استسلام عـرابى.. فصل من رواية تحت الطبع لـ«فتحى إمبابى»

- رئيس الأركان استطاع الهرب من الأسر.. وهو ما جعل عرابى باشا يؤمن بأن العناية الإلهية تقف بجانبه بعد هزيمة التل الكبير
- واجه الباشا المخول بحماية القاهرة بخيار لم يواجه العسكريين فى تاريخ الحروب، وهو الاختيار بين عارين: عار الاستسلام وعار التسريح
- أين يجد الفلاحون قادة من أبناء جلدتهم يقودونهم إلى النصر أو الموت وجميعهم يستسلم عند أول منعطف فى التاريخ
- أيها العسكر من جنس الفلاحين اهربوا إلى قراكم وكفوركم ونجوعكم.. هذه هى الأوامر الأخيرة من قادة كبار الجيش
يثرى الروائى الكبير فتحى إمبابى المكتبة العربية، قريبًا، بأحدث أعماله رواية «عشق»، وهى الرابعة فى خماسيته: «نهر السماء، وعتبات الجنة، ورقص الإبل، وعشق، ومنازل الروح»، وتصدر الرواية عن دار آفاق للنشر والتوزيع.
واحتفاءً بالإصدار المرتقب، تنشر «حرف» فصلًا من رواية «عشق»، يدور حول أحداث الثورة العرابية ووقوع مصر تحت الاحتلال البريطانى.

ليست ثمة إجابات عاجلة، فقائد الثكنات كان يبحث أيضًا عن وزير الحربية، ورغمًا عن الهزيمة الموجعة التى نالها الجيش المصرى فى التل الكبير، تأتى الأنباء من قاعة المجلس النيابى تحض على مقاومة الغزاة وطردهم، وأن الأمير إبراهيم باشا أحمد حفيد الفاتح القائد العظيم إبراهيم باشا وابن عم الخديو المخلوع وقف يخطب فى المجتمعين وهو يسترجع هزائم الحملة الفرنسية والبريطانية:
«إن المقاومة هى دين المصريين، وإن المحروسة تفيض بالجنود، والثكنات مليئة بالسلاح والذخيرة والبقسماط، وإذا تطلب الأمر إقامة الاستحكامات حول القاهرة فهذا ما تجيده العسكرية المصرية على أفضل ما تفعله الجيوش، وقد سبق عمله فى كفر الدوار والبحيرة ومن قبل فى حروب القرم والمورة، ونجحت نجاحًا واضحًا للعيان، بدليل اضطرار الجيش الغازى لدخول البلاد من الشرق، فكل ما يتمناه القادة للدفاع متوفر ويفيض، وعليه وجبت المقاومة وعدم الخذلان.
تقف وسط ضباط لواء الفرسان، وهم يهللون فرحًا وطربًا لفرط حماسهم لمقاومة القوات البريطانية، أخبروك بأنه لهذا السبب خصيصًا خرج قائد الجيش محمد مرعشلى باشا ومهندس الاستحكامات وقائد لواء الفرسان لإنشاء خط دفاعى يمتد من المطرية إلى ترعة الإسماعيلية ثم ينعطف غربًا إلى النيل، ومن فم رياح ترعة الإسماعيلية حتى شبرا... لماذا تأخروا حتى أصبح الجيش البريطانى على أبواب القاهرة؟
... اصمت ولا داعى لإضعاف حماسة الجنود... عشرات الآلاف من الفلاحين يعملون بهمة ونشاط تحت قيادة محمود فهمى باشا رئيس الأركان... وقبل أن تنطق بادروا بقطع معالم الدهشة التى ارتسمت على وجهك بالقول إن رئيس الأركان استطاع الهرب من الأسر، وهو ما جعل عرابى باشا يؤمن بأن العناية الإلهية تقف بجانبه بعد هزيمة التل الكبير.
... تقول لهم إن ما حدث فى التل الكبير يحتاج لمحاكمة خاصة لوزير الحربية على جهله المدقع بفن الحرب.. أما إذا أردنا أن تكون لنا إرادة أن نحيا حياة البشر فنحن فى حاجة لعشرات المحاكمات على عشرات الجرائم المبهمة التى جرت فى تاريخنا، ولو لم نفعل فلن يتبقى لنا سوى مشيئة حياة البهائم.. وقبل أن يندفع بعضهم فى وجهك بعلامات الغضب، دعاك أحد الضباط للمثول بين يدى قائد الثكنات الذى نظر إليك بوجه متعب يسوده الملل، وأنت تخبره بمهمتك التى أوكلها إليك محمد شريف باشا، تنمو الدهشة على وجهه كلما أوغلت فى الإعلان عن ضرورة مقابلة قائد الجيش.. معربًا فى الوقت نفسه عن رغبتك فى الالتحاق بأحد الأورطات العسكرية للقيام بدورك فى حرب القاهرة التى توشك على البدء.
ما لم تكن تعلمه أن الجنرال «ولسلى» أصدر أوامره إلى الجنرال «دورى لى» قائد فرقة الفرسان البريطانية عقب الانتهاء من معركة التل الكبير بالزحف فورًا إلى القاهرة واحتلالها، فتحرك من بلبيس فى الخامسة صباحًا فى قوة يستحيل عليها احتلال مدينة آهلة بالسكان، تنشد الكفاح، تضم حامية قوية كبيرة العدد فى العباسية والقلعة والمعاقل التى بنيت مؤخرًا فوق جبل المقطم المسيطر على العاصمة.
تقدم الجنرال «دورى لى» وقد نحى عن وعيه العسكرى ذكريات الثورات الشعبية الكاسحة للفلاحين التى أذاقت الذل والمرار، وأوقعت الخسائر الهائلة بجيش نابليون والجيش البريطانى منذ أكثر من نصف قرن، وأجبرتهما على الانسحاب، لكن جنرال «دورى لى» لم يعد بوسعه أن يأبه بتلك الأساطير، واكتفى عنها بما أكدته انتصارات جيشه الإمبراطورى الأخيرة، والتى كشفت عن ضعف وقلة خبرة القادة العرابيين بفن القتال، وربما كانت المراهنة على جهلهم هو ما أنقذه من الخسائر التى كان يخشاها.

فى الوقت الذى كانت الخيالة البريطانية تنهب الطريق إلى العباسية، كان السيد أحمد عرابى باشا من قرية «هرية رزنة- زقازيق»، والذى ادعى كما يزعم كل من ليس له شأن بصلته بالنسب الشريف، يجلس فى صحبة رفاقه من الضباط قادة الهوجة أو التمرد؛ طلبة باشا عصمت، ومحمود سامى البارودى، والمسيو «جون نينيه» فى دار على باشا فهمى الذى كان متأثرًا بإصابته فى معركة القصاصين، يثرثرون ويتفلسفون حول الأحداث العظام التى دارت فى البلاد خلال الشهور الأخيرة، ويطمئنون على صحة صديقهم العزيز.
ثمة درس ينبغى استيعابه؛ فمثلما تعلم أن إزهاق روحك مرتبط بالتوقف عن التنفس لدقائق، فعليك معرفة علم اليقين أنه عندما تكون فى موقع قيادة الجيش، فابحث عن الموت ولا تشفق على نفسك، ولا تستسلم مطلقًا.. لتبزغ معضلة الجدال، فمن أين للفلاحين بقيادة كاسرة كالأسود تقودها فى ساحات المعارك، وميادين الحرب للنصر، وإلا فهى نعمة الموت الجميل...
فى ذاك اليوم المشئوم فُتح باب مكتب قائد ثكنات العباسية بعنف وكأن أورطة من الجنود اقتحمته، تطلع محمد رضا باشا بغضب إلى مساعده الذى وقف وهو يرتعش، كان يحمل إنذارًا موقعًا باسم الجنرال «دورى لى» يطلب فيه تجريد الجنود من السلاح، وكان قد بَلَغ بقواته ثكنات العباسية فى الرابعة مساءً، ووقف على مشارفها... عبارة وحيدة ندت عنه وهو فى دهشة من السرعة التى قطعتها الخيالة البريطانية المسافة إلى القاهرة، ومعركة التل الكبير لم تخمد أوارها بعد:
«كيف ظهروا فجأة... هل للملكة البريطانية حلفاء من الجن؟
قرأ محمد رضا باشا الإنذار البريطانى وسط أجواء امتلأت بها القاهرة، تحض على المقاومة، فقرر أن يرسل برقية إلى سعادة الباشا الفلاح ابن الفلاح وزير الحربية الذى ترقى من تحت السلاح، يطلب المشورة عما ينبغى فعله فى شأن الإنذار البريطانى.

... المشورة... أى مشورة سوى القتال.. صاح الضباط... يا حضرات استعينوا بالصبر الجميل، فالخيانة فى كل مكان، أخذت فى منقارها التعس قومندان الألاى الثالث على بك يوسف، وعبدالرحمن بك حسن حكمدار ألاى السوارى الثانى، وقومندان السوارى سالم أبو بدوى، وحسن بك رأفت قومندان الطوبجية، الذى عول الجيش منذ أيام قليلة عليهم.. لذلك خفف من حماسك واحترم قائد الثكنات فهو على أى حال لم يسارع بتصرف متهور، وهو يطلب المشورة والتنسيق من قائد الثورة.
... فأين هو قائد الثورة الآن؟
لا شك أنه يقيم الاستحكامات فى شبرا قرب قصر محمد على باشا... لا هو يقطع ترعة الإسماعلية والرياح المنوفى ليوقف تقدم الجيش البريطانى... لا لا هذا شأن الضباط الأقل رتبة، هو فى القلعة يجلس فى مكتبه يدير المعارك الجارية فى وسط الدلتا ويمد مدن الصعيد بالتجهيزات والإمدادات العسكرية اللازمة للقتال.
وبينما الباشا قائد ثكنات العباسية يجلس خلف مكتبه بانتظار الرد، أوضحت له مجددًا أنك على استعداد بما لديك من خبرة، الخروج بصحبة خمسة من الفرسان لعمل استطلاع للقوات المهاجمة، لكنهم أشاروا عليك بالصمت، وقد عرفت فيما بعد أنهم لم يكونوا فى حاجة للاستطلاع؛ فالقوات البريطانية تقف على أبواب الثكنات فى حال استنفار كسولة.
فى السادسة من مساء ذاك اليوم التعس دخل شوقى بك حكمت رئيس أركان الثكنات حاملًا برقية إلى محمد رضا باشا قائد القوات المدافعة عن القاهرة، من وزير الحربية وقائد الجيش والثورة وكل ما يتوق له الزعيم من ألقاب وهو الذى يعلن دومًا أنه القرشى الذى يمتد نسبه الشريف إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالاستسلام للقوات البريطانية... تتهاوى المحروسة تحت سنابك الغزو البريطانى، وجسدها يقطر دمًا بطعنات الغدر والجهالة، بعد أن سحقتها سنابك الخيانة.

منذ تلك اللحظة لم يعد أحد يراك، وبدا أن رضا باشا الذى عكف على جمع أغراض قليلة من فوق مكتبه الفخم كان يتحاشى أن تلتقى عيناه الكسيرتان المنكستان فى الأرض، بعينى يوزباشى شاب ظن لوهلة أنه يحمل له كأسًا من الأمل، فبدا أنه هو الذى يحمل له نهرًا من سم الخذلان.
غادرت المكتب الخاوى من قادته، عرفت أن الأمر لم يكن هذا ولا ذلك، بل بسبب الطريقة المهينة للعسكرية التى نفذ بها الرجل ما جاء فى التلغراف من أوامر وزير الحربية بالاستسلام لقوات الملكة المفداة... بل بسبب ما لم يعرفه وزير الحربية من أن طلب القائد البريطانى بالتسليم، كان مصحوبًا بتهديد خاص لرضا باشا يذكره بأنه يعصى أوامر الخديو الصادرة بحل الجيش المصرى، وأن الجيش البريطانى فى حل من التعامل معه بوصفه قائدًا لقوات عسكرية نظامية، وإنما سوف يعامله بوصفه عُصبة من العصاة والمتمردين، وهو الذى جعل الباشا فى مأزق بين أوامر زعيم الثورة صاحب الخطابات الحماسية الشهيرة، وبين أوامر سيده أمير البلاد بتسريح القوات.
واجه الباشا المخول بحماية القاهرة بخيار لم يواجه العسكريين فى تاريخ الحروب، وهو الاختيار بين عارين؛ عار الاستسلام وعار التسريح، فاختار الثانى، مفضلًا اتباع أوامر قيادة باقية على قيادة تلاشت بعد أن قرر قائد الجيش الاستسلام للملكة حفظها الرب فى أمجاده السماوية على البقاء فى رعاية ولى سنى.
فى ساحات الثكنات المدافعة عن العاصمة وقف قادة السرايا يهددون ضباطهم وجنودهم بالويل والثبور وهم يشيرون نحو البوابات الخارجية للمعسكر.
... يا ولاد الكلاب... كل واحد منكم يحط ديله فى سنانه وياخد طريقه على المخروبة البلد أو الكفر اللى جه منه... وما يبصش وراه.. فاهم يا حمار يا بن الحمار إنت وهو؟».

كانوا يشيرون لقوات الفرسان البريطانية التى تقف خارج أسوار الثكنات فى صبر قد فاض كيله، وضباطهم يدعونهم بعصبية وهلع بالخروج متسللين من المعسكر والإسراع بالعودة إلى قراهم وكفورهم، لقد حُل الجيش وأحيل إلى الاستيداع، بأمر صاحب السعادة الخديو سيد البلاد.. لقد انتهت الحرب.
... لم يكرر الضباط خطابهم، لقد شاهدت الأورطات التى لا تزال تستمع لضباطها وتلك التى كانت تبحث عنهم، أعدادًا متزايدة تتجمع عند البوابات الرئيسية، وتشرع فى هروب جماعى بدا فى البداية طريفًا، وفى النهاية مخجلًا سوف تظل فى ذاكرة كل رجل شهد ذاك اليوم، فالجنود والضباط المصريون المصابون بالهلع من جراء صدمة لم تكن ناجمة عن ظهور الخيالة البريطانية على أبواب للثكنات، والتى تقف متعبة منهكة بسبب السفر المتواصل على ظهور الجياد لطيلة تسع ساعات ودون توقف، والذى كان بالإمكان من جراء ذلك إلحاق هزيمة ساحقة بها، لو أن قادة أكثر دراية بفن القتال يديرون دفة الحرب، لضباط وجنود مستعدين للموت دفاعًا عن بلادهم.
ساروا على خيولهم خلف قادتهم أمام فيالق الفرسان البريطانية وفى وضع مذل مهين، فى وضع من لا يرى شيئًا.. وكلما عبرت فصيلة القوات البريطانية أسرعت مبتعدة فى فوضى مهينة يكللها العار، وسط ضحكات الفرسان البريطانيين القادمين من وراء البحار.
... أيها العسكر من جنس الفلاحين اهربوا إلى قراكم وكفوركم ونجوعكم.. هذه هى الأوامر الأخيرة من قادة كبار الجيش التى ظلت تدوى فى مسامع الجنود وصغار الضباط... ابحثوا عن جحور الفئران والحشرات الضالة واختفوا داخلها، اهربوا من مصيركم الحالك السواد.
... الذعر الذى كان يشع من عيون مئات الجند والضباط الذين تبعثروا على الصفحة الواسعة لصحراء العباسية القاحلة مثل شهب تتهاوى بالحيرة والخوف، لم يكن قادرًا على إخفاء طاقة السؤال الذى رفرف بالدماء النازفة من أعناق الذبائح:
... على ماذا إذًا كان كل هذا الصراع والحرب؟
... لماذا كان القتال بين الضباط من أولاد البلد والضباط الشراكسة؟
... لماذا لم يُكتفَ بالطاعة العمياء، ولعق أقدام الأمراء الأتراك والرضا والقناعة بالحياة الرغدة فى أبعاديات يمنحها السادة لعبيدهم، فتقبل أيادى المحسنين وتلعق الأحذية كنعمة تستحق الشكر والعرفان؟
... لماذا تطورت الأمور إلى الحد الذى جاء بجيش الاحتلال للبلاد؟

... حلت الفوضى داخل المعسكر وتدافع الجنود إلى الهرب من البوابات الجانبية والأسوار المفتوحة على صحراء العباسية المترامية الأطراف.. كانت الساعة قد بلغت السابعة مساءً عندما دخلت قوات الخيالة البريطانية ثكنات العباسية بسهولة ممتنعة عن التصديق.
ولأن عرابى باشا قائد الثورة لم يبلغه الحوار الذى دار بين قائد سلاح الفرسان البريطانى، وبين قائد القوات المدافعة عن القاهرة، ولم يعانِ من تلك الإشكالية الفلسفية المتعلقة بحل تلك المسألة الوجودية التى طرحها الأول على الثانى حول الاختيار بين عار الاستسلام وعار التسريح، فقد عاد إلى قصره مرتاحًا «رايق البال»، يصحبه رفيق السلاح طلبة باشا عصمت، والصديق الأبيض مسيو جون نينيه، وتناول طعامه المفضل الغارق فى السمن البلدى لرجل يحمل مهام أمة على كاهله، وأعقبه بالمسكرات محلاة بالشربات وزعت على الضيوف، وخادمه يلمع حذاءه العسكرى جيدًا بدهن الغنم المعتق، وآخر يسن حسامه بكل ما أوتى من طاقة لازمة لخدمة زعيم الأمة، وثلاثة من الخدم يساعدونه بعناية فائقة على ارتداء بزة التشريفة العسكرية المثقلة بنياشين تشير إلى حروب لم يخضها، ومناورات لم تتم، وقبل أن يتوجه ومعه رفيق السلاح طلبة باشا عصمت إلى الثكنات التى احتلها الجنرال «دورى لى» منذ ساعات، تناول قدحًا من القهوة، ولبس حذاءه اللامع وامتشق حسامه الذى أطاح بآمال الفلاحين دون أن يعلم بما ينبغى علمه، وهو أن الثورة تتطلب قادة لا يعرفون معنى الاستسلام، وإنما يقودون شعوبهم إلى النصر أو الموت.
فى التاسعة مساءً امتطيا عربة تجرها خيول مُطَهَّمة، وذهبا إلى ثكنات الجيش بالعباسية، وعلى الباب ترجل يسأل بكبرياء عن مندوب الملكة، فلم يجد سوى ضابط برتبة جنرال، فسلم إليه سيفه وتبعه طلبة باشا، وهو ينتظر أن تعزف فرق الموسيقى المارشات العسكرية، لكن جنرال «دورى لى» لم يفهم الأمر جيدًا، وسأله مندهشًا إذا كان بلغه نبأ قيام الخديو على تسريح الجيش، فهو ليس فى حاجة كى يسلم نفسه، وبإمكانه أن يذهب حيث يشاء، فظن أن هذا إطراء، وفى لفتة بطولية مثل خطاباته الحماسية قال إن الخديو قد تم عزله، وإنه لا يعترف بقراراته.
صمت الجنرال قليلًا وقد تعذر عليه فهم ما يحدث أمامه، وبعد حوار سريع مع قادته أشار أحدهم أن الرجل مخبول، ربما وقع تحت التأثير الرومانسى لروايات ألكسندر دوماس الأب أو الابن، فهل يمكن أن يكون لدى المصريين من هم على هذا القدر من الثقافة.
قال الجنرال هذه معضلات يحلها المؤرخون، سوف نعرفهما بما هو معمول به فى مواجهة عصابات التمرد، وأعطى أوامره بإلقائهما فى إحدى غرف الثكنة المظلمة.. وسألهم أن يخبروه إذا ما تم احتلال القلعة؟ أجابوه بأنها أصبحت تحت إمرة الأميرلاى على بك جوزيف خنفس. وفى النهاية وبعد تقليب الأمور من كل جوانبها، والنظر بحكمة من عواهنها صار لدى وزير الحربية أحمد عرابى باشا الذى سبق له وهو بعد نفر فى الثالثة عشرة، فتى غض طرى العود أن فتح فاه على سعته وهو يستمع لمحمد سعيد باشا يتلو خطبته الشهيرة فى النخبة التى تحكم البلاد كى يكتشف منه أن مصر لم تكن للمصريين، وأن الباشا سعيد قرر أن تكون كذلك، فظن أنه ألقى بالمهمة على عاتقه وتولى منذ تلك اللحظة الفارقة تعليم نفسه إجادة الدوران لليمين والسير إلى الأمام خطوة ومن إلى الخلف عشرات الخطوات.. بينما على القائد أن يتعلم كيف يفكر.. فالنظام كما قال مارشال فوش دليل البلهاء.. وأمام تلك الحقائق المذهلة التى جعلت من أجساد الفلاحين مرتعًا للحرب وجعلت وطنهم مطية للبريطانيين، وجد أن عليه أن يسلم نفسه للملكة الطيبة.

لكنه لم يجد بانتظاره رايات خفاقة ولا بروجى يصدح فى الفضاء بنوبة اللواء.. ولا تلك الطوابير التى تقام لتشريف قادة الثورات المهزومة احترامًا وتقديرًا لنضالهم الثورى وهم يصعدون منصات الإعدام، ولا تلك الدوائر الخشبية المخصصة للرقاب المعدة لنصال المقاصل.. أو مناضد التعذيب التى ينزع فيها جلادون متخصصون فى خصى رجال ينتظرهم التاريخ بمقعد النبالة والتكريم، فقط تم تجريده من رتبه ونياشينه وسيفه المُثَلَّم الصدئ المكلل بعار الجهل العسكرى، وجهل الرجال الذين تُشل إراداتهم فى ساحات المعارك، ثم ألقوا به فى غرف الثكنات الخلفية دون اهتمام يذكر، لتبقى بيارق هزيمته تخفق على صفحات التاريخ، يخفيها مؤرخون وعسكريون جهلة ومستشرقون مغرضون.
إذًا رجاء لا تلم السيد إيزاك إدوارد شنيتزر المدعو بمحمد أمين بك عندما يتخذ قراره بتسليم نفسه إلى الإمام محمد المهدى بن عبدالله بن فحل، فالجميع يفضل أن يموت على فراشه.

... أين يجد الفلاحون قادة من أبناء جلدتهم يقودونهم إلى النصر أو الموت، وجميعهم يستسلم عند أول منعطف فى التاريخ... لهذا لا تقسُ على إيزاك إدوارد شنيتزر الألمانى العرق، اليهودى الأم، البروتستانتى الأب، المولود فى أوبلن على نهر الراين بمقاطعة سيليزيا، والمدعو بمحمد أمين بك، فلقد سبق لقائد ثورتك أن استسلم دون أن يسأل شعبه إذا ما كان قد أصابه الضَجَر من المقاومة، أو هل بلغه نبأ اجتماع الفلاحين وأعلنوا عن تَأَفُّفهم وتَبَرُّمهم من النضال ضد الغزاة، وخرجوا إلى الميادين والساحات يطلبون الاستسلام، هل اطلع سعادته الذى نال شرف الحصول على الباشوية المتخمة بإقطاعاتها أن الملكة التى قرر أن يستسلم إليها شخصيًّا أملًا فى نيل عطفها، قد استدعت لتوها كابتن لوجارد لقيادة عمليات الشركة البريطانية لشرق إفريقية:
British East African Company
التى شكلت حديثًا، للاستيلاء على منابع النيل، وامتصاص خيراته لعيون الإمبراطورية المترعة بالنبالة، مستخدمين القوات الحكومية المصرية فى مديرية خط الاستواء. نعم... شياطين بيضاء تنهب العالم... جحوش سمراء تتمرغ فى مزابل الجهل والعبودية، والتصاغر والإذعان... نعم ... فمن الخاسر؟ ... من يدفع الثمن؟
إذًا رجاء لا تلم السيد إيزاك إدوارد شنيتزر المدعو بمحمد أمين بك عندما يتخذ قراره بتسليم نفسه إلى الإمام محمد أحمد المهدى بن عبدالله بن فحل.