الأربعاء 23 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

إيقاعات وشعائر.. كيف تعبد الله بالموسيقى؟

إيقاعات وشعائر
إيقاعات وشعائر

- ترتيب الكلمات والعبارات ونظمها فى القرآن تستشعر فيه انسيابًا ووحدة وانسجامًا

- القارئ الواحد قد يقرأ الآية الواحدة بأكثر من مقام فى أحوال مختلفة وكل قراءة تُحدث أثرًا فى الروح

- كانت المدرسة الأكثر تفردًا هى المدرسة المصرية فى التلاوة

- حسن الصوت بالقرآن مطلوب فإن لم يكن حسنًا فليحسنه ما استطاع

- المطرب محمد سليم أول من سجل القرآن الكريم على أسطوانة

- قد يؤدى اللحن المحدد للقرآن إلى ضعف التأثر الوجدانى به

- شكلت الموسيقى القالب الأمثل الذى يحفظ أذكار المتصوفة ويستوعبها

- الأثر العثمانى طبع بصماته على انتشار الموسيقى الصوفية فى المشرق العربى

ربما يبدو الأمر تصديرًا لجدلية قديمة متجددة حول علاقة الدين بالموسيقى والغناء لكن حقيقة الحال أن هذا السعى قد يكون محاولة لإزالة الالتباس ولبعث قراءة جديدة عبر النصوص المقدسة والممارسة الشعائرية.

إذ إنه مقابل رؤية المدرسة الدينية الكلاسيكية التى تُحرِّم الممارسة الموسيقية على إطلاقها، يأتى الإيقاع ليبسط سلطانه على أدق خصائص الدين، وليؤكد وجوده واستعلاءه على كل النظريات الفقهية، فمن تجويد القرآن إلى الأذان وحتى تكبيرات صلاة العيد والأنغام التى تُعزف فى حفلات الذكر وغيرها من المناسبات، كانت الموسيقى القاسم المشترك فى معظم الطقوس.

ولطالما كان للموسيقى حضور مهم وأساسى فى الفعل التعبدى بالديانات السماوية غير الإسلام، يضاف إلى ذلك أن الغناء كان منذ الزمن القديم عنصرًا لتبليغ التقاليد الدينية، وكان من الأنبياء من يعتمد على صوته الجميل فى جذب الناس، ففى الحديث قوله صلى الله عليه وسلم لأبى موسى الأشعرى لحسن صوته: (لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد) رواه البخارى، َوكان داود عليه السلام قد أُعطى حسن الصوت حتى كان يستمع لقراءته إذا قرأ الزبور الجن والإنس والوحش والطير، وكان بنو إسرائيل يجتمعون فيستمعون. 

كما أن قارئ التوراة للوهلة الأولى قد يعتقد أنها وضعت لإبراز مكانة الموسيقى، وتضمن العهد القديم نصوصًا عديدة لإبراز قيمة الموسيقى القوية فى الوصول إلى الله من خلال التعبد بها ومناجاته، فعلى ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻤﺜﺎل ﻧﺠﺪ فى ﺳِﻔْﺮ اﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﻓﻘﺮات ﺗﻘﻮل: «واﺳﻢ أﺧﻴﻪ ﻳﻮﺑﺎل اﻟﺬى ﻛﺎن أﺑًا ﻟﻜﻞ ﺿﺎرب ﺑﺎﻟﻌﻮد واﻟﻤﺰﻣﺎر». 

ولا تزال الكنائس المسيحية منذ نشأتها الأولى عامرة بالأناشيد، وللكنائس الفرنسية تأثير فى الموسيقى والغناء، يعرفه من يهتم باللوحات الغنائية، وقد جمعت عددًا وفيرًا من أناشيد الرهبان، لا سيما الأناشيد المعروفة بالجريجوارية. 

هذا الحضور إلى جانب فعل الموسيقى بالروح وكونها خطابًا عالميًا امتدّ فى عمق الحضارات القديمة والأديان السماوية هو ما يقودنى إلى إعادة الطرح، فالإسلام لم يكن يومًا دينًا عابسًا مقطب الجبين يحتقر الحياة واستمتاع الإنسان بما خلقه الله.

الشيخ محمد رفعت

«موسيقى القرآن».. الإيقاع والنظم بالنص المقدس

«إن من البيان لسحرًا».. فما يحدث بشكل عفوى حين يشرع أى مسلم بقراءة القرآن هو أنه يمنحه نغمًا خاصًا وليد اللحظة، والنظم بالآيات الكريمة يمكن أن نسميه الأثر الوجدانى والذى يمثل انعاكسًا لمذاقه الروحى، وما يوافق طبعه ومزاجه النفسى، ومدى تفاعله مع اللفظة القرآنية.

هذه الصبغة الوجدانية هى فى حقيقتها ظاهرة بشرية فطرية، عرفت منذ أن ظهر الإنسان على وجه البسيطة، حيث أودعها الله فيه، والأصل فيها يعود إلى أن الأصوات بما لها من دلالات متنوعة هى موسيقى ربانية فلكل طبقة نغمة ورنة، وإيقاع ومقام.

ولأن القرآن وحده له مفتاح شفرة الوجدان، فإن ترتيب الكلمات والعبارات ونظمها فى القرآن، تستشعر فيه انسيابًا، ووحدة وانسجامًا، وتآلفًا، لا نظير له ولا مثيل، بل إن حروفه وكلماته من حيث امتدادها الصوتى تسير وفق لحن وموسيقى يتجلى بها الإعجاز البيانى للقرآن بشكل دقيق ومؤثر. وهو ما رصده مصطفى محمود فى كتابه «القرآن.. محاولة لفهم عصرى» إذ يقول: أحار فى وصف الشعور الذى تلقيت به أول عبارة من القرآن لا أجد كلمات تشرح هذا النوع من الاستقبال النفسى الغامض، وكيف كانت الكلمات تعود من تلقاء نفسها فتراود سمعى وذاكرتى وأنا وحدى، فأرانى أردد بلا صوت «والضحى والليل إذا سجى»، وتقتحم على العبارة القرآنية سكون طفولتى فأتذكر فى ظلام الليل إلقاء الشيخ وهو يردد «وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى».. نعم لقد اكتشفت منذ تلك الطفولة البعيدة دون أن أدرى حكاية الموسيقى الداخلية الباطنة فى العبارة القرآنية.

ويضيف: وهذا سر من أعمق الأسرار فى التركيب القرآنى، إنه ليس بالشعر ولا بالنثر ولا بالكلام المسجوع وإنما هو معمار خاص من الألفاظ صفت بطريقة تكشف عن الموسيقى الباطنة فيها.. الموسيقى الباطنة من أسرار المعمار القرآنى لا يشاركه فيها أى تركيب أدبى، كل عبارة بنيان موسيقى قائم بذاته تنبع فيه الموسيقى من داخل الكلمات ومن ورائها ومن بينها بطريقة محيرة لا تدرى كيف تتم، لكن الموسيقى الباطنية ليست هى كل ما انفردت به العبارة القرآنية.

للشىء نفسه ذهب مصطفى صادق الرافعى، فى كتابه «إعجاز القرآن»، حيث قال: «حين قرئ القرآن على العربى أدرك أن حروف كل كلمة منه وكلمات كل جملة وعبارة منه تحمل فى ذاتها نغمة وإيقاعًا عاليًا، بحيث إنها فى نظمها البديع داخل القرآن، وفى شكل وضعها إلى جانب بعضها البعض، كأنها فى نغماتها «قطعة موسيقية»، تصعد فيها النغمة وتنزل بشكل منسجم يسرى فى الروح كأنه البلسم. إن كلّ من مُنَّ عليه من طرف الرحمن باستشعار بعض أسرار موسيقى القرآن وفلسفتها يقرّ معترفًا بأن لا شىء فى الوجود مثل القرآن، بكلمات تنساب فى انسجامها مع بعضها البعض.

وتنطوى جاذبية القرآن فى «السبك»، «النظم»، و«الموسيقى»، وهى العناصر الأساسية التى تشكّل «البنية السحرية والجاذبة» له وفق دراسة «موسيقى القرآن، النظم والجاذبية» لـ«محمد هادى معرفة». إذ يتميز هذا الثلاثى بتفاعله المتداخل، بحيث لا يمكن فصل أحدها عن الآخر، ولا يمكن التحدث عن دور كل منها بشكل منفصل فى هذه الجاذبية، وبينما يعكس السبك الصياغة والتشكيل الفنى للكلام، حيث جاء القرآن بصياغة جديدة تجمع بين مزايا الشعر والسجع دون أن يكون محصورًا بهما، يأتى النظم ليعبر عن الترتيب الدقيق للكلمات والجمل، من خلال الربط بين الحروف فى الكلمة، وبين الكلمات فى الجملة، وبين الجمل فى الآية وفى السورة، مما يخلق إيقاعًا متناغمًا بشكل يراعى التناسب بينها، بلحاظ النغمة الصوتية، وبلحاظ ما تحمله الكلمات من تراتبية الخصوصيات فى المعنى والشكل.

أما الموسيقى، فتشير إلى الألحان والنغمات فى الكلمات والعبارات، التى تساعد فى تحقيق التناغم بين العناصر الأخرى، والتى أوجدت الانسجام بين السبك والنظم. فصياغة الجمل والعبارات فى القرآن، مع مراعاة النظم المعجز فى النص المقدس، أوجدت نغمات وإيقاعات صوتية هى الموسيقى الروحية بالقرآن.

وصية حامل النص وصاحب الرسالة انتصرت لصوت الفطرة وموسيقاه الداخلية، فجاءت الأحاديث النبوية محفزة لإشراقاته الروحية، إذ يقول من لم ينطق عن الهوى «ليس منّا من لم يتغنَّ بالقرآن»، وأورد النسائى وأبو داود عن البراء بن عازب قوله صلى الله عليه وسلم: «زيّنوا القرآن بأصواتكم»، وأورد البخارى ومسلم عن أبى هريرة أيضًا: «ما أذن الله ما أذن لنبى حسن الصوت يتغنّى بالقرآن».

الشيخ على محمود

كيف حفز الإيقاع السماوى المقامات الموسيقية؟

ظهرت حالة الاقتران بين الموسيقى والنسق القرآنى فى مدراس التجويد والتلاوة، وحفز الإيقاع السماوى الدراسات الصوتية بنسب متفاوتة فى تلك المباحث التى انطلقت من النّص المقدس كجهود الرمانى والباقلانى والخفاجى والجرجانى، تضاف إليها جهود علماء القراءات فى وضعهم المصطلحات الخاصة بالأداء الصوتى للقرآن الكريم.

وصار أمرًا مقضيًا على قارئ القرآن أن يكون على معرفة تامة بقواعد التجويد، وفنّ القراءة، وأن يقف على أسرارها؛ حتى يعمل على إبراز الإعجاز البيانى للقرآن بموسيقاه الساحرة وبشكل يجذب روح المستمع إليه، ويجعلها فى قبضة الآيات والعبارات القرآنية، لتتجرد عن عالم المادة إلى عالم الروح والمعنى. 

من ثم كانت المدرسة الأكثر تفردًا هى المدرسة المصرية فى التلاوة على الرغم من أن أسلوب ترتيل القرآن يخضع إلى عدة طرائق قرائية لها أحكامها وخصوصياتها، ومن تلك المدارس المدرسة العراقية المرتبطة بأصول المقام العراقى، ومدرسة المغرب العربى العريقة التى تعتمد فى تنغيمها على تراث موسيقى النوبة الأندلسية، ومدرسة الحجاز بخصوصيتها المعروفة فى التلاوة والإنشاد التى يغلب على تنغيمها سلم مقام الحجاز وتحولاته.

بيد أن المدرسة المصرية نجحت فى احتكار دولة التلاوة بامتياز، وهو ما تترجمه المقولة الشعبية «أنزل القرآن فى مكة وقرئ فى مصر»، حيث أخضع القراء ثمانية مقامات موسيقية للقرآن، يمكن اختصارها فى كلمة «صنع بسحرك»، وهى: الصبا والنهاوند والعجم والبياتى والسيكاه والحجاز والراست والكورد. وتنقسم تلك المقامات إلى شرقية مثل: الراست والبياتى والسيكاه والصبا، ومقامات غربية مثل: العجم والنهاوند والكورد، ولكل مقام دلالة معينة مثل الراست الذى يوحى بالعظمة والسيكاه الذى يوحى بالفرح والصبا يوحى بالحزن.

لكن يبقى غنيًا عن القول إن القارئ الواحد قد يقرأ الآية الواحدة بأكثر من مقام فى أحوال مختلفة، وكل قراءة تُحدث أثرًا فى الروح والوجدان بشكل مغاير لنظريتها ليصبح الهدف من التلاوة توظيف المقام للمعنى، على سبيل المثال يعرف الشيخ محمد صديق المنشاوى بنبرته الحزينة فيشتهر بمقام الصبا، والراحل محمود خليل الحصرى يعرف بالنهاوند، فيما يجمع آخرون بين أكثر من مقام فى تلاوة واحدة ويتنقل بين المقام والآخر برشاقة، وهناك أيضًا الشيخ على محمود، مؤسس دولة التلاوة المصرية، قالوا عنه من عظم إلمامه بالموسيقى، كان يؤذن يوم الجمعة فى مسجد الحسين بالقاهرة القديمة كل أسبوع أذانًا على مقام موسيقى لا يكرره إلا بعد عام.

ومع أن السيرة المحمدية تحوى إشارات إلى أن القراءة بالألحان بدأت منذ عهد النبى صلى الله عليه وسلم، حين استمع إلى قراءة أبى موسى الأشعرى وأعجبته، قال له: «لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود»، متفق عليه، وأخرجه أبو يعلى من طريق سعيد بن أبى بردة عن أبيه وزاد فيه: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرًا، والتحبير أى التحسين.

يذهب بعض المؤرخين إلى أن ارتباط المقامات الصوتية بالقرآن هو فن نشأ متأخرًا، وأن القراءة بالألحان حدثت وانتشرت فى أواخر العصر الأموى، حيث دخل الغناء الفارسى وتشايع بألحانه عند بعض المسلمين، ثم تسامى بألحانه إلى القرآن الكريم، فكان ذلك أول ظهوره قال الطرطوشى: «فأما أصحاب الألحان فإنما حدثوا فى القرن الرابع منهم محمد بن سعيد صاحب الألحان».

أصحاب هذا المسار يستدلون على صحة هذا القول من أسماء المقامات ذاتها إذ إن «الرست» كلمة فارسية تعنى الاستقامة، ويفضّل أهل المقامات هذا المقام عند تلاوة الآيات ذات الطابع القصصى أو التشريعى، أما مقام النهاوند فينتسب إلى مدينة «نهاوند» الإيرانية، فى حين أن السيكا اسم فارسى (سه گاه) بمعنى ثلاث مراحل، ومقام الصبا مرده كلمة فارسية أيضًا، ومقام الحجاز هو الوحيد من أصل عربى نُسب إلى بلاد الحجاز العربية.

على الجانب الآخر توثق بعض المرويات أن أول من رتل القرآن بالمقامات وبحث توسيع الدرجات الصوتية هو عبيدالله ابن أبى بكرة الثقفى، فى عام ٣٢هـ، إذ يذكر خير الدين الزركلى فى كتابه الأعلام الجزء الرابع يعرّف الثقفى بأنه عبيدالله بن أبى بكرة الثقفى ولد ١٤ وتوفى ٧٩هـ (٦٣٥ - ٦٩٨م)، وهو أول من قرأ القرآن بالألحان، وهو تابعى وأبوه أحد رواة الحديث.

ويقال إن ابن أبى بكرة لاحظ احتياج الناس إلى معرفة الفرق بين الله أكبر التى تتكرر فى الأذان وفى الصلاة، من هنا ظهر مقام الحجاز، بعد أن حول درجات الصوت إلى سبعة والثامنة هى الجواب.

كما شرع عبيدالله فى تكوين جمل نغمية، يسمى هذا نغم الحزن، وذاك نغم الإنذار، وذا نغم الفرح، وهذا نغم الندم وهكذا، من هنا ارتبط لفظ المقام بالنغم، إذ إن المقام ورد فى القرآن بمعنيين إما درجة أو وصف حالة، ومن هنا جاء وصف ذلك النغم بالمقام، باعتبار أنه وصف حالة، ثم رحل الثقفى إلى مصر.

مسارات الاشتباك مع القرآن موسيقيًا 

الصعيد الفقهى اشتبك مبكرًا مع حالة ارتباط المقامات بالقرآن، وقد اختلف العلماء فى حكم استعمالها فى تلاوة القرآن الكريم وجاء فى [حاشية الرملى الكبير على أسنى المطالب شرح روض الطالب ٤/ ٣٤٤]: «فأما القراءة بالألحان فأباحها قوم وحظرها آخرون، واختار الشافعى التفصيل، وأنها إن كانت بألحان لا تغير الحروف عن نظمها جاز، وإن غيرت الحروف إلى الزيادة فيها لم تجز، وقال الدارمى: القراءة بالألحان مستحبة ما لم يزل حرفًا عن حركته أو يسقط فإن ذلك محرم».

يقول الحافظ ابن حجر: «الذى يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب، فإن لم يكن حسنًا فليحسنه ما استطاع- كما قال ابن أبى مليكة أحد رواة الحديث-، وقد أخرج ذلك عنه أبوداود بإسناد صحيح، ومن جملة تحسينه أن يراعى فيه قوانين النغم؛ فإن الحسن الصوت يزداد حسنًا بذلك، وإن خرج عنها أثر ذلك فى حسنه، وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها، ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن خرج عنها لم يفِ تحسين الصوت بقبح الأداء، ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام؛ لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعى الأداء، فإن وجد من يراعيهما معًا فلا شكّ فى أنه أرجح من غيره؛ لأنه يأتى بالمطلوب من تحسين الصوت، ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء» [فتح البارى شرح صحيح البخارى ٩ / ٧٢].

ويرى ابن كثير فى [تفسير القرآن العظيم ١/ ٦٤]: «والغرض أن المطلوب شرعًا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة، فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية والقانون الموسيقائى فالقرآن ينزه عن هذا ويُجلّ، ويعظم أن يسلك فى أدائه هذا المذهب».

إن مسار الاشتباك مع القرآن موسيقيًا لا ينفصل عن المناوشات الفقهية حول الموسيقى والغناء، ومع أن الذكر الحكيم لم يحتو على آية واحدة تحرم الموسيقى أو تكن الكراهة للغناء والقاعدة الشرعية تقول إن الأصل فى الأشياء الإباحة، ما لم يقم دليل يحرمها، نجد أنفسنا بين رؤيتين تتردد أقوالهما بين التحريم المطلق والإباحة الجزئية، التحريم الشامل لسماع كل ما يصدر عن الآلات الموسيقية، وبين التحريم الجزئى الذى يبيح بعض الآلات ويحرّم أخرى، وبين من يفرّق فى حكم الغناء مع الموسيقى، والغناء بلا موسيقى.

والواقع أن الاستدلالات الفقهية على اتساع حيزها وصعوبة حصرها لا يوجد بها دليل واحد صحيح وصريح فى تحريم المعازف لكونها أصوات تصدر عن آلات، كما لا سند فى تحريم آلات العزف لكونها آلات بذاتها. كما لا يوجد دليل واحد صحيح وصريح فى تحريم الغناء لذاته وكل ما استند إليه المحرمون من آيات لم تتطرق إلى الموسيقى والغناء بشكل صريح وإنما تحدث معظمها عن «لهو الحديث».

يضاف إلى ذلك أنّ كل ما ورد من النصوص حول الموسيقى فهى إما: صحيحة لكن لا دلالة فيها على التحريم المطلق وقد ورد تسعة عشر حديثًا تنهى عن الغناء والمعازف أو تحرّمها، وهذه الأحاديث علاوة على أنّها تعارض الأحاديث الصحيحة المذكورة، لم يسلم منها حديث واحد من القدح برواته وفى بعض الأحاديث والفتاوى ما يحرّم الغناء ليس لذاته ولعينه، وإنمّا لما يُقرن به من المحرمات، كمجالس الخمر، أو لصدّ الناس عن القرآن.

بل إن بعضها قد تبرهن على الإباحة، ويعضد ذلك ما ورد من آثار تفيد بوجود السماع فى بيت النبى صلى الله عليه وسلم. من ذلك أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِى اللَّهُ عنْه، دَخَلَ على عائشة وعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فى أيَّامِ مِنَى تُدَفِّفَانِ، وتَضْرِبَانِ، والنبىُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتَغَشٍّ بثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُما أبوبَكْرٍ، فَكَشَفَ النبىُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن وجْهِهِ، فَقالَ: دَعْهُما يا أبَا بَكْرٍ، فإنَّهَا أيَّامُ عِيدٍ. صحيح البخارى.

علاوة على أن الذهاب إلى التفريق بين المعازف كإباحة الدف والطبول وتحريم غيرهما لا يصح دون ورود دليل قاطع يحرمه، والرسول صلى الله عليه وسلم أباح الدف كون الجاريتين كانتا تضربان عليه فى تلك اللحظة، بما يعنى أن الإباحة ربما لم تكن مشروطة بنوع الآلة المستخدمة فى العزف وبما يفيد أيضًا أن إباحة بعضها بدليل صريح لا يوجب حرمة الآخر إلا بتصريح قطعى الدلالة.

ويقول تعالى فى سورة الجمعة «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِى الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» حيث اقترن ذكر اللهو والتجارة فى الآية الكريمة والبيع بمفرده ليس محرمًا إلا إذا شغل العبد عن أداء الفرائض والواجبات وبالقياس اللهو أيضًا مباحًا شريطة ألا يفضى إلى التقصير فى العبادات.

ومن ثمَّ فإنّه بناء على هذه القواعد فإن الأصل فى حكم الموسيقى أن يرتبط بها ما يؤدى إلى معصية أو يفوّت المرء بها طاعة فحينها يتغير الحكم بتغير الحال.

قراءة القرآن

تلحين القرآن.. محاولات الفن لتطويع الذكر

ومع ذلك قد تبدو مسارات الحذر ضرورة عندما يتعلق الأمر بمحاولات الفن تطويع النص المقدس أو فرض سطوته عليه، وهى المحاولات التى شقت طريقها مبكرًا وعرفت بـ«تلحين القرآن الكريم».

إذ كان الملحن الشيخ زكريا أحمد يعتبر التجويد الذى لقنه لأم كلثوم لتلاوة بعض الآيات من سورة إبراهيم، التى قدمتها فى فيلم «سلامة» (١٩٤٥)، بمثابة لحن أعدّه لتلك الآيات، وكذلك رأى محمد عبدالوهاب الأمر نفسه فى تلقينه المطربة وردة الجزائرية بعض الآيات من سورة آل عمران، قدمتها فى فيلم «ألمظ وعبده الحامولى» (١٩٦٢) وكان محمد عبدالوهاب من بين من تبنوا الدعوة إلى تلحين القرآن، وقدمته مجلة الهلال فى تحقيق صحفى عام ١٩٧٠، على أنه أبرز وآخر من رفع لواء الفكرة واحتضنها وله فيها محاولات لم تتداول، فقد سجل بصوته سورة الضحى.

محاولات عبدالوهاب وغيره سبقتها تجارب أخرى من أهل الطرب تعود إلى عهد الخديو إسماعيل، حيث يُنقل عن الباحث الفرنسى فريدريك لاغرنج المتخصص فى شئون الغناء المصرى، أنّ المطرب محمد سليم أول من سجل القرآن الكريم على أسطوانة لحساب شركة أوديون عام ١٩٠٦، وأنه اضطر لتسجيله ليلًا فى أحد المنازل النائية بأطراف المدينة. وتبعه الشيخ حسن خضر على الفلاح، وكلاهما شيخان مقرئان اتجها للغناء فيما بعد، فيما كانت ودودة المنيلاوية أول امرأة سجلت القرآن على أسطوانة، تبعتها فى تسجيل القرآن أمينة العراقية.

فضلًا عن أن عدد المقرئات اللواتى قصرن أصواتهن على التلاوة فقط ضئيل جدًا، حيث شاع خلال تلك الفترة تقديمهن الغناء بجانب التلاوة، ومن بين هؤلاء الفنانات الشهيرات كانت كريمة العدلية ومنيرة عبده وسكينة حسن. على سبيل المثال، قدمت سكينة حسن الإنشاد الدينى والغناء العاطفى بالتزامن مع تلاوتها وتسجيلها القرآن الكريم على أسطوانات، أما منيرة عبده، والتى كانت أول امرأة ترتل القرآن فى الإذاعة المصرية الحكومية عام ١٩٣٦، فقد سمحت لها الإذاعة بتقديم وصلة غناء عاطفى بعد ثلاثة أيام فقط من تقديمها تلاوتها الأولى فى العاشرة من صباح يوم الخامس من أبريل ١٩٣٦، وكانت كريمة العدلية أيضًا تقدم قوالب أعمال غنائية فى قالب الدور والموال والطقطوقة والقصيد بجانب التلاوات القرآنية التى كانت تبث لها على الإذاعة.

ربما كانت المبالغة بالترتيل هى السبب فى ظهور فكرة تلحين القرآن الكريم، والتى أتحفظ عليها كونها قد تدفع الموسيقى إلى أن يَضرب صفحًا عن القواعد المرعية فى التلاوة، فضلًا عن سَجن النص فى قالب نغمى بعينه، مما قد يُضعف التأثير الوجدانى له.

وهو ما تعضده دراسة إشكالية القرآن والموسيقى: حضارة النغم الدينى لـ«محمد سالم عبادة»، حيث أشار إلى دراسة لمجموعة من الباحثين فى جامعة أرهوس الدنماركية، تتعلق بنتائج الفحص بالرنين المغناطيسى الوظيفى لمراكز المخ المسئولة عن المشاعر خلال الاستماع إلى مقطوعات فى السلم الصغير وتآلفات وتنافرات نغمية مختلفة، لدى عينة بحث مكونة من موسيقيين وغير موسيقيين.

المثير أن من نتائج الدراسة أن التأثر الوجدانى بالمقطوعات المستمَعَة كان أقوى فى حالة انعدام نية تعلُّم التتابعات النغمية وتذكُّرها، وهو ما ينعكس بوضوح على قضية تلحين القرآن، إذ قد يؤدى اللحن المحدد للقرآن إلى ضعف التأثر الوجدانى به، لأن اللحن يقدَّم بصفته منجَزًا فنيًا قابلًا لتكرار الأداء عددًا لا نهائى من المرات، وبالتالى يوجِد اللحن عَقدًا ضمنيًا مع المتلقين، بمقتضاه يعملون واعين وغير واعين على حفظ اللحن.

الصوفية

الموسيقى الصوفية.. حين يمتزج الإيقاع بالعشق فى قلوب العارفين

فى مقابل الموقف المتشنج من الموسيقى لدى معظم المذاهب الإسلامية انفردت التجربة الدينيّة الصوفيّة بتوظيفها، واعتبرتها وسيلة للامتزاج بروحية الخالق وملكوته، وبما أن التجربة الصوفية تركز على الروحانيات والتواصل المباشر مع الله، فإنها تمنح الممارسين الفرصة لاستخدام الموسيقى والرقص كوسيلة للتأمل والوصول إلى الحالة الروحية المرغوبة، ولأن التصوّف الإسلامى يقوم بشكل أساسى على التجارب الفردية، مما يجعل مفاهيمه غير قابلة للاكتساب من خلال الدراسة والتحصيل العقلى. بالتالى، فإن الطريقة الأنسب للتحقق من هذه المفاهيم يمر عبر الممارسة وتجربة السلوك، مما يفضى إلى تغيير فى نظرة الإنسان للحياة والوجود، هذه التجربة تحول الرؤية المحدودة للوجود، التى ترى الفروق الوجودية كحقائق واقعية، إلى رؤية تنظر إلى الوجود بشكل أكثر شمولية، حيث يُعتبر الإطلاق فى الذات هو المرجع الأساسى.

إذًا لم تكُن الموسيقى الهدف، بل كانت وسيلة للاندماج بروحية الخالق وملكوته، كانت الطريقة التى استخدمها الصوفية لجذب الآخرين إلى تجربة روحية متكاملة، حيث يعيشون حالة وجدانية. تمكنهم من التقرب من الله، فباستماعهم يتحررون من روابط العالم الدنيوى وينعتقون منه ليعيشوا فى اتصال مباشر مع العالم الروحى، هذا الاتصال وطد العلاقة بين الصوفية والموسيقى عبر الزمن، لتصبح نوعًا خاصًا يتطلب مهارة عالية وتفانيًا للتعبير عن الروحانية والتواصل الإلهى.

وكما شكلت الموسيقى القالب الأمثل الذى يحفظ أذكار المتصوفة ويستوعبها، لعبت طقوس السماع لديهم دورًا بارزًا فى المحافظة على الموسيقى العربية المشرقية فقد ساهمت فى حفظ الرصيد الأكبر منها من المقامات المختلفة، إلى السماعيّات والبشارف وغيرها من القوالب الموسيقيّة المشرقيّة الأصيلة، التى لم تكن لتتبلورَ وتَصِلَنا على الحال الفريدة التى وصلتنا عليها لولا السماع والغناء الصوفِيَّانِ.

وفقًا للباحثة الأكاديمية والموسيقية إسراء المرسومى، فإن نشأة الموسيقى الصوفية لم تكن عربية حيث يُذكر أن جذورها الأولى تعود إلى أفغانستان، وتُفترض أنها نشأت أيضًا فى المغرب وباكستان وتركيا، كل مجموعة من المتصوفين لديها دلائل تدعم أن نشأة هذه الموسيقى تعود إليهم، لكن بشكل عام يمكن التأكيد على أن المناشئ الرئيسية لهذه الموسيقى تتركز فى الأربع مناطق المذكورة.

وتسبق بعض ألوان الموسيقى الصوفية فى نشأتها وجود الدولة العثمانية فقد تأسست الطريقة المولوية بواسطة مولانا جلال الدين الرومى فى القرن الثالث عشر الميلادى «١٢٠٧-١٢٧٣م» فى المقابل، يُقال إن الحاج بكداش ولى النيسابورى هو مؤسس الطريقة البكداشية، وقد توفى فى سنة ١٢٧٠م.

لكن الأثر العثمانى طبع بصماته على انتشار الموسيقى الصوفية فى المشرق العربى بفعل الاحتلال التركى لبعض المناطق، خاصة مصر والعراق وبلاد الشام، وازدهرت فى أنحاء الدولة حينها مدارس السماع الصوفى كالمولوية «الدراويش» والبكداشية والخلوتية والجلوتية والجلشنية والعلوية، وجميعها طرق أنتجت موسيقى روحيَّة فيها قدر من التشابه.

الطريقة المولوية أضفت لمسة مميزة فى عالم الموسيقى الصوفية من خلال تقديمها الرقص الدائرى المصاحب للمقامات الموسيقية المعروفة، وكانوا يُطلقون عليها اسم «عين الشرف»، حيث تتألف من أربع سلاسل موسيقية متتابعة بمصاحبة آلات موسيقية مختلفة، بالإضافة إلى بعض الإيقاعات والتقاسيم الحرة.

وعلى عكس الطرق الأخرى التى تستخدم الدفوف والطبول بشكل رئيسى، أولى المولويون اهتمامًا كبيرًا للناى، إذ يعتبرون الناى أقرب إلى روح الإنسان وصوته، ويُشبهونه بالأنين، ويعتبرونه أداة تعبر بشكل أفضل عن مكنون القلوب والأحاسيس الداخلية، فالنفخ ليس لمجرد تحويل النفس إلى إيقاع موسيقى وإنما إخضاع الجسد بكامله للحالة.

أما الطريقة النقشبندية فقد حملت لواء الغناء الصوفى فى القرن العشرين، وبرزت بعض المواهب الفنية التى تنتمى إلى هذه الطريقة، التى تعود جذورها إلى بهاء الدين النقشبند «١٣١٨- ١٣٨٩م» وتعتبر الطريقة النقشبندية واحدة من أوسع الطرق الصوفية عالميًا، حيث انتشرت فى الدولة العثمانية على يد الشيخ عبدالله الإلهى «١٤٨١م/١٥١٢م»، ومنها انتقلت إلى العالم العربى.

وربما كانت أول طريقة صوفية تقدم الغناء بمصاحبة آلة القانون، حينما غنى الشيخ سيد النقشبندى قصيدة ابن الفارض الشهيرة «قلبى يُحدّثنى بأنك متلفى»، إذ عرف النقشبندى بقوة صوته وجماله، وقد كان والده شيخ الطريقة فى مصر، تعاون فى بعض أناشيده مع كبار الملحنين مثل بليغ حمدى ومحمد الموجى وسيد مكاوى وغيرهم.

أدّى السماع الصوفىّ إلى خلق نوع من التثاقف فنتجت عن ذلك أغانٍ وألحان تجمع التقليد الموسيقىّ الصوفىّ بأنماط وأنواع موسيقيّة حديثة ومتعدّدة الخلفيّات والثقافات، وانطلاقًا من هذا النوع الجديد من الفن والموسيقى، تمّ استثمار التراث الصوفىّ العالمىّ فى بثّ القيم الروحيّة المهذِّبة، حيث يُقدم الشيخ الألمانى حسن دايك مدائحه بطابع غربى فى مدينة كال بألمانيا على آلة التشيلو، ويصاحبه فريق موسيقى يعزف على الهارمونيوم والديدجريدو والدف.

موسيقى الأنجيل 

موسيقى الإنجيل.. ترانيم وأغانٍ روحية حمدًا لله

بالرغم من عدم وجود إشارات مباشرة إلى ممارسة يسوع الموسيقى، يذكر اثنان من الأناجيل حقيقة أنه وتلاميذه رنموا ترنيمة فى نهاية العشاء الأخير هما: «متى ٢٦: ٣٠ ومرقس ١٤: ٢٦». وفى أماكن أخرى من الأناجيل، ترى الموسيقى كجزء من الحداد «متى ٩: ٢٣»، وتارة من الاحتفال كما فى «لوقا ١٥: ٢٥».

وفى رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسى، يشجع على «تعلم بعضكم بعضًا بكل حكمة، بتعليم بعضكم التسبيح والترانيم والأغانى الروحية»، «كولوسى ٣: ١٦»، كما يعزو بولس الفرح والتسبيح إلى الروح القدس فى رسالته إلى أهل رومية، «رومية ١٤: ١٧-١٨».

ومع أنه لا توجد تعليمات فى العهد الجديد بشأن نوع الآلات التى يجب استخدامها «أو عدم استخدامها»، ولا يوصى أو يمنع أى «نمط» معين من الموسيقى، فإن الوصية البسيطة هى أن نرنم من القلب «تَرَانِيمَ وَأغَانٍ رُوحِيَّةً حَمْدًا للهِ»، «كولوسى ٣: ١٦». 

فمنذ بدايات الكنيسة المسيحية، كانت الموسيقى والتسبيح جزءًا مهمًا من العبادة الدينية، إذ ظهر الغناء «الجريجورى» فى القرن السادس زمن البابا جريجورى الذى يعرف بأقدم أنواع  الموسيقى فى الكنيسة، والتى تكون عبارة عن ترتيل نصوص دينية لألحان بسيطة مع إيقاعات محددة، وعادة ما تؤديها مجموعة تغنى فى نفس الوقت، وذلك دون الاستعانة بأى آلات موسيقية، وأشهرها «هالولويا»، التى تعنى «مدح الرب».

واستمرت الموسيقى فى أن تكون جزءًا حيويًا من حياة الكنائس المسيحية، وقد تطورت إلى مجموعة متنوعة من الأنماط والأشكال، بدءًا من الألحان الجماعية البسيطة إلى العروض الموسيقية الكبيرة، حيث تشمل هذه الأشكال الموسيقى التقليدية مثل التراتيل والهيمن والموسيقى الكورالية، بالإضافة إلى الأنماط الحديثة مثل الموسيقى الكنسية المعاصرة والموسيقى الروحية، والجاز الكنسى والروك الكنسى.

وبالتالى تشكلت لديها فرق موسيقية تعزف وتلحن بجانب ترتيل نصوص الكتاب المقدس، ثم ظهرت موسيقى القداس أو الكورال الدينى، التى أصبحت جزءًا أساسيًا من الصلاة، وتردد فى مناسبة عيد القيامة وعيد الميلاد، لتعزيز التجمع وتعبر عن الفرح والتسبيح والتأمل فى الإيمان.

مزامير داود

مزامير داود.. دعاء النغم فى روح التوراة

إن قارئ التوراة للوهلة الأولى قد يعتقد أنها وضعت لإبراز مكانة الموسيقى، وتضمن العهد القديم نصوصًا عديدة لإبراز قيمة الموسيقى القوية فى الوصول إلى الله، من خلال التعبد بها ومناجاته، ويحوى الكتاب المقدس العديد من الإشارات إلى الموسيقى كجزء من التعبير الدينى والثقافى فى العصور القديمة.

إذ يعود الذكر الأول للموسيقى فى سفر التكوين، حيث إن يوبال، الذى كان الجيل الرابع من آدم، كان «أبًا لِلَّذِينَ يَعْزِفُونَ عَلَى القِيثَارِ وَالنَّاى»، «تكوين ٤: ٢١» وﺑﺬﻟﻚ ﻳﻨﺴﺐ اﺧﺘﺮاع اﻵﻻت اﻟﻤﻮﺳﻴﻘﻴﺔ ﻋﺎﻣﺔ، ﺳﻮاء أﻛﺎﻧﺖ وﺗﺮﻳﺔ أم ﻧﻔﺨﻴﺔ إﻟﻰ ﻳﻮﺑﺎل ﺑﻦ ﻻﻣﻚ ﺣﻔﻴﺪ آدم ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼم، وجاء فى ﺳﻔﺮ أﺧﺒﺎر اﻷﻳﺎم اﻟﺜﺎنى ٥:١٢: «واﻟﻼون اﻟﻤﻐﻨﻮن أﺟﻤﻌﻮن أﺳﺎف وﻫﻴﻤﺎن وﺑﻨﻮﻫﻢ وإﺧﻮﺗﻬﻢ ﻻﺑﺴﻮن ﻛﺘﺎﻧًﺎ ﺑﺎﻟﺼﻨﻮج واﻟﺮﺑﺎب واﻟﻌﻴﺪان واﻗﻔﻴﻦ ﺷﺮقى اﻟﻤﺬﺑﺢ، وﻣﻌﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻜﻬﻨﺔ مائة وﻋﺸﺮون ﻳﻨﻔﺨﻮن فى اﻷﺑﻮاق.

بيد أن هناك إشارات أخرى مبكرة إلى الموسيقى فى سفر الخروج ١٥، الذى يسجل غناء موسى وبنى إسرائيل أغنية النصر بعد الإطاحة بجيش فرعون فى البحر الأحمر، فى ذلك الوقت، كانت مريم، أخت موسى، تقود النساء من بنى إسرائيل «بالدفوف والرقص».

وتعتبر شخصيتا موسى وداود من بين أهم كتّاب الترانيم فى العهد القديم، فقد كتب موسى ثلاث ترانيم مسجلة فى الكتاب المقدس، بينما يُعزى إلى داود العديد من المزامير وبعض الأغانى الأخرى. وكان داود أيضًا الموسيقار الرسمى فى بلاط شاول ونظم الموسيقيين اللاويين أثناء حكمه.

يُظهر الكتاب المقدس أيضًا استخدام الموسيقى فى مختلف الأنشطة والمناسبات، بما فى ذلك الأحداث الدينية والملكية والاجتماعية. ويُلاحظ أيضًا العلاقة بين الموسيقى والأحداث غير العادية، مثل استخدام الأبواق فى سقوط أسوار أريحا وعزف داود على قيثارته لتهدئة شاول من هجمات الأرواح الشريرة. وتمثل المزامير أكثر من ٧٪ من العهد القديم، بالإضافة إلى المزامير هناك كتب أخرى تركز على الغناء والشعر، مثل نشيد سليمان والجامعة وغيرها.

وقد شهد الكنس والمعابد فى ذلك الوقت العديد من الطقوس الدينية التى صاحبتها التراتيل الغنائية والألحان الموسيقية المتعددة، لا سيّما فى معبد القدس عام ٧٠ للميلاد، حيث كانت تتألف أوركسترا المعبد العادية من اثنتى عشرة أداة، وجوقة المغنّنين من اثنى عشر مطربًا من الذكور.

لكن بعد تدمير الهيكل، قام الحاخامات بمنع استخدام الأدوات الموسيقية أثناء الصلاة كجزء من الحداد على سقوط الهيكل وهزيمتهم، وﻛﺎن ﻳﺘﻢ ﺗﺮﺗﻴﻞ اﻟﻤﺰاﻣﻴﺮاﻟﻴﻬﻮدﻳﺔ إﻣﺎ اﻧﻔﺮادﻳًﺎ أو ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺘﺒﺎدل الصوتى ﺑﻴﻦ اﻟﻤﻨﺸﺪ اﻟﻤﻨﻔﺮد وﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻤﺼﻠﻴﻦ، وﻟﻢ ﺗﻜﻦ اﻟﻘﺮاءة ﻟﻠﻌﻬﺪ اﻟﻘﺪﻳﻢ إﻻ ﺗﻨﻐﻴﻤًﺎ ﺑﺴﻴﻄًﺎ، وفى ذﻟﻚ ﻛﻠﻪ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺴﺘﻌﻤﻞ ﺟملًا ﻣﻮﺳﻴﻘﻴﺔ ﻟﺤﻨﻴﺔ ﺑﺴﻴﻄﺔ ﺟﺪًا، ومع تشتتهم وتوزعهم فى عدة بلدان، عاد اليهود لاستخدام الموسيقى فى صلواتهم التلمودية، وهو الأمر الذى استمر حتى يومنا هذا.

وتتنوع الموسيقى الدينية عند اليهود وفقًا للكنيس التى ينتمون إليها. فمثلًا، يضم كنيس السفارديم المغاربة والعراقيين، ويتميز بموسيقاه ذات الطابع الشرقى، بينما يعتمد الكنيس الأشكنازى فى موسيقاه على الألحان الألمانية أو الروسية، وتفضل بعض التجمعات الموسيقى التقليدية، بينما تستخدم التجمعات الأخرى الألحان الشعبية الحديثة كبديل.