المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

د. أحمد صبحى منصور يكتب: الغزالى يرد على الغزالى

أحمد صبحى منصور
أحمد صبحى منصور

«من بين الشهادات المهمة ما كتبه الدكتور أحمد صبحى منصور، الذى كان صديقًا لفرج فودة، وكان من بين من استهدفهم بيان ندوة علماء الأزهر بالتكفير، فقد كان واحدًا من مؤسسى حزب المستقبل، وقد اختار صبحى منصور أن يرد على الشيخ الغزالى بما سبق وكتبه الغزالى نفسه، وبذلك كشف تناقضه وسيره فى طريقين فى وقت واحد، وقد نشر مقاله فى جريدة الأهالى». 

أوردت الصحف شهادة الشيخ الغزالى فى مقتل الدكتور فرج فودة وفتواه بأن الرافض لتطبيق الشريعة مرتد والمستهزئ بها كافر وحكمه القتل، وأن تطبيق الأفراد لحد الردة افتئات على السلطة ولكن لا عقاب عليه. 

ونود التعليق على هذه الفتاوى الغزالية. 

إنه ليس فى الإسلام ما يعرف بحد الردة، وليس ذلك مجرد اجتهاد شخصى من الكاتب، ولكنه استنتاج من كلام الشيخ الغزالى فى كتابه المشهور «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث». 

يقول فى صفحة ١٠٤: أحصيت أكثر من مائة آية تتضمن حرية التدين، وتقيم صروح الإيمان على الاقتناع الذاتى وتقصى الإكراه عن طريق البلاغ المبين، إلى أن يقول فى صفحة ١٠٧: فأما تصوير الإسلام بأنه يتحرش بالآخرين ويتعطش لدمائهم فهو افتراء على الله والمرسلين، ومع أننا أشبعنا هذا الموضوع بحثًا فى كتبنا الأخرى فإن الحاجة إلى الكلام فيه لا تزال ماسة، ذلك أن حديث الإفك لا ينقطع. 

ثم يقول: وفى هذه الأيام النحسات شاعت الخلافات فى أرجاء الأمة وقتل بعضها بعضًا، بل إن حصيلة القتلى فى الفتن الداخلية أربى من القتلى فى محاربة الاستعمار الصليبى. 

وتأسيسًا على ما قال فإن حد الردة المزعوم يناقض الآيات القرآنية التى تتضمن حرية التدين وتنفى الإكراه فى الدين، والفقرات التى أوردناها من كلامه تنطبق تمامًا على المروجين لحد الردة المزعوم والمتخصصين فى اتهام الغير بالكفر والردة والمتعطشين لدماء المسلمين الأبرياء. 

وما كنا نظن أن الشيخ الغزالى بعد هذا الكلام يقع فى نفس المأزق. 

يقول فى صفحة ٢٩ مستنكرًا: متى أمر رسول الله بقتل المنافقين؟ ما وقع منه ذلك، بل لقد نهى عنه، وهنا يلمح الشيخ الغزالى إلى أن حد الردة لم يكن موجودًا فى عصر النبى عليه السلام. 

ولقد كان فى المدينة فى عهد النبى منافقون نزل القرآن يحكم بكفرهم وارتدادهم عن الإسلام، يقول تعالى عنهم «يحلفون بالله ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم»، وكان من المنافقين من احترف الدخول فى الإسلام والارتداد عنه، ومع ذلك فلم يأمر الله تعالى رسوله إلا بتبشيرهم بالنار «إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلًا، بشر المنافقين بأن لهم عذابًا أليمًا». 

كل ما هنالك أن النبى كان يعرض عنهم إلى أن يموتوا على كفرهم، ويأمره الله ألا يصلى عليهم إذا ماتوا «ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا، ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون». 

وآيات القرآن الكريم عن المنافقين وعن أسس الدعوة الإسلامية تنفى وجود ما يُعرف بحد الردة، الذى اخترعه فقهاء العصر العباسى وصاغوا له أحاديث كاذبة تناقض القرآن الكريم. 

ووفقًا لما ينقله الغزالى عن علماء الحديث فإن الحديث يسقط إذا كانت به علة فادحة أو كان شاذًا، والأحاديث التى يعتمد عليها حد الردة المزعوم يتحقق فيها الاثنان معًا طالما تخالف أكثر من آية فى القرآن الكريم، وطالما أن سيرة النبى لم تروِ أن النبى أمر بقتل أحد المنافقين، بل نهى عن ذلك كما يعترف الشيخ الغزالى. 

إن الأحاديث تنقسم إلى قسمين، الأول متواترة وهى نادرة وتفيد اليقين، والثانى آحاد وهى تفيد الظن ولا تفيد اليقين، وأحاديث الآحاد قد تكون صحيحة عند بعضهم ولكنها لا تفيد اليقين، ويقول الغزالى فى كتابه صفحة ٦٥ عن الحديث الصحيح من الآحاد «أما الزعم بأنه يفيد اليقين كالأخبار المتواترة فهى مجازفة مرفوضة». 

والأحاديث التى قام عليها حد الردة المزعوم ضمن أحاديث الآحاد التى تفتقر للصحة، أو بتعبير المحدثين من الأحاديث الضعيفة طالما تخالف القرآن الكريم والصحيح من سنة الرسول التى كانت تطبيقًا عمليًا للقرآن الكريم، والشيخ الغزالى يتسامح مع تلك الأحاديث الضعيفة بشرط أن تكون بعيدة عن دائرة العقائد والتشريع، يقول: من حق المهتمين بالأحاديث الضعيفة أن يذكروها بعيدًا عن دائرة العقائد والأحكام التشريعية، فإن الدماء والأموال والأعراض أكبر من أن تتداول فيها شائعات علمية. 

وبالتالى فإنه من الظلم أن نحكم بقتل الأبرياء تأسيسًا على أحاديث مطعون فيها تخالف القرآن وسنة رسول الله. 

ومن حقنا أن ندهش حين نقرأ ذلك الكلام للشيخ الغزالى ثم نراه يفتى بكفر مسلم اختلف معه فى الرأى تأسيسًا على تلك الأحاديث، ومن حقنا أن ندهش حين نقرأ للشيخ الغزالى وهو يهاجم المتمسكين بالأحاديث الباطلة ويقول «وقد ضقت ذرعًا بأناس قليلى الفقه فى القرآن كثيرى النظر فى الأحاديث، يصدرون الأحكام ويرسلون الفتاوى فيزيدون الأمة بلبلة وحيرة، وما زلت أحذر الأمة من أقوام بصرهم بالقرآن قليل، وحديثهم عن الإسلام جرىء، واعتمادهم كله على مرويات لا يعرفون مكانها من الكيان الإسلامى». 

من حقنا أن نُدهش لأن الغزالى ينهى عن الشىء ويأتيه، والله تعالى يقول «أتامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب». 

على أن دهشتنا تزداد مساحتها حين نتوقف مع بعض أقوال الغزالى أمام المحكمة. 

فهو يقول عن عقوبة المرتد إنه يستتاب وإذا لم يرجع يُقتل، وهذا هو الحكم العام بإجماع كثير من الفقهاء، وأما أنا فأرى أنه يجوز للحاكم إيداعه فى سجن مؤبد، أى أنه ليس هناك إجماع بين جميع الفقهاء على أن القتل هو عقوبة الردة، ولكن ذلك رأى كثير من الفقهاء. 

ويخرج علينا الغزالى برأى جديد لا يملك عليه دليلًا من الكتاب والسُنة، وهو السجن المؤبد، وعقوبة السجن المؤبد لم يعرفها المسلمون إلا فى عصر السفاح الحجاج بن يوسف الثقفى، إذن هى شريعة جديدة أتحفنا بها الغزالى، والذى نستفيده من هذه المأساة التى طلع بها علينا الشيخ الغزالى أن الشريعة التى يطالبون بتطبيقها والتى يحكمون بقتل من يناقشهم فى كيفية تطبيقها إنما تقوم على أحكام فقهية تخالف القرآن وصحيح الإسلام، وأساسها الاختلاف بين الفقهاء حتى فى الدماء وحياة النفوس، أى أن حياتنا معلقة برأى فلان وفلان، وربما يستظرف فلان نفسه فيفتى بالسجن المؤبد بدل القتل، أما التهمة فهى الاختلاف مع رموز التيار الدينى، لأن الاختلاف معهم تطاول عليهم وتطاول على الإسلام، فقد اعتبروا أنفسهم ممثلين لله تعالى على الأرض، وتعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. 

والغزالى يعتبر من يقوم باغتيال المرتد مفتئتًا على حق السلطة ولا يستحق العقوبة، وهنا يقع التناقض، فهو مرة يرى أن عقوبة السجن المؤبد وليس القتل، ثم يبيح للأفراد أن يقتلوا المرتد ولا عقوبة على القاتل لأن المرتد عندهم مباح الدم لكل من هب ودب. 

والموضوع أكثر من مجرد التناقض فى القول والتلاعب فى الألفاظ، إنه دعوة لنشر الإرهاب باسم الدين، وإشاعة حمامات الدم فى الشوارع باسم الإسلام، وتكريس لحل الخلافات السياسية والدينية بالاغتيالات الإرهابية. 

والشيخ الغزالى يقول هذا والعبوات الناسفة تقتل الأبرياء فى الشوارع من نساء وأطفال وشيوخ. 

وهنا نتحول إلى تساؤل مهم: ما الذى دفع الشيخ المشهور باعتداله إلى هذا المطب الذى أوقع نفسه فيه؟ 

والجواب: حقده على الشهيد فرج فودة، ففى المناظرة التى عقدت بينهما فى معرض الكتاب تفوق الدكتورة فرج فودة على الشيخ الغزالى، وحقده عليها الشيخ، ولذلك نسى اعتداله ونسى ما كتبه فى كتابه «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث»، ونسى أنه نفسه متهم بالردة بسبب آرائه فى ذلك الكتاب، ونسى أخيرًا أنه بذلك قد انهزم أمام فرج فودة بعد رحيله، فما استطاع الشيخ أن يتفوه بذلك الاتهام فى المناظرة التى جمعته به، فلما مات استأسد الشيخ وأفصح عما بداخله. 

ومن واجبنا أن نشكر لفرج فودة أنه دفع حياته ثمنًا لكى يفتح عيوننا على أولئك المتلاعبين بالإسلام العظيم فى سوق الدنيا الفانية... ومن أسف أن الشكر جاء متأخرًا.