السبت 05 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

حق الاختلاف الثقافى.. مقدمة كتاب تحت الطبع لـ«مجاهد العزب»

مجاهد العزب
مجاهد العزب

- أعجب كل العجب من دعوة الاستمساك بالثقافة العربية الخام

- الدول المتخلفة حضاريًا هى الدول التى لا تزال على مستوى الحضارة الزراعية وقيمها

ينشغل الباحثون بترابط اللغة مع الثقافة، ومع ذلك لم يتم التوصل إلى ثوابت مقْنِعة فى هذه المسألة بالذات؛ بل على العكس، كل الآراء المطروحة متناقضة، وتحمل النظريات المقدمة سمة الافتراض. 

ومما لا شك فيه، أن اللغة عامل مهم حين التحدث عن ثقافة ما، وتتعدى- أيضًا- كونها من مكوناتها، فهى وسـيلة التعبير عنها، وتمس بالتالى مختلف مكونات الثقافـة: الدين والأخلاق والجماليات.. إلخ. هكذا، حسب المفهوم العام لمعنى الثقافة.

هذه واحدة من النقاط المهمة حول التمسك بالقديم أيًّا كان، على أنه الأحق بالاتباع دون النظر إلى المسـتجدات والتحولات الناتجـة عن اكتساب الفرد لأدوات جديدة مسـتحدثة فى تناول الثقافــة وتداولها.

الصفحة السابعة عشر من العدد العشرين لحرف

إن مفهوم الثقافة العربية يؤكد أن اللغة العربية كانت الوسيلة الرئيسة للتواصل والتعبير عن الذات فى هذا المجتمع، الذى خلق تلك الثقافة، ومن المؤكد أن تسميتها بالثقافة العربية كان اشتقاقًا من اللغة إلى حد كبير كأى ثقافة أخرى.. فاللغة العربية لم تكن القشرة الخارجية لهذه الثقافة، بل إنها أعطت للثقافة سمتًا مميزًا لها، للدرجة التى يمكن معها عد هذه اللغة المكون الأساس للثقافة.

ومن المهم الآن أن نوضح فيما إذا تطرق الحديث إلى تاريخ ثقافة ما، لا بد أن اللغة هى الأصل فى قياس عمق تاريخ تناولها وتداولها. 

فمثلا، الثقافة العربية المصرية «٦٤١ م» تعد أقل عمقًا من الثقافة العربية فى شبه الجزيرة العربية وما حولها «٨٠٠ ق. م»، وبالتالى أكثر عمقًا وتجذرًا من شمال إفريقيا ودول المغرب العربى «بين عامى ٧٠٠ - ٧١٠ م». 

ولم تكن مصر والشمال الإفريقى فى حاجة لنقل اللغة أو استخدامها، وبالتالى ثقافتها، سوى لأنها اعتنقت الدين الإسلامى الذى فرض لغته على كل الأقطار غير العربية وقتئذ «الغزوة الإسلامية الأولى لبلاد المغرب العربى ٦٥٤ م، ثم الغزوة الثانية ٦٦٥ م، والاثنتان بقيادة معاوية بن حديج، بعدها فُتحت تونس، وأُنشئت القيروان فى عهد عقبة بن نافع ٦٧٠ م، ثم إخضاع بقية المغرب العربى بقيادة طارق بن زياد بين عامى ٧٠٠ - ٧١٠ م فى عهد موسى بن نصير، وبعدها تم فتح الأندلس ٧١١ م».

غلاف الكتاب

فبعد نجاح الإسلام ودولته العربية نجاحًا ملحوظًا فى وضع أشتات القبائل العربية على طريق الاندماج القومى وفق المضمون القومى الحضارى، الذى قدَّمه الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأن لا فرق بين عربى وأعجمى تحت الراية الواحدة، وبعد أن أثمر هذا الإنجاز ثمرات عظيمة وتاريخية، أنقذت العرب من القهر وجعلتهم قادة المنطقة، فالفتوحات التى أنجزها العرب قد شملت فى تلك المرحلة كلًا من العراق والشام، وسكان هذه البلاد هم من العرب، الذين كانوا يعيشون تحت حكم فارس أو الروم، ومن ثم فلقد كان فتح العرب المسلمين لبلادهم هذه يعتبر تحريرًا عربيًا إسلاميًا لبلاد عربية وأقوام عرب، لا شبهة فى طبيعته هذه على الإطلاق، وقد شارك عرب تلك البلاد الجيش الفاتح فى قتاله ضد حاميات الفرس وجيوش الروم، رغم اختلاف العقائد والديانات، ومن ثم لم تكن هناك مشكلة قومية خلقها الفتح أو تسبب فيها، ولم يظهر تناقض قومى بين سكانها وذويهم من الفاتحين.

أما وحين شمل الفتح العربى الإسلامى مصر وبلاد الشمال الإفريقى بداية من عام ٦٤١ م، لم تكن هذه البلاد عربية كالعراق والشام، كذلك الأمر بالنسبة لما تم فتحه من بلاد شرق العراق وفارس، فالفرس والساسانيون لم يكونوا عربًا. 

إضافة للفتوحات الجديدة فى الجنوب الأوروبى والوسط الإفريقى وشبه الجزيرة الهندية...إلخ. 

المد العربى الإسلامى كله، وهى شعوب تحمل ثقافات متعددة وخبرات معرفية كثيرة ومتباينة إضافة لما هو حضارى، وتشير المقدمات إلى أن الإسلام بوصفه دينًا قد سبق اللغة العربية وثقافتها فى عديد من الدول المسماة بالعربية الآن، ناهيك عن دول تشترك فقط تحت لواء الإسلام، ولغتها ما زالت على حالها، ولم تكن مجتمعاتها تحتاج اللغة إلا بسبب التدين وفهم صحيح الدين بلغته التى أُنزل بها، تبعه فهم مضاف للثقافة العربية، مع ما تحتفظ به هذه الدول والأقاليم من ثقافات أخرى خاصة ومغايرة، وبالتالى رفض ما لا يناسبها من ثقافة قادمة، وقبول ما يليق والملائم من عادات وسلوك، مع الاحتفاظ بالمتراكم المعرفى المتوارث.

فليست كل الثقافة العربية منذ نشأتها قد تم انتقالها بالكامل إلى كل بلاد الفتح العربى، فلماذا الإصرار على مفهوم الثقافة العربية ووحدتها، بما فى ذلك منتجاتها الفكرية والفلسفية، وفرضها فرض عين على كل الأقطار المسماة بالعربية، وعلى سبيل المثال لا الحصر الشعر الجاهلى؟!

ويظل السؤال باقيًا: هل كان هناك ما يُسمَّى بالثقافة العربية قبْل فتح الأقطار المحيطة وما سُمى بعدها بدولة الإسلام؟!

أمر آخر مهم للتداول قبل الدخول إلى تحليل المتغيِّر والمتحول، وهو هذا الخلط الملحوظ فى المفاهيم، واللعب على أحبال اللغة والاصطلاح والمشابهة فى كثير من الأحيان بين الثقافة والحضارة والتحضر: 

إن مفهوم الحضارة، على الرغم من بعض إيحاءاته البديهية، التى يتقبلها العقل من أول لحظة، لهو من أكثر المفاهيم صعوبة للتعريف الدقيق والمجرد، وهذا ما يفسر تعدد واختلاف التعاريف، التى تُعطى لمفهوم الحضارة من كاتب إلى آخر، وأول صعوبة تواجهنا هى ضرورة التفريق بين الثقافة والحضارة عند الشعوب، فالثقافة مفهوم ضيق إذا ما قورن بالحضارة بمفهومها الأكثر اتساعًا، فثقافة شعب من الشعوب هى أسلوب حياته فى جوانبها المادية والفكرية والنفسية.

وهكذا، فلكل شعب أو مجتمع ثقافته وأسلوبه الذى يعينه على الحياة، ومن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، القول بأن ثقافة شعب أكثر رقيًا أو أقل تقدمًا من شعب آخر، فالثقافة أمر نسبى وذاتى، وغير خاضع لأى معايير قياسية موضوعية، والثقافة تتطور، ولكنها لا تتقدم أو ترتقى، إذ تتبدل أشكالها وتتغير أساليبها من حال إلى حال، ومن مكان إلى مكان، بل إنها تتفاوت داخل المجتمع الواحد بين ريف وحضر.

ولأضرب مثلًا بالفنون، وهى نتاج طبيعى لمتراكم ثقافى لأى شعب، ففى الفن التشكيلى مثلًا، لا تستطيع القول بأن أعمال بيكاسو وماتيس ودالى أرقى من أعمال مايكل أنجلو ورفائيل، رغم الفارق الزمنى بينهم بما يقارب الخمسة قرون، أو أن أعمال محمود مختار وصلاح طاهر، أو حتى عدلى رزق الله القريب زمنيًا، أرقى من كل هؤلاء. وما زلنا نرى الفنون القديمة مما قبل التاريخ وننبهر بها، وفى الشعر كذلك، لا يستطيع عاقل القول بأن شعر التفعيلة، الذى بدأ فى أربعينيات القرن الماضى بنازك الملائكة وبدر شاكر السياب والفيتورى والجواهرى، ثم صلاح عبدالصبور وخليل حاوى والبياتى وسعدى يوسف وأحمد عبدالمعطى حجازى، أكثر رقيًّا من شعراء الجاهلية امرؤ القيس وطرفة بن العبد والحارث بن حلزة اليشكرى وعمر بن كلثوم، أو أن قصيدة النثر وشعراءها أمثال أدونيس ومحمد الماغوط وأنسى الحاج وعبدالمنعم رمضان وتوفيق صايغ وعباس بيضون وحلمى سالم وفريد أبوسعدة، أكثر رقيًا من هؤلاء جميعًا، وكل ما يمكننا قوله هو بالحداثة التاريخية وما يضاف من معارف ومدركات فقط.

أما الحضارة، فبالإضافة إلى كونها تشمل الثقافة، فإنها تشمل أيضًا جوانب من حياة الشعوب قابلة للتقدم والارتقاء، كما أنها قابلة للركود والاضمحلال، وبمعنى آخر، فإن الحضارة بجانبيها الفكرى والمادى هى نتاج أو حصيلة صراع الإنسان والمجتمع فى معركة البقاء والارتقاء، من خلال استخدام العقل البشرى ومنجزاته المادية وغير المادية، فيجب أن ينجح الإنسان والمجتمع أولًا فى معركة البقاء وصراعه مع الطبيعة، لكن الهدف الآخر من الحضارة ليس البقاء فقط؛ وإنما الارتقاء بالإنسان والمجتمع البشرى إلى أعلى درجات الإنسانية.

فمـــــا يعيـــــــــب الحضـــــارة العصـــــــــرية بمقومــــــــاتها التكنولوجية، إذا ما استخدمت فى مجتمع ثقافته الشعبية أكل صرصار الأرض أو الجراد والكلاب والقطط؟ 

إن ما يميز حضارة عن أخرى، أو عن المجتمعات غير المتحضرة، هو خصوصية النسيج، الذى يجمع نوعيات ومستويات النشاطات والعلاقات الاجتماعية والسياسية والفكرية والوجدانية والاقتصادية، التى تتصف بها حضارة ما أو مجتمع بشرى معيَّن، والخصوصية هذه لا تقوم فقط على درجة العقلانية المستخدمة فقط، وإنما على درجة العقل المبدع المستخدم فى صـراع الذات مع الطبيعة، ودرجة الوجدان المصاحب للعقل معًا، وكلها أشياء ومكونات لما يسمى بمفهوم الثقافة. 

وإذا كان الرقى أو التقدم الحضارى يشمل دومًا نموًا ثقافيًا من حيث الجزء المادى من الحضارة؛ فإن النمو الثقافى لا يشمل بالضرورة، أو لا يترتب عليه، رقى حضارى؛ فالعرب مثلًا عرفوا درجات عالية من الإنتاج الشعرى، كمنتج ثقافى، فى أيام الجاهلية، بلغت ذروتها مع شعراء أمثال الشنفرى «ثابت بن أوس الأزدى»، والمهلهل «عدى بن ربيعة التغلبى» وغيرهما، إلا أنهم لم يكونوا متحضرين حتى بمقاييس عصرهم، إذ أنه لا حضارة فى التاريخ قبل الثورة الزراعية، التى ترتب عليها وجود المجتمع المستقر والقائم على ركائز مادية واقتصادية قوية، تسمح للإنسان بأن يرتقى بعلاقاته الاجتماعية والسـياسية والاقتصادية والروحية.

لذلك نقول بأن الدول المتخلفة حضاريًا، بمقياس عصرنا الذى نعيش فيه، هى الدول التى لا تزال على مستوى الحضارة الزراعية وقيمها، ولا فرق إن كانت تركز كل اهتماماتها على الزراعة، أو لا تنتج حاجتها من الغذاء أصلًا.

والشعوب العربية جميعها، من وجهة النظر العلمية، هى فى الوقت الحاضر من دول التخلف حضاريًا؛ لأنها تسير بقيم الزراعة، أو بقيم البداوة وثقافتها، فى وقت تواجه فيه حضارة الغرب القائمة على العلم والتقنيات الحديثة والتكنولوجيا، وغارقة فى استعمال منجزه دون أن تبادله بمنجز لها.

وإذا كان الفكر المبدع هو الركيزة الأساس للتطور الحضاري؛ فإن غيابه يشكل جوهر التخلف، وتبعًا لذلك، فإن العقل المبدع هو المحرك الوحيد للفكر المبدع الخلاق، والإبداع الفكرى يقوم على صهر أفكار الماضى والحاضر، وعلى خلق مجموعة من البدائل أو الإمكانات الفكرية، التى تساعد على تطور الإنسان والمجتمع. 

هو حق الاختلاف بلا شك. 

وانطلاقًا من هذه المعايير، أعجب كل العجب من دعوة الاستمساك بالثقافة العربية الخام، وفرضها فرض عين على كل فرد فى كل بقعة من بقع العالم العربى الجغرافية، دون النظر إلى اختلاف تاريخ ثقافى، وتراكم معرفى ضارب جذوره، وينتقل بالتوارث عبر الأجيال، أو يستكشف دون حاجة لجهد ويلقى ترحيبًا وقبولًا داخل الجماعة، وأعجب كذلك من ندرة إعطاء العقل الحركة وحرية التجديد، والبحث والنظر فيما حوله من مستجدات وعوالم مغايرة متغيرة، كل حسب تراكمه المعرفى.

ويزداد العجب حين تعلو، إلى حد الصراخ، مقولات لا معنى لها، ولا هى موجودة أصلًا على أرضية الواقع المعاش، حول وحدة التاريخ والمصير والثقافة، إذ كيف أميت ما يزيد على السبعة آلاف سنة من عمرى، كما هو شائع، فى سبيل إحياء ألف وأربعمائة سنة هى عمر العربية فى دارى، والحقيقة تخالف ذلك؟!

أو.. كيف أميت، على أقل تقدير، ألف وأربعمائة سنة دون ارتقاء وتجديد لأظل ساكنًا راقدًا هناك؟! ولم أكن معنيًّا من الأسـاس بالثقافة العربية «بمفهومها الخام» قدر عنايتى بلغتها؟! ولولا إيمانى بالقرآن ما اتخذت اللغة العربية طريقًا.

وعلى فرضية قبول الثقافة العربية كلها بعد الفتح، فلماذا علىَّ بقبول ما قبله والتمسك به وترك ما قبلى من ثقافة؟! 

ولماذا علىَّ احتمال الموروث من الشعر الجاهلى مثلًا؟ والتأسى به دونما التفات إلى موروثى الشعرى أو النثرى الجاهلى وحتى الدينى ما قبل الفتح، إن صح التعبير؟! 

وتعالوا نشير إلى مقدمات بديهية فى الثقافة وطرقها ومكوناتها وكيفية تبادلها، مفندين التابع والمتبوع، ثم العروج إلى متغيرات الثقافة وتحولاتها فى واقعنا المصرى، ونتائج هذه المتغيرات والتحولات على إنتاجنا الثقافى والفنى، مقارنة بما أبدعه الأقدمون، كذلك النظر فى أثر التراكم المعرفى والمدرك المتوارث على المجتمع المصرى كافة، وما له من خصوصية ثقافية. 

كاتب وفنان تشكيلى