خالد العنانى يكتب: رؤيتى اليونسكو من أجل الشعوب

اخترت أن تحمل رؤيتى لمنصب المدير العام لمنظمة اليونسكو عنوان «اليونسكو من أجل الشعوب»، وهى رؤية تضع الإنسان فى صميم رسالتها، دون تمييز أو استثناء، بحيث لا يُترك أى فرد خلف الركب، لتكون منظمة تعمل بفاعلية لتحسين حياة كل الشعوب، عابرة للحدود، وتمكّن الدول من الازدهار فى عالم يعمه السلام والكرامة، وتُعزّز الأمل الجماعى نحو غدٍ أفضل.
هذه الرؤية ليست رؤيتى وحدى، بل هى رؤيتكم أولًا وقبل كل شىء.
لقد جاءت هذه الرؤية ثمرة نقاشات ثرية وزيارة أكثر من ستين دولة منذ عام 2023، حيث استمعتُ وتبادلتُ الآراء وتعلمت من أشخاص من خلفيات وثقافات متنوعة. إنها رؤية متجذرة فى قيمَى الأساسية، وغنية بخبرتى وفهمى العميق للتحديات الحقيقية التى تواجه التعليم والبحث العلمى والثقافة وإدارة المؤسسات الكبرى، إلى جانب اطلاعى على أفضل الممارسات الدولية.

شعوب تزدهر فى ظل السلام
ستظل اليونسكو وفية لمهمتها الأساسية فى دعم السلام- والتى تمثل جوهر وجودها- مستندة إلى قوة الدبلوماسية الناعمة فى مجالات اختصاصها. وستواصل التصدى للأسباب الجذرية للصراعات، بما فى ذلك العنصرية وخطاب الكراهية والأحكام المسبقة والتمييز، سواء كان شفويًا أو كتابيًا أو عبر الإنترنت. كما ستعمل المنظمة مع الدول الأعضاء على تعزيز ثقافة السلام وتطوير الأطر القانونية والسياسات التى تحمى الحقوق والحريات المتعلقة بالتعليم، والتقدم العلمى، والحياة الثقافية، والوصول إلى المعلومات، والمياه، والمرافق الصحية، فضلًا عن حرية الرأى والتعبير.

شعوب تنعم بالتمكين من خلال التعليم الجيد
يعد التعليم بمثابة حجر الأساس للسلام والأمن، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون، والتنمية. فإن التعليم، بمختلف أنواعه، يزود طالبى العلم بالمهارات والأدوات التى تمكنهم من الازدهار. وتساعد اليونسكو الدول الأعضاء فى حماية الحق فى التعليم للجميع- لا سيما الفتيات- مع إشراك المجتمعات المهمشة والطلاب ذوى الإعاقة، وتحسين حوكمة أنظمة التعليم، ومواجهة التحديات التى أبرزتها قمة تحويل التعليم وتقارير اليونسكو العالمية لرصد التعليم. وستدافع اليونسكو عن زيادة الاستثمارات، وتحسين البنية التحتية، وتعزيز الوصول إلى الإنترنت، كما ستولى الأولوية للتعليم من أجل السلام وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة والمواطنة العالمية، بما فى ذلك التوعية حول الإبادة الجماعية والماضى العنيف. وستعمل المنظمة على تعزيز التعلم مدى الحياة، بدءًا من الطفولة المبكرة إلى التعليم العالى، بما يشمل محو الأمية، وتعليم الكبار، والعلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، والتعليم والتدريب التقنى والمهنى. وستعزز اليونسكو مكانة المعلمين وقدراتهم، ومعالجة نقص أعدادهم، كما ستشجع تطوير الموارد التعليمية المفتوحة التى تكون موثوقة ومتاحة للجميع، وتحديث المناهج الدراسية مع التركيز على التعلم الرقمى، واستشراف مستقبل التعليم بما يتماشى مع احتياجات سوق العمل المتغيرة. كما ستواصل اليونسكو دعم السياسات التى تعزز الثقافة والفنون، والتربية البدنية، وصحة ورفاهية الطلاب. وبصفتها الوكالة الرائدة فى مجال التعليم ضمن منظومة الأمم المتحدة، ستُعزّز اليونسكو أوجه التعاون مع الوكالات متعددة الأطراف والجهات المانحة، وستستفيد من شبكات المعاهد والمراكز والمدارس التابعة لها لتحقيق أهدافها.

شعوب تزدهر بفضل العلم
يسهم العلم والتكنولوجيا والابتكار الأخلاقى والمسئول والشامل فى تعزيز التماسك الاجتماعى ودفع عجلة التنمية المستدامة. تدافع اليونسكو عن الحق فى العلم، فضلًا عن حرية العلماء وسلامتهم، لا سيما النساء والشباب. وستواصل المنظمة الدعوة إلى زيادة الاستثمار فى البحث العلمى، وتعزيز النظم العلمية، وتطوير البنية التحتية، والتحول الرقمى الشامل، والذكاء الاصطناعى المستدام، وحوكمة البيانات، بالإضافة إلى تعزيز العلم المفتوح للحد من الفجوات العلمية. كما ستعمل اليونسكو على تطوير العلوم الاجتماعية والإنسانية والأساسية، ودعم التفاعل بين العلم والسياسة والمجتمع، وتشجيع حاضنات التكنولوجيا والمعاهد البحثية ومراكز الفكر، وتعزيز التبادل والشبكات الأكاديمية العالمية، بما فى ذلك التعاون بين بلدان الجنوب والتعاون الثلاثى. بالإضافة إلى ذلك، ستوسع المنظمة تطبيقات الذكاء الاصطناعى الأخلاقى، والتقنيات العصبية، والتقنيات الكمية، وعلم الأحياء التركيبى فى جميع مجالات اختصاصها، مع تعزيز تنفيذ التوصيات المتعلقة بالعلوم.

شعوب وئام مع الطبيعة
مستقبلنا مرتبط بكوكبنا. ستستجيب اليونسكو لاحتياجات الدول الأعضاء فى مواجهة تأثيرات تغير المناخ، من خلال تعزيز القدرة على التكيف عبر التعليم والتوعية وبناء القدرات والإعلام والسياسات العلمية، حيث تلتقى التكنولوجيا بالمعارف المحلية والتقنيات المستخدمة من الشعوب الأصلية.
وستواصل المنظمة جهودها فى مجالات العمل المناخى، والتنوع البيولوجى، وحماية النظم البيئية والجيولوجية، والأمن المائى، وإدارة المحيطات عبر اللجنة الدولية لعلوم المحيطات. كما ستُركز على جمع البيانات وتحليلها، وتحسين التنبؤات، وتطوير أنظمة الإنذار المبكر، والحد من مخاطر الكوارث. وستعمل اليونسكو على تشجيع التمويل المستدام، ودعم الشبكات الدولية، وتعزيز البحث التعاونى القائم على التكنولوجيا، والرصد البيئى فى مواقع التراث العالمى، والحدائق الجيولوجية، ومحميات المحيط الحيوى.

شعوب تحتفى بتراثها
ستعمل اليونسكو على صون تراثنا الطبيعى والثقافى من خلال توظيف العلوم والتكنولوجيا، مع الدعوة إلى وضع أُطر قانونية وحوكمة قوية. ومن خلال مناهج تعليمية متخصصة، ومعلمين مدربين تدريبًا جيدًا، وزيارات ميدانية للمواقع، وأدوات الذكاء الاصطناعى، سيصبح الشباب أكثر ارتباطًا بتراثه.
وستسهم اليونسكو فى بناء القدرات، وحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات، ومكافحة الاتجار غير المشروع بها، وصون التراث بجميع أشكاله، سواء أكان مغمورًا تحت الماء أو طبيعيًا أو ثقافيًا، بشقيه المادى وغير المادى. ولضمان تمثيل أفضل على قوائم اليونسكو، ستوفر اليونسكو دعمًا مخصصًا خلال إجراءات التسجيل، بالتعاون مع الهيئات الاستشارية، لا سيما للدول التى تُعانى من ضعف التمثيل فى قوائم التراث، مع إعطاء الأولوية لحماية المواقع المهددة، وتشجيع الترشيحات العابرة للحدود، إلى جانب تعزيز مركز التراث العالمى. وستعمل اليونسكو على جذب الموارد المالية لصون التراث، وستتعاون مع الجهات المعنية لتعزيز السياحة المستدامة التى تضمن تقدير التراث وحمايته.

شعوب ملهمة بالثقافة
ستدافع اليونسكو عن مكانة بارزة للثقافة فيما بعد أجندة ٢٠٣٠. واستنادًا إلى «الميثاق من أجل المستقبل»، ستدعم السياسات الوطنية التى تستثمر فى الصناعات الثقافية والإبداعية باعتبارها محركًا قويًا للتنمية الاجتماعية والاقتصادية. ستواصل اليونسكو حماية حقوق الفنانين والمهنيين الثقافيين وحرياتهم، وتقديم الدعم لهم فى أوقات الأزمات وفى مواجهة تأثيرات التقنيات الحديثة. كما ستعمل على زيادة الموارد المخصصة للثقافة، والحفاظ على التعبيرات الثقافية، وتعزيز الوعى الثقافى، وضمان الوصول المتكافئ إلى الثقافة والفنون، وتوفير المساحات الإبداعية، ودعم الحرف التقليدية والمعارف المحلية. وسيتم تشجيع المتاحف والمؤسسات الثقافية على تعزيز دورها المجتمعى وتنظيم فعاليات مشتركة ومتعددة الثقافات. وأخيرًا، ستدعم اليونسكو رقمنة التراث الوثائقى والأرشيفات والمقتنيات الثقافية.

شعوب مترابطة بفضل الاتصال والمعلومات
تدافع اليونسكو عن الحق فى الوصول إلى معلومات شفافة وموثوقة. وستواصل لَعِب دور محورى فى ضمان سلامة الصحفيين والعاملين فى وسائل الإعلام- خاصة النساء- وحماية حرية الرأى والتعبير، وتعزيز القوانين والسياسات الوطنية التى تكفل هذه الحقوق. كما ستعمل المنظمة على تعزيز الوصول الشامل إلى الإنترنت، وتعزيز التربية الإعلامية والمعلوماتية، وإبراز دور الإعلام فى تنمية التفكير النقدى وتعزيز الإدماج الاجتماعى. وستستمر فى التعاون مع الحكومات والمنصات الرقمية لمكافحة خطاب الكراهية والمعلومات المضللة والخاطئة، ودعم وسائل إعلام مستقلة وحرة وتعددية. وأخيرًا، ستُولى المنظمة اهتمامًا خاصًا بالتعددية اللغوية، مع التركيز على اللغات الأصلية والمُهدَدَة بالاندثار، عبر مختلف برامجها.

ضمان الكفاءة والشفافية والمساءلة
سيتم تعزيز قطاعات اليونسكو من خلال نهج لا مركزى، يضمن ديناميكية التعاون والتكامل بين القطاعات والتعاون المشترك. كما سيتم تحسين التنسيق مع المكاتب الميدانية وفيما بينها، مع منحها مزيدًا من الاستقلالية والمرونة والاستجابة الفعالة للاحتياجات المحلية. كما ستسهم قنوات التواصل المفتوحة بين الموظفين والإدارة فى تحقيق أقصى درجات التناغم والفاعلية. وستحظى الشبكات العالمية لليونسكو واللجان الوطنية بتواصل مستمر ودعم مستدام لتعزيز أدائها وفاعليتها.

ضمان الكفاءة والنزاهة والشمولية
سيتم إعطاء الأولوية للتوظيف والتدرج الوظيفى على أساس الشفافية والاستحقاق، إلى جانب الاستثمار فى بناء قدرات الموظفين. ورغم التقدم الملحوظ الذى أحرز فى تحقيق المساواة بين الجنسين داخل المنظمة- والذى سوف يستمر- سيتم تكثيف الجهود لضمان تمثيل جغرافى عادل على جميع المستويات، مع إعطاء الأولوية للدول غير الممثلة بالشكل الكافى. كما سيتم توفير بيئة عمل آمنة وأخلاقية وقائمة على الاحترام وشاملة، حيث يتم تقدير وتمكين جميع الموظفين بشكل متساوٍ، مع ضمان الحفاظ على الكفاءات فى المنظمة.

تعزيز الرؤية وإبراز التأثير
لا تزال صورة اليونسكو فى أذهان الكثيرين مقترنةً فقط بحماية التراث الثقافى، ما يطغى على مساهماتها المهمة الأخرى فى التنمية البشرية. لذا، فإن تبنى استراتيجية اتصال فعالة تُسلط الضوء على جميع جوانب ولايتها وتأثيرها على الإنسانية هو أمر بالغ الأهمية. سيتم الاعتماد على سرد القصص والتجارب الشخصية لأفراد تأثرت حياتهم إيجابيًا بفضل اليونسكو. كما ستتضمن الاستراتيجية تعزيز القنوات القائمة، وتوسيع نطاق التغطية، وإقامة شراكات جديدة، والاستفادة من التقنيات الحديثة. ومن شأن هذا النهج أن يعيد تشكيل الصورة الذهنية عن المنظمة، ما قد يسهم فى جذب المزيد من المانحين فى نهاية المطاف.
تنوع الموارد وزيادتها لضمان الاستدامة المالية
ستعتمد اليونسكو على نجاحاتها فى جذب المساهمات الطوعية وإدارة الصناديق المدرة للإيرادات. لكن فى ظل التحولات الكبيرة الأخيرة فى المشهد الخاص بالتمويل العالمى، يتعين بذل جهود إضافية لاستكشاف كل الفرص الممكنة لحشد الموارد. سيتم تعزيز قدرة الأمانة العامة على جمع الموارد عبر نهج استباقى مع الحكومات، والمؤسسات متعددة الأطراف، وآليات الأمم المتحدة، والصناديق، مع التركيز بشكل خاص على القطاع الخاص والمؤسسات الخيرية، بهدف الحصول على تمويل أكثر مرونة واستدامة. كما سيتم استكشاف مصادر تمويل متنوعة تشمل العلامات التجارية المشتركة، والشراكات الإعلامية، ورعاية الفعاليات الثقافية، وحملات جمع التبرعات المستهدفة، وآليات التمويل، مثل أدوات التمويل المستدام، بما فى ذلك السندات ذات الأثر الاجتماعى. وأخيرًا، سيتمكن المانحون من تتبع مساهماتهم عبر نظام رقمى مخصص، يضمن الشفافية التامة.
عهدى للشباب
سنعمل على تمكين الشباب من خلال تطوير المهارات وإنشاء حاضنات ومسرعات لريادة الأعمال، وتنظيم منتديات وشبكات عالمية، وتوفير برامج تبادل ثقافى وأكاديمى، كما سيتم إشراكُهم فى عمليات صنع القرار، مع استخدام الرياضة كأداة لتعزيز السلام والتماسك الاجتماعى والمساواة بين الجنسين والتنمية المستدامة.
الازدهار للمرأة
سنُمكّن الفتيات والنساء من ممارسة كامل حقوقهنّ دون تمييز أو عنف من خلال مبادرات رائدة، وستُعزز المساواة بين الجنسين فى جميع مجالات اختصاصها، ما يتيح للنساء الازدهار حتى فى أكثر البيئات تحدّيًا.