أيمن بكر يكتب: «قصة أخرى للحياة».. آلة الزمن وأزمة العالم المعاصر
فى روايتها الثانية «قصة أخرى للحياة» الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة/٢٠٢٤، تقدم الروائية المصرية فيبى صبرى تصورًا خاصًا عن آلة الزمن بالمعنى الروائى والفكرى. خصوصية تلك الآلة أنها لا ترجع فى الزمن/التاريخ الذى نعرف، لتغير بعض وقائعه كما تمنّى المبدعون وعبّروا فى أعمال أدبية وسينمائية كثيرة، إنها آلة تصنع تاريخًا جديدًا وتمده على استقامته لتصل إلى حاضر آخر، مانحة القارئ فرصة المقارنة، وإطلاق سؤال نحتاجه كثيرًا: «ماذا لو...؟».
فى هذه الرواية أنت فى حضرة كتابة سردية من نوع خاص لا تشبه كثيرًا مما تقرأ
منذ الصفحات الأولى، سيعرف القارئ أنه فى حضرة كتابة سردية من نوع خاص لا تشبه كثيرًا مما يقرأ. يبدأ الحكى كأنما هو استئناف لحديث سابق بلا مقدمات أو تمهيدات، أو عتبات تأويل، فلا يوجد فى الرواية إهداء ولا تصديرات من مقولات تحمل حكمة، أو تُلقى بضوء على مغزى النص أو سير أحداثه، وهى المقدمات والعتبات التى تلعب دورين مهمين: الوقوف بين القارئ وعالم السرد كبوصلة توجيهٍ يقدمها المؤلف بعد أن انتهى من كتابة نصه، وفى الوقت نفسه تلعب دور المهدئ لروع الكاتب، الذى يبدو كمن يتدثر بأغطية تمنحه بعض هدوء قبل مواجهة عالم القراءة المتسع المتنوع التوجهات. «قصة أخرى للحياة» لا تحتاج هذه المقدمات والعتبات، بل إنها تسعى للنقيض؛ أن تصنع من بنيتها ومدخلها وطريقة سردها تاريخًا بديلًا لا يفصله شىء عن القارئ، كأنما هو عين ما حدث، وهو ما يحققه الدخول فى عالم السرد، بلا تمهيد يبقى عالقًا كحاجز من التوجيه الخارجى لتجربة القراءة. ما سبق تحديدًا هو ما تحتاجه آلة الزمن التى صنعتها الروائية الشابة بدقة من ينسج لوحة من خيوط ملونة دقيقة، إنها تسعى لدفع القارئ بصورة مفاجئة داخل عالم سردى أسطورى؛ شخصيات أقرب إلى أبطال السير الشعبية، ضمن مدينة ليست كالمدن، ومسار للأحداث هو ما دفعنى لاستحضار فكرة آلة الزمن.
يقدم عالم الرواية مدينة متخيلة فى أوروبا ما قبل الميلاد، تتمكن تلك المدينة بصورة مبكرة جدًا من تحرير نصف العالم من أوهام السيطرة الذكورية، والاستهلاك الرأسمالى البشع لموارد الأرض بصورة حمقاء، تقوم بذلك عبر شخصياتها الفريدة وقوانينها التى تبدو فى البداية متناسبة مع هذه الفترة من التاريخ، ثم ما يلبث القارئ أن يكتشف كيف تحمل تلك القوانين -المعبرة عن طبيعة خاصة لتلك المدينة العجيبة- بذور التغيُّر الذى سيصيب التاريخ الإنسانى فى الرواية. العودة فى الزمن هنا محفوفة بمخاطر كبيرة، فهى مضطرة لتقديم بدائل اجتماعية وفلسفية وطبية لمسار التاريخ الذى نعرف، وهى مطالبة بأن تبرر المسار الذى ستتخذه الأحداث، وصولًا للعالم الذى يمثل النتيجة لهذا التغير الحاد فى الوعى والتاريخ البشريين. لقد تحايلت الرواية فلم تقدم مسار التاريخ المقترح بين لحظتى البداية الخيالية والحاضر الذى نتج عن تلك البداية، فطبقًا للأجواء شديدة الخصوصية التى مرت بها الرواية فى نصفها الأول، سيبدو من الصعب تقديم المسار البديل للتاريخ كله فى عمل واحد؛ إذ يحتاج هذا التتبع لمسار تاريخ مُقترح بهذه الغرابة إلى متوالية روائية، لم تفضل فيبى صبرى التعرض لها، لهذا تنتقل الرواية بصورة مفاجئة لكنها غير صادمة، مما قبل الميلاد إلى العصر الحديث، لتكمل رسالتها، ولترضى فضول القارئ الذى سيتساءل بعد أن يغرق فى عالم المدينة الأسطورية التى تقدمها الرواية: كيف سينتهى تاريخ كالذى تقدمه الرواية إلى حاضرنا؟ هل ستختفى الحضارة التى نعيشها الآن بكل سوءاتها، ومحاسنها، ومخاطرها، وأنانيتها المفرطة، وطبقيتها المميتة؟ أم أن العالم سينقسم إلى عالمين: أحدهما ما نعرف ونعيش، والثانى هو ما تقترحه الرواية؟ أسئلة سيجد القارئ إجاباتها فى الجزء الثانى من الحكاية، حين تقفز آلة الزمن التى تمثلها الرواية إلى حاضر آخر فى عالم آخر يقوم على ما أسست له فى الجزء الأول، لكن مع بقاء عالمنا الحالى فى جانب من الكرة الأرضية يبدو محاصرًا متخلفًا، رغم تطوره التكنولوجى.
لقد حاولتُ قدر الممكن أن أتجنب تلخيص الرواية، كى لا أهدر متعة القراءة لمن يود الذهاب فى رحلته عبر «قصة أخرى للحياة»، فما أقدمه هنا هو مفتاح ضمن مفاتيح كثيرة يمكن استخدامها فى النظر للرواية من الزاوية الفكرية الفلسفية، أما من ناحية التقنيات السردية وجماليات لغة السرد، فكلاهما مدهش فى هذا النص المحكم، ويحتاج إلى تحليل آخر ضمن دراسة مطولة تتناول أكثر من عمل سردى لافت للنظر، لروائيات وروائيين شباب، يبدو أنهم سيذهبون بالرواية العربية إلى مساحة مختلفة، وهو ما أنوى القيام به قريبًا.