جان زيجلر يُحاكم الرأسمالية فى عصر النيوليبرالية
لا يعد عالم الاجتماع السويسرى جان زيجلر غريبًا على العالم العربى، فمنذ عقود نشرت ترجمات لكتبه المهمة التى أحدثت دويًا لجرأتها فى مهاجمة النظم الرأسمالية والدفاع عن حقوق شعوب العالم الثالث، ومنها «الحقد على الغرب»، و«سادة العالم الجدد.. العولمة، النهابون، المرتزقة، الفجر»، و«أسياد الجريمة.. المافيا الجديدة ضد الديمقراطية»، و«كى لا نستسلم».
تتميز كتابات زيجلر بالجمع ما بين الفهم النظرى العميق لموضوعاته المتمحورة حول الرأسمالية وآثارها السلبية على العالم، والخبرة العملية الفعلية فى التعاطى مع تلك الإشكاليات من خلال عمله السابق مقررًا للأمم المتحدة بشأن الحق فى الغذاء، ونائبًا لرئيس اللجنة الاستشارية لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
فى كتابه الأحدث «حدثنى عن الرأسمالية فى عصر النيوليبرالية.. أملًا بأن نشهد نهايتها»، الصادر بترجمة عربية عن «دار الفارابى»، يقدم زيجلر محاكمة جديدة للرأسمالية عن طريق محاورة مبسطة يجريها مع حفيدته ويشرح من خلالها المفاهيم الأساسية وأبرز محطات تاريخ الرأسمالية وآثارها الاقتصادية والاجتماعية.
تعزيز اللامساواة
الأطروحة الأساسية التى يسعى المؤلف للتدليل عليها هى أن النظام الرأسمالى ليس هو الشكل الأكثر عدلًا لتنظيم الكوكب كما يدعى أقطابه، لا سيما وأنه مسئول عن جرائم شتى بسبب نقص الغذاء والجوع والأوبئة وتدمير البيئة الطبيعية وتسمم التربة والمياه والبحار وتدمير الغابات. يبين زيجلر أن مبدأ الربح الذى يرتكز عليه النظام الرأسمالى يقود إلى منافسة شرسة بين الأفراد والشعوب، ويعتمد على سحق الضعفاء وتعزيز الحروب التى تمد الرأسمالية بأرباح لا تنضب من خلال التدمير وإعادة الإعمار وتجارة السلاح.
يبدأ المؤلف بشرح كيف ولدت الرأسمالية، من أين أتت الكلمة، ومتى بدأ استخدامها على نحو واسع، وكيف صارت نظامًا مفترسًا للبشر يمنح الرفاهية لأقلية صغيرة ويضع الأغلبية فى بؤس قاتل لا سيما مع ما فرضته التداعيات السلبية للتخلف الإنمائى من جوع وعطش وأوبئة وحروب، بقضائها سنويًا على رجال ونساء وأطفال أكثر مما فعلت مذبحة الحرب العالمية الثانية من خلال سنواتها الست.
من هنا، يوضح زيجلر أنه منذ انهيار الاتحاد السوفيتى فى أغسطس ١٩٩١، غزت الرأسمالية الكوكب، وصارت النيوليبرالية أيديولوجية مهيمنة. وخلال عشر سنوات تضاعف حجم الناتج العالمى الخام كما بلغ حجم التجارة العالمية ثلاثة أضعافه، وفى الوقت ذاته ارتفع مستوى البؤس ارتفاعًا كبيرًا فى عدد من دول الجنوب، إذ لم يقض تحرر السوق العالمية على البؤس وإنما أصبح منفعة شبه حصرية للرأسماليين الحاكمين.
واليوم يسيطر مالكو رأس المال الأكثر قوة على البحث العلمى والتكنولوجى فى المجالات الأكثر تنوعًا، ويحظى المليارديرات الخمسة والثمانون الأكثر غنى فى العام ٢٠١٧ بسيولة نقدية تساوى ما يملكه ٣.٥ مليار من الأشخاص الأكثر فقرًا بين البشر. فعبر التاريخ وحتى اليوم ظل نظام الإنتاج الرأسمالى يضاعف إمكانات الأغنياء بشكل ملحوظ، ويزيد من حرمان الفقراء وشقائهم.
مجتمع الاستهلاك
من ضمن المثالب التى قادت إليها النظم الرأسمالية والتى يتوقف أمامها زيجلر؛ تعزيز نمط الحياة الاستهلاكى، فبعد الحرب العالمية الثانية وبهدف إعادة إعمار الاقتصاد، تعززت مجتمعات الاستهلاك التى عملت على حث الجميع على الشراء والاستهلاك للبضائع الجديدة حتى وإن لم يكونوا بحاجة فعلية إليها، وما زال نمط الاستهلاك يهيمن على العالم ولا مفر لأحد منه.
يشرح زيجلر ذلك فى حديثه الموجه لحفيدته بقوله: طالما أنّ الرأسماليين يحكمون الكوكب فلا أحد يستطيع الهرب، أنت لا تنتمين إلى هذا النظام فقط عبر الاستهلاك حسب الطلب بل تعطيكِ الرأسمالية ألف شكل آخر للاستهلاك.
يقود هذا النمط المكثف من الاستهلاك إلى تدمير الكوكب، فقد صار الهواء فى عدد من العواصم غير صالح للتنفس بسبب المواد السامة والأمراض السرطانية والمياه الملوثة التى تسمم الكائات البشرية، وهذا ما يظهره تقرير منظمة الصحة العالمية الذى يشير إلى أن ٦٠٪ من حالات السرطان فى العالم سببها الآثار الضارة للنظام البيئى المختل أو الغذاء غير الصالح.
ما العمل؟
ليس إصلاح النظام الرأسمالى ممكنًا برأى زيجلر، فسلطة رأس المال المعولم تحكم العالم وتقف عائقًا أمام المساواة والسعادة الحقة للبشر، كما أن الأيديولوجية النيوليبرالية التى تتلاعب بالمستهلكين تمثل إهانة للعقل البشرى، كما يقود الانسياق وراء تحقيق المصالح بدون رادع إلى تدمير البيئة والموت البطىء للكوكب.
جراء ذلك، يرى زيجلر أن كل إنسان مكلف تجاه نفسه بواجب التمرد انطلاقًا من قناعة بأن قوته مستمدة من الرفض المقنع لعالم تحظى فيه أقلية بيضاء بالرخاء على حساب استغلال السواد الأعظم. ومن ثم، فالمطلوب هو تدمير الرأسمالية كى يستطيع عالم جديد أكثر إنسانية أن يبصر النور، وأن تختفى تمامًا امتيازات الرأسماليين وقوتهم المطلقة. ليس ثمة بديل محدد يعول عليه المؤلف إذ يقول: «كل ما فى حوزتنا هو براعم أولية للجبهات المختلفة المتأهبة بالإضافة إلى دروس الماضى. إن تجاوز الشيوعية للرأسمالية فى القرن العشرين لم يفلح. لقد أنتج هذا التجاوز بعض الثمار حيث تم تحرير البشرية، إلا أنه خذل وتمت محاربته بعنف. لقد فازت الرأسمالية كما هو حالها اليوم فى الصين حيث إن نظامًا شيوعيًا مزعومًا يجعل اقتصاده مرتكزًا على السوق الرأسمالية. وفى النهاية لكل واحد من المحاربين قناعاته وقيمه التى تخوله لتنظيم مستقبله».