السبت 27 يوليه 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مذكرات صبى مجند.. عن الذى تفعله الحرب فى الصغار

طفل إفريقي يحمل السلاح
طفل إفريقي يحمل السلاح

-طفل إفريقى حمل الألم إلى جانب بندقيته فقاده إلى النجاة

ترفض بعض الأمهات تعريض الصغار للألم قدر استطاعتهن. كانت أمى منهن، لكنها لم تكن تعرف أن الألم يمكن أن يكون فى كلمة. لم تكن أمى مهملة مُطلقًا، كانت تعتنى بما أقرأ، تقرأ قبلى وتقطع بكل قسوة الصفحات التى بها مشاهد لا يجب للأطفال التعرض لها، قسوة سببها الحب، الأمومة صعبة حقًا. لكن «غلب حمارها»، فلم تكن تعجبنى تلك الكتب التى كُتبت للأطفال، لا أريد جنيات وفرشات وعوالم بديعة خيالية، أريد من القراءة المعرفة أكثر من التسلية، أول ما كنت أريد معرفته هو عالم الكبار، وعالم الكبار هذا، فيه ما لا يجب على معرفته، على الأقل آنذاك.

لكن كلانا كان يعرف أنها لن تقدر أبدًا على منعى من القراءة، فليس هناك ما أفعله سوى القراءة والشغب، تخيل معى طفلة غريبة الأطوار بلا أصحاب، ماذا تفعل سوى اتخاذ الكتاب صديقًا؟

واليوم، بعدما كبرت ولم تبق معى أمى لمنعى أو حتى محاولة ذلك من دون جدوى، أقدم لكم هنا واحدًا من هذه الكتب، التى تثبت أن الألم يمكن أن يكون فى كلمة، كتاب «الطريق الطويل.. مذكرات صبى مجند»، لكاتبه إشمائييل بيه. 

الصفحة السادسة عشر من العدد العشرين لحرف

صدمة مطلوبة لواقع مؤلم

اخترت كتاب «الطريق الطويل.. مذكرات صبى مجند» كمقدمة لسلسلة «تجربة كتاب»، التى سنعرض ونلخص خلالها مجموعة من الكتب المهمة، لأنه أكثر ما نحتاجه اليوم، فواقعنا الحالى مؤلم، وبينما تقرأ هذه الكلمات الآن، هناك أسرة معذبة تختار الأرز من بين الحصى.

لن أحدد الأسرة، لأنها ليست فقط تلك الأسر القريبة منا، التى نتشارك معها سمات دينية وجغرافية فنقدر على التعاطف معهم، أتحدث أيضًا عن الأسر التى لا تشبهك، وعيون أطفالها ملونة وشعرهم أشقر، ولا يجمعك معهم نفس الدين، فهم يستحقون أيضًا نفس القدر من التعاطف، تمامًا مثل أسرة «بيه» التى قتلت، ولم يبق فيها من الكبار سوى الصبى، وكانت تستحق أيضًا الدعم وقتها.

لكن يَبقى الأمل، يَبقى ويُبقى من بَقى، هو ذات الأمل الذى حمله «بيه» طول أعوام بجانب بندقيته حتى قاده إلى النجاة، ليصبح لدينا عمل يلقى بظلال الحقيقة على واقع إفريقيا، عمل كُتب على جهاز حديث، وكاتبه كان دافئًا مطمئنًا وقت كتابته- كما يصور لى-.

يجب على الأطفال ألا يتعرضوا لعالم الكبار مبكرًا، ولكنى تعرضت له مع كتبى، لكن تعرضى له لا يشبه من قريب أو بعيد هول ما تعرض له «بيه»، الذى تحطم عالمه عندما هاجمت قوات المتمردين قريته، ما تركه يتيمًا وتائهًا فى منطقة مزقتها الحرب.

أطفال أفارقة يحملون السلاح

«فلت» هذا الكتاب من قبضة أمى، لأنى قرأته فى ليلتين لساعات متواصلة، لم يكن هناك ما يشغلنى سواه، حتى أنى شممت رائحة الطمى، كما ذكره «بيه». صدقنى فى أول مرة وقفت على طمى مثل الذى فى الكتاب، تأكدت أن لكليهما نفس الرائحة.

قرأت الكتاب فى منزل أحد أصدقاء العائلة، بعدما سافرت أمى بصحبة أبى لتقديم واجب العزاء فى محافظة أخرى، ولأن أمى كما ذكرت لم تكن ترى أن الألم مناسب للأطفال، تركتنى فى القاهرة، فى منزل أدخله لأول مرة، بلا صحبة حقيقية أو شبيه، فجاء الألم من كتاب ظنت هى أنى فى مأمن منه، كان وقتًا مثاليًا لكتاب مثله.

المعرفة ليست مجانية، المعرفة لها ثمن، فثمن أن تعرف ولا تتحرك هو الخزى أمام نفسك، لكن أن تعرف وتحاول فثمنه عمرك، أو أنا اخترت الثمن الثانى، فسافرت إلى مكان الألم ذاته-على طريقة أنور السادات-.

لـ٣ سنوات طفت كل أرض إفريقية سنحت لى الفرصة زيارتها، لن أحمل هذه السنوات على كتف كتابنا الأول فقط، فتلك الرحلة طويلة، تمامًا كرحلة صبى تم تجنيده طفلًا. أما أنا فجندنى الفضول، والفضول فقط، لم يكن لى أهداف غير المتعة المعرفية، سنجول فوق أرضها وداخل سهولها لنحكى عن قارة فيها من الحكايات ما يملأ العالم ويفيض، وتلك الحكايات تشبه الأرض.

طفل افريقي يحمل السلاح

التطهر بالاعتراف

اخترت لتلك السلسلة عنوان «تجربة كتاب»، لأنك لن تجد هنا مجرد «ريفيو» لكتابك القادم، بل ستجد تجربة كتاب، تجربتى أنا، ولأننا سنختص بالذكر الكتب الإفريقية، فلتتحضر للكثير من العوالم الجديدة، والكثير من الألم كذلك، ألم سيجعلك تدرك أن هناك عالمًا خارج نطاق غرفتك، ولكنى لست «سادية»، ستكون هذه الرحلة أيضًا متخمة بالمتعة، متعة العقل، أعدك ستتوافر هذه المتعة، مهما توجعت.

نتعامل هنا مع الكتب بنفس الدقة والحرص والحذر الذى نتعامل فيه مع الأسلحة، خاصة الخفيفة منها، لأننا نستهين بقوتها، لكن صدقنى الطلقات فى بندقية « AK-٤٧» قد تغير شكل وعيك إن ارتطمت بصدرك، وكذلك الكلمات، إن ارتطمت بعقلك وروحك ستحصل على نفس النتيجة.

تلك البندقية الروسية التى تُنتَج على نطاق واسع، استلمت منها إفريقيا عددًا لا بأس به، وكانت أول سلاح تتسلمه يد فتانا «بيه»، الذى يبلغ من العمر اليوم ٤٣ عامًا، ولكنه وقتها كان أقل من ١٨ سنة، تسلمه من الملازم، أود حقًا أن أعرف ماذا قال له الملازم وقتها، كان ثقيلًا على ساعد طفل بالطبع، خاصة أنه حمله لأيام كأنه حضن أمه.

وبينما تتكشف قصة «بيه»، فإنه يصور بوضوح الواقع الوحشى للحياة كجندى طفل، حيث يتم تجريد البراءة واستبدالها بدورة لا هوادة فيها من الخوف والعنف.

إنه يشارك التفاصيل المروعة لتدريبه كجندى، والفظائع التى شهدها وشارك فيها، فظائع ليست مناسبة للذكر على صفحات جريدة أدبية، مع نضاله المستمر للتمسك بإنسانيته، فى مواجهة قسوة لا يمكن تصورها.

أكثر ما يعجبنى فى هذا الكتاب صدقه، فلم يكتبه «بيه» ليبرأ يده من دماء من قتلهم، بل ليتطهر عبره، التطهر بالاعتراف. على الرغم من الظلام الذى يتخلل قصته، فإن مذكرات «بيه» هى فى نهاية المطاف شهادة على قوة الأمل والمرونة. ومن خلال دعم الأفراد المتعاطفين وقوته الداخلية، يجد طريقة لاستعادة حياته وإعادة بناء مستقبل ملىء بالوعود والاحتمالات الملونة ككتب الأطفال التى لم يعرفها، كأنه يرسم الطريق لكل ضائع، ونحن جميعًا ضائعون بشكل أو بآخر، ليصبح الكتاب عملًا يصرخ فى وجهك: تطهر.. اعترف.. اطلب المساعدة.. صحح الماضى لتنال المستقبل».

هذه المذكرات مؤثرة للغاية ولا تُنسى، وتلقى الضوء على التأثير المدمر للحرب على الأطفال، والروح الإنسانية التى لا تقهر، رواية شجاعة ومقنعة، تتحدى القراء لمواجهة حقائق العنف والصراع، بينما تلهم الأمل فى عالم أفضل وأكثر تعاطفًا.

بشكل عام، «الطريق الطويل: مذكرات صبى جندى» هو عمل رائع يستحق القراءة والتذكر، لما يتضمنه من رؤى عميقة وصدق لا يتزعزع.