أوتار الذات الأربعة.. حبر عزة رشاد الطائر
- نجوى لم تكن تحب اسمها برقته وهمسه كانت تريد اسمًا يمنحها مساحة بعيدًا عن همسات الآخرين لها وعنها
هذا زمن الكتابة بالحبر الطائر، والتجارة والصداقة وعروض الحياة، هذا زمن تحول من الصلابة والسيولة إلى التلاشى فى الهواء، الهويات الطائرة الرقمية وخزانة السيرة الرقمية والبوح الصادق والادعاء، الافتعال والانفعال، كل شىء طائر حولنا، لا نراه ولا يرانا، كأنه أصبح عالمًا آخر تعيش فيه كائنات من حروف وأصوات تحررت من كهفنا لتجد نفسها أو تضيع، كل ما كان تحت البلاطة فى الماضى صار الآن ذرات فوق السحاب يمطر بلمسة مفتاح فى حيز مغلق
المكتوب الإبداعى موضوع فُهم من زوايا متعددة، تصل النفسى بالاجتماعى والجمالى بالتداولى والحدسى بالحدود المنطقية والبلاغى بالمعيارى، كل منظور يعالج المادة المسطورة من منظوره لخدمة مجاله العلمى، ويظل الإنسان صاحب الكتابة معلقًا فى فضائها يبحث عن قارئ يراه وهو يستقطر نفسه فى الحبر، ولا بأس أن يحيرنا السارد المؤرق بصورة المروية التى ستحمل شيئًا من منابع تيارات تجرى فى تكوينات طبقات وجوده الذى يبدو صلبًا فى مواجهة حياة تجددها متغيرات لم تكن مرئية فى زمن البدايات وهو يضع أساس بنيانه الفكرى، وعليه فى الكتابة أن يستخرج من خرائط، مرسومة بمقياس رسم صغير دال على أماكن نائية فى خزانة الذاكرة، خطوطًا أكثر إلهامًا مهما كانت متعرجة وباهتة يحددها بوعى لحظة الشروع فى الدخول من بوابة السرد الضخمة المتعددة المزاليج والممرات حتى يصل إلى حجرة تشغيل موسيقى صوته، فيختار اللاعبين المهرة لأداء الألحان المنفردة والمتصلة والمتداخلة والمتقاطعة، وقد يختار كذلك المتلقى الذى سيقوم بالتسجيل والتنسيق لذاك اللحن الناجى من دوامات الأصوات التى تغرق فيها سفينة العمر المشحونة ببقايا الرحلة.

والمكتوب فى العصر الرقمى ملفات مهجورة لا توقظها رنين الإشعارات التى تأتى فى الغالب متأخرة، لكن أمل النجاة موجود فى ابن يقرأ تاريخ الأم النائمة فى غيبوبة، هى علامة على غيبوبات موازية يغرق فيها مدّعو اليقظة، والوباء يقترب من الجميع زاحفًا على مجموعة «الفور إن» الأربعينية التى انتهى بها المطاف ما بين غرفة الإنعاش وانتظار ألزهايمر وقرار الانفصال والاختناق فى حصار الغربة.
تضع عزة رشاد يدها على مفاتيح الرواية التى اتخذت لها عنوانًا من حقل الكتابة هو «بالحبر الطائر»، إنه المداد الجديد الذى تحمله الشبكة العنكبوتية فى سحب مفتوحة ومطوية، رسائل غير ورقية، يمكن تعديلها وحذفها وإغلاقها بكلمة سر، أو تركها عمدًا لعل نفسًا تنشد تذوق الوصل الإبداعى تلقاها، أو مصادفة لخروج الذات عن دائرة التواصل بعد أن أدت دورها فى مكتوبها. والرسالة التى تبثها رواية «بالحبر الطائر» سيرة أم كانت فتاة جامعية فى منتصف تسعينيات القرن العشرين، إنها تنتمى لمواليد السبعينيات، وحينما يجد الابن الملفات الرقمية ستكون الأم فى غيبوبة نتيجة إصابة فى حادثة سير مجهولة بمنطقة عشوائية، كانت الأم تحاول مساعدة بعض صاحبات الاحتياج كرسالة اجتماعية تسند وحدتها بعد انفصالها الاجتماعى عن الزوج، وابتعاد الابن فى عالمه الخاص بعد أن التهمت الرقمية طقوس حياة باتت قديمة. وتنتهى الرواية والوباء ينتشر فى عالم ينغلق، الأم فى غرفة الإنعاش التى يحتاجها المصابون بأزمات التنفس، والزوج منصرف فى محاولات إثبات وجود إبداعى غير مكتمل يدعمه بأهمية وهمية، والابن يستنطق مرويات أمه الرقمية فى «جروب الفور إن»، المجموعة التى أنشأتها الأم مستدعية سبعينيات فريق «الفور إم» لتلم شمل الصديقات الأربع اللاتى أخذهن الشتات بين الإسكندرية ومانهاتن وباريس ولندن.
تضم «مجموعة الفور إن» نعيمة صاحبة الفكرة، نعيمة الدكتورة المغتربة فى عالم لم يعد لها فيه ما كان وقت الشباب والأحلام، حتى قطتها خرجت ولم تعد مثل ابنها ناجى المقيم فى شقة جده، ونجوى التى يزحف ألزهايمر داخل خلايا رأسها فى أمريكا وقد طعنتها ابنتها بالتمرد والانتماء التام لأرض الأحلام، ونادين التى فعل ابنها معها ما فعلته ابنة نجوى فأمرها زوجها بمغادرة باريس مع البنتين والعودة لمسقط الرأس، فأصبحت فى مواجهة غير متكافئة مع ابنتيها الرافضتين ترك باريس، فتقرر الانفصال عن زوج تعالت عنده لدرجة غير محتملة ذكورية شرقية كانت كامنة، ونسمة التى عاشت أنثى غير مكتملة فى منفاها الاختيارى بلندن حتى أصبح السياق مستحيلًا بتدخل الآخرين فى حياتها وحرمان أسرتها لها من ميراثها، فأصبح الرجوع للوطن ملاذًا لمعركتها الأخيرة فى استعادة الميراث.
الملفات الرقمية يطالعها ناجى، ابن نعيمة، فيتابع الحياة الأخرى لأم لم يفكر فى أن لديها ذاك المحصول من التجارب والمشاعر والسلوك الغريب، فقد تزوجت الرجل الذى كانت تحبه صديقتها نجوى، وهو يحمل الاسم الأقرب للصديقة التى كانت أكثر الأربعة تطلعًا لعالم أكثر حرية، الأم فى النهاية شخصية رقمية، وكل ما يستطيع أن يعرفه عنها لا مكان له سوى ذاك الفضاء الأشبه بجراب الحاوى الذى لا تنتهى حمولته من المفاجآت المذهلة، ويشك الابن فى تلك الشخصيات التى يقرأ رسائلها، ويسأل نفسه إن كانت أمه تتحدث عن عالم له مرجعيته أم تؤلف رواية مثل أبيه، ولكن الإشعارات تصله بينما الأم فى الغيبوبة مرجحة حقيقة الشخصيات، وليست مؤكدة لها، فالرواية قد تكون تأليفًا جماعيًا. الابن ناجى يستقبل رسالة أمه، بل رسائل جيل الأمهات، فى لقاء رمزى ربما يصل منه لوقائع عالم يسخر من غيبوبته، تلك العلاقة السرية التى تفيض من الأم لتغمر الابن تذكرنا بالصورة الأخرى لها وهى رسالة الابن للأم فى البحث عن الزمن المفقود لبروست حين يتعرض الطفل للقهر من الجد والأب فيصعد لغرفته دون أن يمنح أمه قبلة المساء التى يدرس أحاسيسها وتفاصيلها قبل أن يطبعها على وجهها فى الموضع المحدد بدقة متناهية مستمدة من تجربة يومية مرسومة فى ذهنه قبل أدائها، فيكتب رسالة لأمه لعل الخادمة توصلها إليها، ويفرح بأن بينه وبين أمه تلك الورقة الخاصة التى بث فيها مشاعره، فى الصورتين الأم والابن، الأم عند بروست هى الإنسانية التى يمنحها الابن كلمته، وعند عزة رشاد هى الوجه الآخر للإنسانية، فهى التى تمنح الابن مرويتها للتاريخ بما فيها من معرفة لا يمكن الحصول عليها إلا منها.

بنية الرواية خماسية تتحدث فيها النساء الأربع، كل واحدة بصوتها ورؤيتها، مستعيدة علاقاتها بالأخريات، ومتغلغلة فى خصوصيات لم تُتح للصديقات معرفتها من قبل، والصوت الخامس للابن ناجى، فهو الناجى من الأبناء مع استقلاله النسبى. ناجى هو الذى يدخل حساب أمه ويفتح ملفاتها فى محاولة لفهم ما حدث لها فى الأيام الأخيرة التى فارقها فيها، إن ما يطالعه الآخرون من كلامنا هو الناجى، هو الباقى الذى يسمح لنا بشغل مساحة فى رؤية الأجيال الآتية فى أفق الزمن.
الأصوات الأربعة مثل أوتار الكمان، متوازية ومتضامة فى تكوين واحد، ويكاد ناجى يشغل قوس الكمان الذى يتنقل بين الأوتار فنسمع منه أصواتها. واستطاعت الرواية أن تعالج فترة زمنية نسوية من البلوغ إلى الانقطاع دون أن تعلن عن ذلك مباشرة، تاركة الاستنتاج للمتلقى الذى يفهم ما كان يفهمه الأستاذ «مستر ألفونس» وزوجه «أم مايكل» حين كانا يرعيان الفتيات فى مطلع المراهقة، ولأن لكل قاعدة استثناء، فقد كانت نسمة باسمها الخفيف ناقصة التكوين فى هذا السياق، وكانت غربتها محاولة لنجاة فى مجتمع لندنى غربى، متوقعة أن يدعها وشأنها، فلم تجد إلا التدخل فى حياتها من الغربى والشرقى معًا.
إن اختيار الأسماء لعبة رمزية فى الدلالة الدرامية للسرد عند عزة رشاد، وثلاثية ناجية ونجوى وناجى توضح الارتباط بين الشخصيات مع المفارقة، فالنجاة للمكتوب فقط، وكأننا نتذكر قول جرير «يا أم ناجية السلام عليكم.. قبل الرواح وقبل لوم العُزّل.. لو كنت أعلم أن آخر عهدكم.. يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل».. لم يعرف أهل ناجية الجدة أنها ستموت عقب ولادة نجوى، ولم يعرف ناجى أن أمه لن يبقى منها سوى ملفات معلقة بين الواقع والخيال فى عصر أمست فيه أسرارنا خارج حيز البيت الذى ضمنا، هناك فى أفق رحب غامض لا ندرى مصير مادته، نجوى لم تكن تحب اسمها برقته وهمسه، كانت تريد اسمًا يمنحها مساحة بعيدًا عن همسات الآخرين لها وعنها، لكنها لم تصبح كما تشاء «علا أو علياء» فالدراما تغدق علامات التشكيل على الإبداع ببذخ إذا استطاع السياق استخدامها، ومن قبل كتبت عزة «أحب نورا.. أكره نورهان» فى انتماء لزمن كانت بساطة العلامات معادلة لسلاسة التفاعل اليومى، وفى «بالحبر الطائر» تهرب نورا من الأم وكأنها تخرج لسانها لزمن الأمهات باحثة عن صورة مغايرة لجيل نجوى.