الإثنين 02 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مفاجأة «أطياف»

كتاب جديد لم ينشر من قبل لرجاء النقاش.. لماذا يخافون من الإسلام؟

رجاء النقاش
رجاء النقاش

- على العرب والمسلمين أن يستيقظوا ويشعروا بمسئوليتهم تجاه أنفسهم ومستقبلهم

- إننا بحاجة إلى يقظة قوية تسرى فى عروقنا وتدفعنا إلى الاهتمام بمصيرنا ومعرفة القوى الكامنة فينا

تستعد دار «أطياف» للنشر لمفاجأة الوسط الثقافى بإصدار جديد غير منشور للكاتب والناقد رجاء النقاش تحت عنوان «لماذا يخافون من الإسلام؟».

الكتاب الذى يصدر خلال الفترة القليلة المقبلة يتضمن مجموعة من المقالات للناقد الراحل لم تنل حظ النشر فى كتاب على الرغم من أهمية موضوعها الذى يشغل كثيرين فى الشرق والغرب.

وتتعاون الدار مع أسرة الكاتب الراحل فى إصدار الكتاب على نحو يليق باسم مبدعنا الكبير.

من الفضائل التى ينبغى تقديرها فى دول الغرب المعاصر أن نسبة الصراحة فى أفكارها وآرائها السياسية أعلى من نسبة السرية والكتمان، لذلك فالغربيون الآن يعلنون فى كثير من الوضوح أن الإسلام هو القوة التى ينبغى على الغرب أن يواجهها فى الوقت الراهن، بعد أن انتهت مواجهة الغرب مع الشيوعية نهاية حاسمة سنة ١٩٩١.

ولم يقل المسئول الغربى إن الإسلام هو العدو، ولكن مركزًا علميًا مشهورًا فى أمريكا، هو «معهد دراسات الشرق الأوسط»، عقد فى الأسبوع الماضى ندوة كان موضوعها حول الإسلام وتحديات التسعينيات، وكانت المناقشات الأساسية فى هذه الندوة تدور حول الإمكانيات العسكرية للدول الإسلامية.

هذه نماذج مما يقال الآن فى الغرب وخلاصتها أنه بعد سقوط الأنظمة الشيوعية فإن الخطر الذى يواجه الحضارة الغربية هو الإسلام.

إن تعداد المسلمين الآن كما يقول الرئيس السابق نيكسون فى كتابه الأخير «الفرصة السانحة» يبلغ حوالى ٨٥٠ مليون نسمة، وهذا الرقم يمثل سدس سكان العالم، وهو أمر يثير القلق عند الغربيين، وهذا القلق ليس صادرًا عن الموقف الراهن للمسلمين، لأن المسلمين الآن معظمهم يعيشون فى فقر وضعف، ولكن الخطر ينبع من إمكانيات المستقبل.

ويصور نيكسون، فى كتابه الجديد، المشكلة من وجهة نظر المتشائمين الغربيين فيقول «صـ١٣٥ من الترجمة العربية الكاملة التى قام بها أحمد صادق مراد ونشرتها دار الهلال بالقاهرة»:

«يحذر بعض المراقبين من أن الإسلام سوف يصبح قوة متعاظمة، وأنه مع التزايد السكانى والإمكانيات المادية المتاحة سوف يشكل المسلمون مخاطر كبيرة، وسوف يضطر الغرب إلى أن يتحد مع موسكو ليواجه الخطر العدوانى للعالم الإسلامى، ويزيد من قوة هذا الرأى أن الإسلام والغرب متضادان، وأن نظرة الإسلام للعالم تقسمه إلى (دار الإسلام) و(دار الغرب)، حيث يجب أن تتغلب الأولى على الثانية، وأن المسلمين يوحدون صفوفهم للقيام بثورة ضد الغرب، وعلى الغرب أن يتحد مع موسكو ليواجه هذا الخطر الداهم بسياسة واحدة».

ويسارع نيكسون بطمأنة أصحاب هذه الأفكار حيث يقول: «إن هذا الكابوس المخيف لن يتحقق، فإن المسلمين من الكثرة والاختلاف بشكل لا يسمح لهم أن يكونوا كتلة واحدة، فالمسلمون الذين يبلغ عددهم ٨٥٠ مليونًا، يعيشون فى ٣٧ دولة وينتمون إلى ١٩٠ جنسية، ويتكلمون مئات اللغات واللهجات».

هذه هى النظرة الغربية الراهنة إلى الإسلام، فهناك إجماع أو شبه إجماع على أن الإسلام يشكل قوة خطيرة، والمتفائلون- مثل نيكسون- يرون أن هذه القوة لن تتمكن من التأثير على الغرب بسبب تفكك المسلمين وعدم إمكان قيام كتلة إسلامية واحدة.

أى أن الخطر قائم، ولكن إضعاف المسلمين لأنفسهم يقضى على هذا الخطر، ويجعل تأثيره محدودًا وعديم القيمة.

ونعود إلى السؤال الأساسى وهو: لماذا يخاف الغرب من الإسلام والمسلمين؟

إن الغربيين يقيمون حضارتهم الحديثة على المعلومات الدقيقة، وليس على العواطف والأهواء، والمعلومات عندهم لا تتصل بالواقع المعاصر وحده، بل هى تمتد إلى الخلفية التاريخية لهذا الواقع، وهذا ما يفسر لنا انتشار ظاهرة «الاستشراق» فى الغرب، حيث قامت جماعات المستشرقين بدراسات واسعة وغاية فى الدقة للتاريخ العربى والإسلامى فى جميع مراحله، وكانت جماعات المستشرقين على الدوام مدعومة بمؤسسات رسمية ومالية كبيرة وقوية، وفى بعض البلدان الأوروبية اليوم توجد مراكز علمية للدراسات العربية لم يسبق لها مثيل فى قوتها وتتبعها لكل التفاصيل الخاصة بالإسلام والغرب، ومثال ذلك ما نجده فى «هولندا» التى أصبحت من أقوى مراكز الدراسات العربية والإسلامية قديمًا وحديثًا فى العالم كله، وهذه الدراسات تمكن الغربيين من المعرفة الدقيقة بالعرب والمسلمين، وتمكنهم من اتخاذ قراراتهم المختلفة على أساس من المعرفة الصحيحة.

وهذا الاهتمام الواسع بالمعلومات عند الغربيين يضع يدهم على حقيقة واضحة فى تاريخ العالم، فلم تتمكن أى حضارة من الحضارات القديمة من اقتحام أوروبا والدخول معها فى معارك حاسمة ومتعددة أدت إلى هزيمة الأوروبيين فى الفترة المعروفة باسم العصور الوسطى، سوى الحضارة الإسلامية، فقد استولت هذه الحضارة- عن طريق العرب- على جنوب أوروبا فى إسبانيا، واستولت- عن طريق المسلمين الأتراك- على شرق أوروبا ووسطها، وعندما قامت الحروب الصليبية تصدى لها العرب المسلمون وألحقوا الهزيمة بالأوروبيين وردوهم إلى بلادهم على أعقابهم خاسرين.

وقد عكف الغرب مئات السنين على الاستعداد لمواجهة الحضارة العربية الإسلامية، حتى تمكن من إزاحة العرب من إسبانيا سنة ١٤٩٢، ومنذ ذلك التاريخ بدأت مرحلة التراجع العربى والإسلامى، وعندما جاء القرن العشرون كان معظم العرب والمسلمين خاضعون للنفوذ الأوروبى بصورة كاملة، أو شبه كاملة، وبذلك دار التاريخ على أعقابه وأصبحت السيادة للغرب بعد أن كانت للعرب والمسلمين.

والغرب لا يستطيع أن ينسى هذه الحقائق التاريخية، فالعرب والمسلمون هم وحدهم الذين تصدوا فى يوم من الأيام للغرب وهزموه، وأقاموا حضارة مزدهرة فى كل ميادين العلم والثقافة والعمران وسائر ألوان التقدم المادى، فى الوقت الذى كان فيه الغرب يلعق جراحه من أثر هزيمته أمام العرب والمسلمين، وكان هذا الغرب فى ظلام حضارى شامل.

لم يتعرض الغرب لمثل هذا الهجوم الساحق من الحضارة الهندية أو الحضارة الصينية، ولم يتعرض لمثل هذا الهجوم من الحضارة الفارسية القديمة.

العرب والمسلمون وحدهم هم الذين تصدوا للغرب ووقفوا فى وجهه وانتصروا عليه، وامتد نفوذهم إلى أوروبا نفسها.

والأوروبيون يدركون أن الإسلام ليس فكرة من الأفكار المؤقتة التى يمكن أن يمحوها الزمن خلال جيل أو عدة أجيال، فهم يعلمون أن الإسلام باق على قوته فى نفوس المسلمين جيلًا بعد جيل وعصرًا بعد عصر، وحتى عندما يضعف المسلمون أنفسهم، فإن الإسلام يبقى قويًا ومسيطرًا على عقولهم ووجدانهم، ولا يستطيع أحد أن ينتزع الإسلام من جذوره على الإطلاق، فما زال الإسلام بعد ظهوره بأكثر من ألف وأربعمائة سنة يكسب الأنصار إلى الآن حتى فى الغرب نفسه، حيث لا تتوقف حركة الانتماء إلى الإسلام فى أوروبا وأمريكا، وحيث تزداد هذه الحركة قوة بصورة مستمرة.

والذى يدرس هذه الظاهرة- والغربيون يدرسون- فإنه يكتشف أن قوة الإسلام كامنة فى مبادئه وتعاليمه، فهو ديانة تقوم على أسس أخلاقية وإنسانية بالغة القوة والأصالة، فليس فى الإسلام تعصب اليهودية، وعزلتها على نفسها باعتبار أن أهلها هم «شعب الله المختار»، وليس فى الإسلام تلك النزعة «الخيالية» التى تتجاهل الواقع وظروف الحياة الإنسانية، فالإسلام فى جوهره ضد التعصب وهو للناس كافة فى كل بقاع الأرض بغير استثناء، ولا فرق فى الإسلام بين عربى أو عجمى إلا بالتقوى، وهذه أعلى درجات المساواة بين الناس فى مختلف أنحاء الدنيا، كما أن الإسلام يعترف بالواقع ويحض على دراسته والتفكير فيه واستخلاص كل النتائج الممكنة لتحقيق سعادة الإنسان على الأرض، وفى الإسلام إيمان لا يتزعزع بفضيلة التسامح وحرية العقيدة، فلم يضطهد المسلمون أصحاب الديانات الأخرى فى البلاد التى فتحوها، بل تركوا لهم حرية الاعتقاد مسترشدين فى ذلك بمبادئ دينهم، وإذا كانت فتوحات المسلمين قد تحققت بالسيف، فإن المسلمين لم يفكروا يومًا فى دعوة أحد إلى دخول الإسلام بالقوة، والشعوب التى دخلت الإسلام فعلت ذلك باختيارها وحريتها المطلقة.

تلك هى بعض قوة الإسلام الكامنة فيه، والتى استطاع المسلمون من خلالها أن يحققوا إنجازات كبرى فى العلوم المختلفة أيام ازدهار الحضارة الإسلامية، فقد تقدموا فى الطب والعلوم الرياضية والفلك والجغرافيا، واعترف الغربيون أنفسهم بهذه الحقيقة، حيث يقول نيكسون فى كتابه الجديد الذى أشرنا إليه وهو «الفرصة السانحة» صفحة ١٣٨ من الترجمة العربية:

«.. بينما كانت أوروبا ترتع فى غياهب العصور الوسطى كانت الحضارة الإسلامية فى أوج ازدهارها، وقد أسهم الإسلام كثيرًا فى تقدم العلم والطب والفلسفة، وإلى ذلك يشير (ويل ديورانت) فى كتابه (قصة الحضارة) وفى الجزء الذى جعل عنوانه (عصر الإيمان) حيث يقول إن المسلمين قد ساهموا مساهمة فعالة فى كل مجالات التقدم والحضارة، وكان ابن سينا من أكبر العلماء فى الطب والرازى أعظم الأطباء والبيرونى أعظم الجغرافيين، وابن الهيثم أكبر علماء البصريات، وابن جبير أشهر الكيميائيين، وكان العرب روادًا فى التربية والتعليم، وقال (ديورانت) فى هذا الشأن: عندما تقدم (روجر بيكون) بنظرياته فى أوروبا بعد ابن جبير بخمسمائة سنة قال إنه مدين بعلمه إلى المغاربة فى إسبانيا، والذين أخذوا علمهم من المسلمين فى الشرق، وعندما ظهر النوابغ والعلماء فى عصر النهضة الأوروبى فإن نبوغهم وتقدمهم كان راجعًا إلى أنهم وقفوا على أكتاف العمالقة من العالم الإسلامى».

هذا هو ما يقوله نيكسون وما يقوله كثير من الباحثين فى الغرب، وهذا القول المتكرر عند الغربيين يرسخ فى نفوسهم جميعًا معنى واحدًا ثابتًا وهو أن المسلمين والعرب قابلون للنهوض عندما تتاح لهم الظروف المواتية، وأنهم عندما ينهضون فلابد أن يواجهوا الغرب كما واجهوه من قبل، ولذلك فإن على الغرب أن يأخذ الحذر الشديد من أى نهضة إسلامية أو عربية، لا بالوقوف ضد هذه النهضة المحتملة، ولكن بجعل هذه النهضة تحت السيطرة الغربية، حتى لا تكون نهضة يتحقق فيها ذلك الموقف التاريخى القديم عندما تصدى العرب والمسلمون للأوروبيين وانتصرودا عليهم.

الغرب خائف من شبح التاريخ القديم، وخائف مما يمكن أن يحدث فى المستقبل، ولأن الغربيين قد تعودوا ألا يتركوا شيئًا للظروف، أو المفاجآت غير المتوقعة فهم يحسبون ألف حساب الآن للقوة الوحيدة التى يخشون من استيقاظها خارج حدود سيطرتهم وهى قوة العرب والمسلمين.

إننا عندما نقرأ هذا الكلام فى الظروف الراهنة التى يمر بها العرب والمسلمون، وهى ظروف بالغة الصعوبة والقسوة، فإن الكثيرين منا يعتبرون مثل هذا الحديث كلامًا لا طائل من ورائه، فالعرب والمسلمون ليس لديهم من الإمكانيات الواقعية ما يواجهون به التقدم الخطير الذى حققته الحضارة الغربية المعاصرة، والعرب والمسلمون يعانون من مشاكل سياسية واقتصادية معقدة ومتعددة فى معظم هذه الأقطار يبحثون عن الحد الأدنى من الحياة ولا يكادون يحصلون عليه، وإذا كانت هذه الظواهر جميعًا مما قد يطمئن الغرب، فهى ظواهر ينبغى أن تثير فينا القلق، وأن تدعونا إلى التفكير العميق، وتدفعنا دفعًا شديدًا إلى العمل على تخليص واقعنا العربى والإسلامى من السلبيات الكثيرة التى تجعل منا قوة عاجزة عن حماية نفسها وتحقيق الرخاء والسعادة لأهلها، والتقدم والنهوض بعد قرون من التخلف والجهل والمعاناة.

إننا بحاجة إلى يقظة قوية تسرى فى عروقنا وتدفعنا إلى الاهتمام بمصيرنا، ومعرفة القوى الكامنة فينا، وللأسف فالغربيون يعرفون حقيقة هذه القوى الكامنة وهم يعبرون عن القلق الشديد الآن لمجرد احتمال ليس له نصيب من الواقع الراهن، وهو أن ينهض العرب والمسلمون فى يوم قريب فيمثلون خطرًا على الغرب ورخائه وتقدمه الذى يضمن له السيادة العالمية.

إن الغرب خائف من العرب والمسلمين، ليسوا كما هم الآن، فهم لا يمثلون اليوم خطرًا على أحد إلا على أنفسهم، ولكن الغرب خائف من التاريخ القديم الذى يعرفه جيدًا، وخائف من أن يتكرر هذا التاريخ فى المستقبل، فينهض العرب والمسلمون ويستخدمون القوة الكامنة فى الإسلام، ويستمدون منها عزمًا حضاريًا، يعيدهم إلى مسرح التاريخ، بعد أن خرجوا منه أو كادوا يخرجون.

فهل ننتبه نحن ونعمل على التقارب الحقيقى بين العرب والمسلمين جميعًا، ونطوى تلك الصفحات المؤلمة التى مزقت صفوفنا، وبددت إمكانياتنا، وعطلت قدرتنا على حل مشاكلنا، والتصرف فى حاضرنا ومستقبلنا، وجعلتنا بعيدين عن بعضنا البعض، فلا يكاد المسلم العربى يعرف شيئًا عن المسلم الباكستانى أو التركى أو الإندونيسى، أو المسلم فى الجمهوريات السوفيتية السابقة، والمسألة كلها ليست قرارًا تتخذه حكومة، أو مقالًا يكتبه كاتب، أو صرخة ألم يطلقها شاعر، بل هى مسألة مصير كامل هو أن نكون أو لا نكون، فالغرب الخائف منا لن يتوقف عند الخوف، بل سوف يحدد خططًا مستمرة قابلة للتنفيذ، تهدف إلى منعنا من أن نستعيد قوتنا التى كانت لنا، والاستفادة من إمكانياتنا الكبيرة المتمثلة فى الإسلام وقدرته على أن يجعل من أهله أندادًا لأعظم المتحضرين فى الأرض، فماذا نحن فاعلون فى هذا المأزق الحضارى الكبير؟ هل نسمع مخاوف الغرب ونطرب لها ونقول لأنفسنا إنهم يخافون منا، مما يدلنا على قيمتنا وأهميتنا، هل نفعل ذلك ونكتفى به، أم ننتفض، ونستعد للوقوف على أقدامنا، ونكتفى بما أصابنا من آلام وألوان من العذاب ذاقها أهلنا جيلًا بعد جيل، وما زالوا يذوقونها حتى الآن؟

إن على العرب والمسلمين أن يستيقظوا، ويشعروا بمسئوليتهم تجاه أنفسهم ومستقبلهم، ويبحثوا عن وسائل جدية للتضامن والعمل الحقيقى المشترك، وعليهم أن ينتبهوا إلى أن خوف الغرب منا هو خطر جارف يهددنا فى المستقبل القريب بآلام أخرى غير محدودة.