المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

المغنى الجوال.. دراما الموت والحياة فى أعمال صلاح عبدالصبور

صلاح عبدالصبور
صلاح عبدالصبور

 رحل صلاح عبدالصبور فى 15 أغسطس 1981 وعمره خمسون عامًا تاركًا ستة دواوين وخمس مسرحيات

 نص مسافر ليل كان ومازال الأكثر حظًا فى تجسيده مسرحيًا فى مصر وخارجها

ترك لى صلاح عبدالصبور ميراثًا من الكلمات والموسيقى والشخصيات ما زلت أحتفظ به، كلمات أرددها بينى وبين نفسى وتصدح موسيقاها فى أذنى بين الحين والحين، كلمات حزينة جاءت من الشوارع والميادين، من القرى والنجوع، بعد أن طافت عبر التاريخ والتقت بفلاسفة ومتصوفة، بملوك وشحاذين، عانت كثيرًا قبل أن تسقط من فمه بموسيقاها وأحزانها، كلمات تحمل أمراض الإنسانية وحيرتها الوجودية، يضعها الشاعر على لسان شخصيات ليس فقط فى نصوصه المسرحية ولكن فى أشعاره أيضًا، فدائمًا لدى صلاح عبدالصبور حكاية يخاطب القارئ من خلالها، فالكلمات لا تأتى عارية بل ترتدى ملابس الحكاية، كان على قناعة أن الناس فى بلاده لا يفهمون الكلام المجرد، لا يعرفون سوى الحكاية منذ ديوانه الأول «الناس فى بلادى» وحتى الأخير «الإبحار فى الذاكرة»، بالإضافة إلى أعماله المسرحية «مأساة الحلاج- مسافر ليل- الأميرة تنتظر- بعد أن يموت الملك- ليلى والمجنون»، وهو يكلّم الناس بالحكم والأمثال. 

مسرحية مسافر ليل

كلماته ترتدى ملابس الحكاية فى الشعر والمسرح

حين أعود إلى صلاح عبدالصبور «٣-٥ -١٩٣١- ١٥- ٨- ١٩٨١» فى أى لحظة وأتجوّل بين أعماله الشعرية والمسرحية، الترجمات والمقالات النقدية التى كتب معظمها حول الشعر، يبدو لى أحد الرواد الكبار للشعر الحر أشبه بالمغنى الجوال شاعر الربابة لكنه يرتدى ملابس عصرية ويبشر برؤية حديثة، نعم رأيته هكذا يغنى للحياة والناس، يغنى عن الحب والألم والوجود عن كل شىء، حاولت أن أقرأه هامسًا بعينى فقط كما أقرأ الشعر الحديث فلم أعرف، ووجدتنى أردد أشعاره كما كنت أفعل فى الماضى وأنا فى صباى مع المتنبى وأبى نواس وبشار بن برد، شعرت بأننى أقرأ شاعرًا شفاهيًا أقرب إلى اليونانى هوميروس صاحب الإلياذة والأوديسة، أو النسخة المصرية لشاعر الربابة لكن ليس بالفطرة، بل الشاعر المثقف الذى جاء فى لحظة تاريخية فارقة ليكون أحد رواد الشعر الحر ويخوض المعارك ليس فقط للدفاع عن تطوير الشكل الشعرى والتحرر من قيود الوزن والقافية، بل رؤيته للواقع التى تجاوزت جيل الرومانسيين إلى تفاصيل وهموم اللحظة الراهنة، لذلك جاءت الكلمات فى قصائد صلاح عبدالصبور نضرة، طازجة، تجسد صورة حية لوجدان الشعب المصرى، فيضًا من الشعر الوجدانى بروح فلسفية حزينة، فمنذ ديوانه الأول «الناس فى بلادى» خلع الخرقة كما فعل صديقه الحلاج وقرر الالتحام بالناس ليلتف حوله العامة، فعلى الرغم من الطابع الفلسفى العميق الذى يميز شعره، إلا أن بناء الحكاية كان يسيطر على كل قصائده، فثمة بطل رئيسى فى أغلب القصائد، بطل من العامة يعرفه الناس، وكأنه يختار منهم من سيلعب دور البطولة فى مسرح الكلمات، وعبرت قصيدته الشهيرة «شنق زهران» عن هذا الاتجاه «كان زهران غلامًا/ أمه سمراء.. والأب مولود وبعينيه وسامة/ وعلى الصدغ حمامة/ وعلى الزند أبوزيد سلامة»، ثم يصف زهران «كان ضحاكًا ولوعًا بالغناء وسماع الشعر فى ليل الشتاء»، ثم يحكى عن زواجه إلى أن يصل إلى الحدث الرئيسى «مر زهران بظهر السوق يومًا/ ورأى النار التى تحرق حقلًا/ ورأى النار التى تصرع طفلًا/ وكان زهران صديقًا للحياة/ ورأى النيران تجتاح الحياة». ثم يتدلى رأس زهران الوديع، فقد كان زهران صديقًا للحياة، كما كان صلاح عبدالصبور صديقًا للحياة، كتب شعرًا للناس والحياة، وحين كتب يرد على أحد منتقديه قال: «أما نحن فقد ألقينا بقلوبنا فى معركة الحياة، ثملنا بانتصاراتها وبكينا انكسارها، وكان شعرنا سكرنا وبكاءنا، ولا علينا من النماذج والتقاليد.. إننا نتنفس الحياة بشغف ومرارة ونهدم ونبنى ونبشر ونجدف، وقد يمسنا الشعر بجناحه فنلتهب ولن يستطيع أحد أن يحرمنا شرف المحاولة وقداستها وعمقها». 

مسرحية مسافر ليل

فى المسرح عاد بالشعر إلى أصوله الأولى

عاش أحد أكبر رواد الشعر الحر مثل المغنى الجوال، فإذا كان قد تخلى عن عمود الشعر والقافية إلا أنه احتفظ بموسيقاه، حيث راح يغنى للحياة، يكتب عن شنق زهران وموت الفلاح والناس فى بلاده، وفى ديوانه «تأملات فى زمن جريح» يسرد حكاية المغنى الحزين ويعلن عن شخصيته ومهنته «وصنعتى يا سادتى مغنى معانق قيثارتى، فؤادى المطعون بالسهام الخمسة، صندوق سرى، خزنة المتاع روضتى وقبرى، أزرع فيها جثتى، خلعتها فى زمنى المفقود»، فهو يكتب/ يغنى للناس، وكان من الطبيعى أن يذهب هذا الشاعر إلى المسرح يعود بالشعر إلى أصوله الأولى، فمع ديوانه الثالث أحلام الفارس القديم نشر أولى مسرحياته مأساة الحلاج عام ١٩٦٤، ليجد صلاح عبدالصبور فى المسرح ضالته المنشودة فى مخاطبة الناس والالتحام بهم والتعبير عن أحلامهم، فكما يتدلى رأس زهران ضحية سلطة الاستعمار، يتدلى رأس الحلاج ضحية سلطة استعمار العقل من قبل الحكام، وفى المسرحية التالية «مسافر ليل» يصرخ من خلال المسافر المقهور من عامل التذاكر ليعبر عن المأزق الوجودى لهذا الإنسان، كوميديا سوداء كما وصفها هو، والحقيقة أنها مرثية لإنسان هذا العصر، وعلى الرغم من البناء الدرامى المحكم لقصائده إلا أنه كان يحتاج إلى المسرح ليغنى للإنسان تارة، وليجسد المأساة التى يعيشها هذا الكائن الحزين فى كل العصور. 

صلاح عبدالصبور

سيظل صلاح عبدالصبور حالة نادرة فى تاريخ الشعر المصرى، ليس فقط لأنه أحد رواد الشعر الحر الكبار، وليس فقط لأن المسرحية الشعرية أصبحت بواسطته بناءً دراميًا مكتملًا محكم البنيان، ولن نبالغ إذا قلنا إن المسرح الشعرى اكتمل فى أعماله الدرامية، بل لأن هذا الشاعر الذى تأثر بالثقافة الإنجليزية، والتراث العربى جسد الروح المصرية فى كل أعماله، حتى إننى رأيته أقرب إلى الشاعر الشعبى الذى يغنى للإنسان ويبكى عليه فى آنٍ واحد، لكن بأدوات وروح هذا العصر. فى أعماله المسرحية قدم صلاح عبدالصبور نموذجًا لإنسان القرن العشرين، فبعد مسرحيته الأولى التى تناولت شخصية تاريخية من رموز المتصوفة «الحسين بن منصور الحلاج» قدم أربعة نصوص مسرحية تجسد مأساة الإنسان المعاصر، ضحية الأسئلة الوجودية. ترك خمس مسرحيات بدأت عام ١٩٦٤ بـ«مأساة الحلاج، ثم مسافر ليل ١٩٦٨، والأميرة تنتظر ١٩٦٩، وليلى والمجنون ١٩٧»، وآخر نصوصه مسرحية «بعد أن يموت الملك» عام ١٩٧٥، بالإضافة إلى ترجمة مجموعة من النصوص العالمية عشر مسرحيات بعضها لم يكتمل، منها «الجلادان» تأليف فرنادو آربال ميلودراما من فصل واحد ولم تكتمل، و«الملك لير» لوليم شكسبير، وترجم منها ما يقرب من فصل واحد، بالإضافة إلى نصوص اكتملت وذاع صيتها بين المسرحيين منها «حفل كوكتيل تأليف ت. س. إليوت» ونشرت فى مجلة المسرح عام ١٩٨١، وأيضًا «جريمة قتل فى الكاتدرائية» لنفس المؤلف، ومسرحية «يرما» للإسبانى جارثيا لوركا وترجمها بالاشتراك مع وحيد النقاش ونُشرت فى مجلة المسرح ١٩٦٧، بالإضافة إلى مسرحية «الخوف من الرجل» لنفس المؤلف، وجاءت الترجمة التى نشرت فى مجلة صباح الخير ١٩٥٨ عبارة عن تلخيص لمسرحية لوركا الشهيرة «بيت برنارد ألبا»، ونشر فى نفس العام، وفى نفس المجلة ترجمة لمسرحية «شىء كالأحلام» تأليف ج. أ. فرجسون، وترجم فى وقت مبكر عام ١٩٥٧ مسرحية الكاتب النرويجى هنريك أبسن «سيد البنائين» ونشرت فى سلسلة الألف كتاب الأولى، وترجم عام ١٩٥٦ مسرحية «بزوغ القمر» من أدب المقاومة فى أيرلندا، وأما أولى المسرحيات التى ترجمها ونشرها فى مجلة صباح الخير فكانت «من أجل ولدى» تأليف جون أرفين، ومن خلال العناوين السابقة قدم صلاح عبدالصبور مجموعة من النصوص المسرحية للمكتبة العربية بل وقدم للقارئ التيارات المسرحية الحديثة، فقد كان يؤمن مثل أبناء ذلك الجيل بضرورة وأهمية المسرح الذى كانت له الكلمة العليا فى ذلك الزمان.

مسرحية مأساة الحلاج 

مأساة الإنسان المعاصر

بدأ كما ذكرت مشروعه المسرحى من خلال نص عن شخصية من كبار المتصوفة هو الحسين بن منصور الحلاج، وقارن البعض بينها وبين مسرحية جريمة قتل فى الكاتدرائية التى ترجمها لأليوت، وجاءت المسرحية الثانية «مسافر ليل» ناتجًا طبيعيًا لتأثره بمسرح العبث الذى ترجم لأحد رموزه مسرحية لم تكتمل، وظنى أنها من أهم نصوصه دراميًا، فهذا النص كتبه متأثرًا بتيار مسرح العبث الذى كان حاضرًا بقوة فى ستينيات القرن الماضى وتأثر به عدد من الكتّاب المصريين وعلى رأسهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وصلاح عبدالصبور، وكل منهم أدلى بدلوه فى هذا التيار وفقًا لمشروعه الثقافى، حيث كتب توفيق الحكيم مسرحية «يا طالع الشجرة» فى إطار مشروعه الفكرى ذى الطابع الفلسفى مستلهمًا الفلكلور المصرى، وكتب نجيب محفوظ الحواريات الثمانية التى غلب عليها الطابع التجريدى والرؤية الفلسفية العميقة، أما الشاعر صلاح عبدالصبور فقد قدم «مسافر ليل» فى إطار مشروعه الشعرى من خلال قالب شعرى لقناعته بأن المسرح لا بد أن يُكتب شعرًا، فهكذا نشأ، وهكذا يستمر، وبالطبع ليس الشعر بمفهومه القديم ومرادفه النظم، بل روح الشعر ليضع فى هذا النص شاعرية الحالة، واستخدم فيها لغته اليومية كما فى قصائده الشعرية لغة فصحى أقرب إلى العامية، واعتمد على ثلاث شخصيات تجسد الشعب من خلال الراكب، والسلطة التى يجسدها عامل التذاكر، مع ضمير المجتمع الراوى بديلًا عن الجوقة اليونانية مع تطوير دورها، فلم تعد تكتفى بالتخفيف من حدة التوتر الدرامى وتشكيل قطع فى تصاعد الحدث، بل الراوى هنا يدير الصراع بين الطرفين، يتدخل أحيانًا ويعلق أحيانًا ويكتفى بدور المشاهد فى أحيان أخرى، ولكنه فى كل الأحوال يمثل القوة الفاعلة التى تحرك الأحداث ويصفه النص «وجه ممسوح بالسكينة الفاترة، صوته معدنى مبطن باللامبالاة الذكية»، وهو الصورة الصوتية لما سيتم تجسيده فى مسرح الأحداث فالراكب يحدث، يكون من خلال هذا الوصف وأيضًا عامل التذاكر، فكلاهما يكون من خلال كلمات الراوى، وهذا ما حاول المخرج تجسيده فى فضاء العربة من خلال شاب يرتدى ملابس معاصرة لا يمكن أن تحفظ ملامحه، وفى المشهد الأخير يعلن عن شخصيته السلبية فليس أمامه سوى الصمت، بل ويطلب من الجمهور أن يكون سلبيًا أيضًا بعد أن يساعد عامل التذاكر فى حمل جثة الراكب/ بعد أن يشارك فى قتل المواطن دون ذنب بصمته على الجرائم العبثية للسلطة. فهذه المسرحية الذى وصفها مؤلفها «كوميديا سوداء» هى الفكر المجرد الذى يشير بقوة إلى الواقع المصرى، عبّر صلاح عبدالصبور من خلالها عن أزمة المجتمع المصرى والتى أصبحت مستعصية، بعد أن هوت مطرقة ٦٧ على رءوس الجميع، فلم يكن سوى العبث حلًا على مستوى الشكل القالب الذى يصب فيه غضبه، بعد أن تحولت إلى هزيمة كبرى للشعب الذى يمثله الراكب فى المسرحية، ولكن لم يكن الراكب الإنسان المطارد من العدم كما فى مسرح العبث الأوروبى مثل فلاديمير واستراجون المطاردين من جودو الذى لا وجود له، فهذا الراكب مطارد من عامل التذاكر بمساعدة الراوى، فثمة واقع ملموس يعيشه. وقد اختار الشاعر صلاح عبدالصبور عربة قطار تندفع فى طريقها على صوت موسيقاها بعد منتصف الليل، وكل مخرج تناول العرض حاول أن يجد معادلًا لعربة القطار الليلية، فضاء الأحداث على خشبة المسرح سواء بالإيحاء أو من خلال الصوت، صوت هدير القطار، وأذكر أننى شاهدت هذا النص على المسرح حوالى خمس مرات لخمسة مخرجين وفى كل الأحوال كان القطار ودلالته جزءًا من البنية العميقة للعرض، فالانحياز للعبث يبدأ من اختيار العربة الليلية ناهيك عن ارتباط الموت بالقطار فى العقل الجمعى، فالإنسان حين يموت يصل إلى محطته الأخيرة.

وفى نص الأميرة تنتظر، الذى كتبه عبدالصبور عام ١٩٦٩ بعد مأساة الحلاج ومسافر ليل فى لحظة تاريخية هى لحظة انكسار وهزيمة.. فالمخلص فى هذا النص «السمندل» مخلص مخادع.. وأيًا كانت الإسقاطات السياسية فى ذلك الوقت الذى كُتب فيه، فهو بالفعل مخلص مخادع، إذ تدور الأحداث خلال عدة ساعات من بداية الظلام، وحتى مطلع النور، وخلال هذه الفترة الظلامية التى تنتهى بطلوع الفجر، يطرح من خلالها الشاعر انكساره فى هذه الفترة من خلال الأميرة والمخلص المخادع/السمندل، من خلال نص تقوم بنيته الأساسية على الزمن المجرد المبهم، فنحن أمام زمن خيالى تجريدى يحيلنا مباشرة إلى زمن تعاقبى فى عدة مستويات، هذا بالإضافة إلى الزمن الحالى، فى الكوخ، وأيضًا زمن العرض، فالمستوى الأول من الزمن، أى زمن استعادة الأحداث، قتل الملك الأب، والمتواجد الليلة وهو زمن مجرد، أما المستوى الثانى فهو الزمن الحالى، وهو زمن مبهم يتم قياسه بالوحدات الظلامية سبعة عشر ظلامًا وخمسة عشر ظلامًا، إذن نحن أمام ثلاثة أزمنة، الأول تجريدى يحمل داخله عدة مستويات، فهو تجريدى تعاقبى، أما الثانى الزمن الحالى المبهم والثالث زمن العرض حال تجسيده على خشبة المسرح. 

مسريحة مسافر ليل

لماذا أحب المسرح مسافر ليل؟ 

ورغم أن صلاح عبدالصبور كتب خمس مسرحيات قدمت جميعها على خشبة المسرح، إلا أن نص مسافر ليل كان ومازال الأكثر حظًا فى تجسيده مسرحيًا فى مصر وخارجها، وكان أول من قدم هذا النص على خشبة المسرح المخرج الكبير سمير العصفورى. وكان آخر من قدمه مخرج شاب هو أحمد علاء فى مسرح الثقافة الجماهيرية العام الماضى وقدم المخرج الشاب رؤية متميزة لهذا النص الذى تناوله من قبل كبار المخرجين، بالإضافة إلى الرؤية المتميزة للديكور الذى صممته لبنى الإمام، حيث غلاف القطار فضاء الحكاية أقرب إلى عمود فقرى للإنسان! وأيضًا المخرج محمود فؤاد، الذى قرر أن يصمم عربة قطار يضع فيها الشعب والسلطة وضمير المجتمع، وأن يشارك الجميع فى هذه القضية ويتحول المشاهدون إلى ركاب مشاركين فى الأحداث من خلال وجودهم فى مقاعد هذه العربة من الناحيتين. وأطلق المخرج على نفسه فى بطاقة العرض سائق القطار، ومجموعة الممثلين المسافرين، والفنيين، طاقم القطار، وفريق الهناجر، أى الإدارة، طاقم المحطة، ليدخل المسافر من بين الركاب مندفعًا ناحية الراوى الذى يقدمه للركاب دون أن يشتبك معه، ثم يأتى الإسكندر أو عشرى السترة أو عامل التذاكر، سمه ما شئت، فهو السلطة فى كل الأحوال ليسافر الجمهور والممثلون معًا فى هذه الرحلة الليلية التى يقودها تيار مسرح العبث، والتى تبدأ من عمق التاريخ حتى أيامنا هذه. 

وأيضًا فى أرض الأوبرا ومن خلال مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى فى الدورة الثانية عشرة، قطار قادم من رومانيا، قطار «كريس سيمون» المخرجة الرومانية، التى كانت شابة وقتذاك، و كلاهما فكر فى عربة القطار، وفى العرضين تحول الجمهور إلى ركاب، والاختلاف جاء فى ترجمة النص إلى منظر مسرحى بكل مفرداته فى حيز اللعب، أما المرة الأولى التى شاهدت فيها هذا النص على خشبة المسرح كان من خلال كوميديا موسيقية قدمها الموسيقار وليد الشهاوى فى مسرح الطليعة عام ١٩٩٩وما فعله وليد الشهاوى هو محاولة إيجاد موسيقى تعبيرية تلتقط روح العصر، من خلال البحث عن الدراما التى تنبع من الجملة الموسيقية، فالكوميديا السوداء لتاريخ القهر التى صاغها صلاح عبدالصبور بين موسيقى الرجز والمتدارك عام ١٩٦٩ على إيقاعات يتوالى فيها المتحرك والساكن «…..٠/٠/» المتحرك «القاهر» والساكن «المقهور» ووضعها وليد الشهاوى فى صورة إيقاعات سريعة متلاحقة غلب عليها الطابع العسكرى، فقد صاغ القهر موسيقيًا فى صورة مارشات عسكرية بين السلام الوطنى ومارش الخطوة المعتادة والبروجى وحركات السلاح كتفًا وجنبًا وسلام سلاح.. واختيار الطابع العسكرى دلالة مباشرة على القهر، وفى هذه الدراما الموسيقية جمع العرض بين الصوت البشرى المجرد، من خلال تلحين بعض أجزاء من الحوار، وأيضًا موسيقى الأشياء على الخشبة والإيقاع الداخلى، أى الموسيقى النفسية لهؤلاء بين المقهور والجلاد والمتفرج السلبى فى محاولة لإيجاد خط موسيقى يتنامى مع تنامى الدراما هو الطابع العسكرى المقابل للقهر.. الذى استخدم فيه كل الإمكانات البشرية القاهرة المقهورة من خلال أصوات التصفيق وحركة الأقدام. 

وفى عام ٢٠١٣ قدم المخرج الشاب محمد لبيب هذا النص، من خلال المهرجان الذى أقامه المركز الفرنسى بالقاهرة، من خلال رؤية متميزة ومعاصرة لكوميديا صلاح عبدالصبور السوداء، فوضع ليس فقط أبطال المسرحية فى عربة قطار، بل وضع المشاهدين من خلال المؤثرات الصوتية قبل أن يبدأ العرض فى هذا لقطار، وجعل المشاهد على مدى خمسين دقيقة يشعر بأن القطار يجرى والراكب يعد عواميد السكة، من خلال تقنيات بسيطة تتحرك عربة القطار، واستطاع المخرج ترجمة هذه الفلسفة العميقة، التى تسخر من العالم إلى مشهد بصرى مدهش فى كل مفرداته، سواء الحركة أو الصورة، حيث وضع جثة هى دون شك للراكب يحملها عامل التذاكر فى بداية العرض ويبقى بها خارجًا، وسوف يتكرر هذا المشهد فى نهاية العرض، فثمة ديمومة لهذا الفعل يؤكد عليها العرض ومن قبل النص، ولكن هذا المشهد فى نهاية النص فقط والمخرج وضعه فى البداية والنهاية، وأضفى على شخصية الراوى مسحة معاصرة، الراوى الذى قال المؤلف إنه ضرورة، وأقول إن الراوى/الجوقة ضمير المجتمع، جعله المخرج أحيانًا يعلق على الأحداث كمعلق لمباراة كرة قدم أو مذيع تليفزيونى، بل وقذف به خارج القطار وجعله يعلق وهو يلهث خلف الشعب والسلطة؟ ثمة ألعاب للتنكر بين عامل التذاكر والراكب تجسد صورة القهر أو البراءة التى تثير الشبهة، كما يصفها المؤلف، فالعامل يحلق للراكب، وألعاب أخرى، وكل هذا من خلال أسلوب ساخر، ولكن لا يخلو من الفلسفة التى يطرحها النص، بالفعل لبيب عزت مخرج موهوب قدم مشهدًا بصريًا مدهشًا وبسيطًا فى آنٍ واستطاع تقديم عرض ساخر لا يخلو من الفلسفة. 

صلاح عبد الصبور

نهاية مأساوية لشاعر كتب للحياة 

اخترت أن أعرض لمسرحية مسافر ليل على خشبة المسرح وكيف تناولها المخرجون من أجيال وجنسيات مختلفة فى دلالة قوية على قدرة أعمال صلاح عبدالصبور على الاستمرار، هذا الشاعر الذى اختار أن يكتب للحياة، الذى كتب نصوصًا مسرحية انحاز فيها إلى الكوميديا السوداء وعاش مثل المغنى الجوال، ولا يخلو لقاؤه بعبدالحليم حافظ ومرسى جميل عزيز فى بداية حياته من دلالة، وأيضًا كتابة أغنية للمطرب الشاب عبدالحليم حافظ بواسطة الشاعر الشاب صلاح عبدالصبور، الذى انتهت حياته فى مشهد مأساوى وعمره خمسون عامًا، حيث بدأ المشهد المأساوى فى بيت رفيق الرحلة أحمد عبدالمعطى حجازى، وفى حوار سألته حول هذه الواقعة. 

- كنت الأقرب إلى صلاح عبدالصبور وما قرأته عند دكتور غالى شكرى فى كتابه «بلاغ إلى الرأى العام» وما كتبه فاروق عبدالقادر بعد ذلك عن هذه الواقعة جعلنى أفهم أن هذه الليلة لم تكن السبب الرئيسى فى موته، بل كانت سببًا واهيًا سبقتها أسباب عميقة، وهى أن الشاعر لم يحتمل ما فعلته السلطة ومشاركته هو بحكم كونه مسئولًا فى هذه السلطة فى واقعة معرض الكتاب؟ فأجاب عبدالمعطى حجازى: «إنه لم يحتمل النقد الذى وجه له، وفى النهاية صلاح عبدالصبور اشتغل فى الدولة وليس فى السلطة، صحيح أن هذه الدولة فيها سلطة صلاح عبدالصبور، إن لم يكن له موقف سلبى منها كانت هناك مسافة بينه وبينها، فهو لم يكن يعمل فى السلطة، وإذا كنا الآن نقول إن هذه السلطة كانت استبدادًا وطغيانا فصلاح عبدالصبور عبّر عن هذا الموقف فى أشعاره ومسرحياته. 

صلاح عبدالصبور مع مجموعة من نجوم الزمن الجميل

وحين قلت له إن صلاح عبدالصبور كان يعيش هذا التناقض بين الشاعر والمسئول، قال لى: «للأسف الشديد أنه كان فى تلك الفترة التمييز بين الدولة والسلطة تمييزًا نظريًا، فعندما تضع السلطة يدها على كل مؤسسات الدولة يكون التمييز صعبًا، وعندما يجد صلاح عبدالصبور نفسه فى معرض الكتاب يهاجم من الشباب الذين يعترضون على مشاركة إسرائيل فى المعرض لابد أن يتألم، ثم إنه لا شك تألم حين تحدث إليه صديقنا وهو صديق مشترك الفنان بهحت عثمان بعنف أو عاتبه بطريقة مؤلمة».

وحين سألته.. ماذا كان رد فعل صلاح عبدالصبور؟ 

قال: «رفض هذا الكلام، ورد على بهجت الذى كان يعمل فى الكويت فى ذلك الوقت وقال له أنت تعمل فى الكويت، رد بالمثل بحدة، وحين وجدت أنا أن الأمر يمكن أن يتطور إلى صورة لا نرضاها أقنعت بهجت أن يغادرنا وذهب بالفعل، ولكن تألم صلاح عبدالصبور وحدثت هذه الأحداث المؤسفة المؤلمة ودافع من حضروا هذه السهرة، ومنهم جابر عصفور وأمل دنقل عن صلاح بقوة».

رحل صلاح عبدالصبور فى ١٥ أغسطس ١٩٨١ وعمره خمسون عامًا تاركًا ستة دواوين، وخمس مسرحيات، بالإضافة إلى الترجمات والمقالات النقدية، ربما يبدو إنتاجه الإبداعى من الشعر والمسرح إذا قورن بآخرين، أيضًا حياته القصيرة ورحيله المأساوى والمبكر، إلا أن هذا المغنى الجوال الذى عاش يحب الحياة ويكتب للناس ستظل أعماله جزءًا أساسيًا من دراما الحياة.