الثلاثاء 03 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

غالى شكرى وهوية مصر الحضارية

غالى شكرى
غالى شكرى

أسس غالى شكرى «١٢- مارس ١٩٣٥- ١٠ مايو -١٩٩٨» مشروعه الثقافى على مدى أربعين عامًا منحازًا للقيمة الجمالية الحية وارتباطها بالحياة والإنسان، وكناقد سسيولوجى وضع الخلفية الاجتماعية والواقع العربى فى مخيلته مستعينًا بمناهج النقد المعاصر دون تقليدها أو تطبيقها تطبيقًا تعسفيًا كما يحدث فى أغلب الأحيان، وأستطاع أن يرصد ويقرأ واقع الأدب العربى من خلال خمسة وأربعين كتابًا، لم تكن فقط بمثابة النقد والتحليل للأدب والفكر، ولكن ليؤسس بها مشروعًا فكريًا ليبراليًا ساهم فى الفكر العربى من الستينيات حتى رحيله، لقد كان غالى شكرى، الذى اتخذ من علم اجتماع الأدب أداة لقراءة الواقع، ليس فقط ناقدًا أدبيًا متميزًا بل ناقدًا للفكر السياسى فى المجتمع، فما قدمه على مدى أربعة عقود أقرب إلى وصف مصر، قراءة لعقل الثقافة المصرية، الأفكار والآراء، القديم والحديث من الأعراف والتقاليد، فلم يكتب عن نظريات وأعمال أدبية، بل عن وقائع وأحداث عاصرها وشارك فيها. 

أدرك غالى شكرى مبكرًا هدفه ومنهجه كناقد ومفكر حين أعلن عن أصل الداء ممثلًا فى غياب الأرض الفكرية من تحت أقدام الباحث المصرى، هذا الغياب الذى باعد بينه وبين الدراسات الفكرية، ففى أول كتبه، الذى صدر ١٩٦٢ «سلامة موسى وأزمة الضمير العربى» حذر من خطورة عدم وجود خريطة فكرية واضحة ترسم خطًا بيانيًا للحركة الفكرية المصرية خلال الخمسين سنة الماضية أى النصف الأول من القرن العشرين وحدد ثلاثة عناصر للمكونات الفكرية لهذه الأرض، الخريطة الفكرية، والمعايير المحددة لحركة الفكر فى بلادنا والمفهوم الشامل المحدد لحركة التاريخ، وكانت صدمته كبيرة؛ لأننا لم نتوصل إلى مفهوم علمى وشامل لحركة التطور الاجتماعى فى تاريخنا الحديث، لذلك سعى فى أعماله لرسم هذه الخريطة واكتساب مساحة جديدة فى هذه الأرض، من خلال تقييم الحياة الفكرية الحديثة، وأخذ على عاتقه رصد وتسجيل المادة الخام لهذا الفكر فى صورتها الكلية الشاملة، فقد أقام حوارًا مع معظم الشخصيات التى تناولها بالدرس والتحليل، فكان أقرب إلى المؤرخ الذى عاصر وشاهد الأحداث، لكنه لم يسجلها فقط، بل أخضعها لعملية شاقة من البحث والدرس والتحليل، وكان من الطبيعى أن تجد صورة حية لتاريخ الفكر المصرى الحديث فى أعماله. 

لقد كرّس كل أعماله لكشف أمراض المجتمع المصرى بروح الكاتب والباحث الثائر والمتمرد بجرأة توقفت أمامها كثيرًا، فثمة مبادئ لا يتخلى عنها فى كتابته فى الأدب والسياسة والاجتماع، فى الشعر والقصة والمسرح ممثلة فى انتمائه للثقافة المصرية، فهوية مصر الحضارية الممتدة عبر التاريخ من الثوابت التى لا يمكن التخلى عنها، أو النظر إلى قضايا اللحظة الراهنة بمعزل عن هذا التاريخ، وأن أى مساس بالوحدة الوطنية يعنى خطرًا داهمًا على مصر والمصريين، فضلًا عن إيمانه بالعروبة، وإنحيازه للفكر الماركسى، فثمة ثوابت لا يتخلى عنها فى كل أعماله. 

قرأ ثنائية النهضة والسقوط فى الفكر المصرى الحديث، حين رصد النهضة العربية التى بدأت فى القرن التاسع عشر حتى مرحلة السقوط، وهى الأطروحة التى تقدم بها لنيل درجة الدكتوراه من السوربون حين اتخذ من التحليل الاجتماعى للثقافة منهجًا؛ ليستخلص القوانين الاجتماعية الثقافية المضمرة فى ظاهرة النهضة والسقوط، ثم دراسته الجريئة حول الثورة المضادة فى مصر، والتى تقرأ بدقة وشجاعة أسباب انهيار المجتمع المصرى فى سبعينيات القرن الماضى، ليفاجأ الجميع بأن تاريخ الثورة المضادة هو تاريخ الثورة نفسها وكأن الجرثومة فى الثورة، ناهيك عن أنه أول من وضع دراسة مكتملة عن نجيب محفوظ «المنتمى» عام ١٩٦٤ دراسة فى أعماله، أعلن أيضًا من خلالها عن قناعته بدور الكاتب، الذى مهما كان عظيمًا لا يمكن أن يتجاوز مقتضيات التاريخ، ولا مكوناته الرئيسية الأصلية، مؤكدًا من خلال هذه الدراسة أن قيمة نجيب محفوظ تكمن فى أنه اختار- منذ البداية- الطريق الصعب، فلم ينقل إطارًا روائيًا جاهزًا، بل حاول أن يختبر الصيغة الجمالية الصحيحة باختبار شتى الأطر الفنية والمذاهب الفكرية فى أرض الواقع المصرى، وتلك كانت مبرراته لاختيار هذا الأديب لأنه فى سياق مشروعه الفكرى، وأيضًا دراسته عن توفيق الحكيم «ثورة المعتزل» ثم «توفيق الحكيم الجيل والطبقة والرؤيا»، والذى ناقش فيه انقلاب الحكيم على الحقبة الناصرية من خلال كتابه «عودة الوعى»، وسوف يلعب توفيق الحكيم دورًا رئيسيًا فى مشروع غالى شكرى، وبنظرة سريعة إلى ترتيب أعماله نجد أنها بدأت بثلاثة كتب، عن سلامة موسى ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، وثلاثة كتب حول القصة القصيرة، والرواية والشعر، حيث درس بعض الرموز الثقافية ثم الأنواع الأدبية قبل أن تكون الرؤية أشمل وأعم من خلال أعماله سالفة الذكر التى تناولت الظاهرة الثقافية، وجذور الإرهاب السياسى باسم الدين فى مجموعة من الأطروحات، سواء كانت هذه العناوين، النهضة والسقوط، الثورة المضادة، بلاغ إلى الرأى العام، دكتاتورية التخلف العربى، أقواس الهزيمة، ثقافة النظام العشوائى.