كشاعر كبير متميز».
وواصل: «عشت معه محمد فريد أبوسعدة والمنسى قنديل أجمل أيام العمر، ويعد من أجمل الرفاق فى حياتى»، مشيرًا إلى أن «أبوسعدة» كان قارئًا جيدًا، ويمتلك وجهات نظر خاصة به، كما أنه شاعر كبير بحق، ولم يكن مجرد اسم من بين الشعراء.
وأكمل: «كانت لديهم طموحات كبيرة جدًا فى الكتابة والأدب، وكان لفريد أبوسعدة طموح كبير فى الشعر، وأعتقد أنه حقق كل ما يطمح فيه، وهو مقيم فى القاهرة»، مختتمًا حديثه بتوجيه رسالة له من المحلة، قل فيها: «وحشتنى خالص يا فريد.. أنت جزء من حياتى».