تحت الطبع.. أسامة الرحيمي يقدم اعتذارًا لـ «عدوية» في «صاحبة الجلالة لا تمسح البلاط»
- كنت أرفض الإنصات إليه حين يشغلون أغانيه فى أفراح قريتنا فى آخر موجة للأسطوانات السوداء الكلاسيكية قبل انتشار المسجّلات اليابانية والأشرطة الصغيرة
- اكتشفت أن جُلَّ أغانيه تنتمى للجماعة الشعبية وتُعبر عنها بشكل حميم لذا ارتبط به البسطاء وأحبوه بسهولة ولم تفقد ما تَنطوى عليه من قيمٍ لأنه غنّاها فى ملاهى شارع الهرم والفنادق الفخمة
- عندى أنَّ «عدوية» اتاخد فى الرجلين بلا ذنب منه بجانب أنه إنسان عادى
كنت عائدًا من عملى بمجلة «نصف الدنيا» ذات مساء. من عام ١٩٩٨- وفق الذاكرة-، وفوجئتُ بسائق التاكسى يتمايل على يمينه وشماله، بطريقة لافتة فظننته «مبَلْبع شىء»، ولأننا لحظتها كُنّا أعلى كوبرى أكتوبر، تصورت أنه قد يضيعنا كونه يغمض عينيه ويتطوَّح بانتشاء المشاركين فى حلقة ذكر.
بحدَّة: «فيه إيه»؟!
تعجب لسؤالى، وأشار إلى مسجّل السيارة: «أنت مش سامع يا أستاذ»!
وانتبهت لصوت جريح يمسُّ شغافَ القلب..
خطَفنى شجنه الحنون:
دا القمر مسافر..
والسهر مسافر..
والفرحة مسافرة..
حتى الحزن سافر..
كل الناس مسافرة..
هفتِ المعانى على روحى بملمَس الساتان..
أشاع صدقُ المغنى إحساسًا بأسى لحظات الغروب، فطلبتُ من السائق إعادة الأغنية من أولها وسألته:
«مين المغنى ده؟!»
أذهلنى رده: «أحمد عدوية»..
يا اللااااه..
«هو صوته حلو كده»!!
سامحه الله «صلاح عيسى» و«أهباريته» الأسبوعية فى جريدة الأهالى. عدوية يتمتع بكل هذه العذوبة، ورهافة إحساسه بمعانى الكلمات، ويقتفى أسرار اللحن ومَكامن جماله باحتراف عفوى باهر، فيوقفنا فى المنتصف بين الصياح إعجابًا وراحة الدموع.
ولم أسمعه باهتمام مرَّة واحدة!!
لمَ تجنَّبت سماعه كل تلك السنوات وهو يغنى من بداية السبعينيات؟!
كنت أرفض الإنصات إليه حين يشغلون أغانيه فى أفراح قريتنا، فى آخر موجة للأسطوانات السوداء الكلاسيكية قبل انتشار المسجّلات اليابانية والأشرطة الصغيرة بعد انفتاح السادات «السداح مداح» منتصف سبعينيات القرن الماضى.
تماهَيت فى الأغنية، أو تماهَت هى بمشاعرى، حتى امتلأت روحى بالأسى، ومخاوف الرحيل المتكررة فى كلماتها، فأحسست ألا مناص من التطوح مثل السائق تمامًا.
لكنَّ حيائى ألزمنى الوقار.
أدرك أن الأغنية خَطفتنى مثله، فظل يُعيدها وحده طوال الطريق، وشعرتُ بأنى مَدين باعتذار للفنان «أحمد عدوية» شخصيًا، ولا بدَّ أن أبلغه بنفسى، فى صباح الغد.
وقرَّْرت محاورته لأنقل إلى القراء ما جرى حين سمعت أغنيته «القمر مسافر».
ارتحت تمامًا للفكرة، فأنصت لأغنيته باستمتاع بقية الطريق، وردَّدت معه بصوت مسموع فانتشى السائق وشاركنى الغناء وكأننا زملاء رحلة، وعاد لتمايله مجددًا:
دقّيت على الأبواب..
قالوا كفاية.. كفاية..
دا مفيش حد..
وناديت على الأحباب..
قالوا كفاية.. كفاية..
ومين هيرد..
آآآآه..
دا القمر مسافر..
والسهر مسافر..
والفرحة مسافرة..
حتى الحزن سافر..
كل الناس مسافرة.. وهى قُريبة منى..
كل الناس فى غربة.. ومين هيسأل عنى..
آآآآه..
دا إحنا قريبين.. وهم قريبين..
لكن من سنين.. سنين.. كلنا مسافرين..
كلنا مسافرين.. كلنا مسافرين
أى شجن بهىٍّ أطلّ، وغمسَ فى الأسى روحى!
لماذا يُبهجنا الحُزنُ فى الغناء، إلا أنه يُصفى مشاعرَنا من النُّواح، ويُبلل مآقينا بدمع الجمال؟!
أسئلة حائرة تُهرول من قديم الزمان، خلفَ إجابات لا تملُّ الإفلاتَ والهرب!
أليست هذه السلطنةُ التى تحاكى بها السمِّيعة، وتَنادم عليها عشاق الطرب؟
دخلتُ بيتى ووجدانى معبَّأ بمشاعر نبيلة، حزن وقور شفيف، وسماحة تجاهَ عدوية، وتعاطف كبير معه، ونقمة موضوعية على اليساريين الذين صادروا فرصَنا فى التفاعل بأنفسنا مع الفنون والإبداعات، وأقرَضونا وجهات نظرهم التى كانت تخصهم وحدَهم، واتَّضح أنها لم تكن أصيلة لدى كثير منهم، حين انكشف استهانتهم بنا وانقلبوا على تاريخهم، وباعوه رخيصًا، وبدَا أنَّ نضالهم كان ينتظر على الناصية، وحين داهَمهم «عمى البصيرة» قَفزوا إلى سلم فرصتهم التى ترقَّبوهاه طويلًا كأنها الترام الأخير، ورحلوا بعيدًا جدًّا عن مَرابض اليسار، وباتوا أعداء ألدّاء يقصفون قيمَه التى لم تمسّ نبالتها قلوبَهم الخاوية للحظة.
العجيب.. أنَّنى حلمتُ بأغنية عدوية فى الليلة ذاتها، فى محيط مُغاير كثيرًا لجوِّ التاكسى.
جمعٌ من الأصدقاء والأحباب يتحركون بفرح وخفَّة فى مختلف الاتجاهات، فى مكان مكشوف على النيل مباشرة، والأضواء تحيلُ الليل إلى نهار مُبهج، وأغانى عدوية تتردَّد من مكبرات خفية متناثرة، وحين توجّع:
دا القمر مسافر..
حتى الحزن سافر..
تنبهوا، فسكنتْ حركتهم، واكتست وجوههم اللامعة بابتسامات مُشرقة، وفى صميم عيونهم لوعةُ الأسى ذاته.
صحوتُ منتشيًا، أرددُ مع عدوية:
كلنا مسافرين
كلنا مسافرين
بأقرب طبقات القرار لقاع قلبى.. حيث تراكمت تحويشة العمر من آهات الكتمان!
أفقتُ على نفسى أتطوَّح فى سريرى. ضحكتُ بسرور، وسلَّمت بأنَّ تأثير الأغانى الإيجابى أعمق من مصائب «البلبعة».
فى ذلك النهار، أذهَلنى أنها من ألحان وكلمات «بليغ حمدى»، وسمعتها بصوته، ففهمتُ أن عدوية يحفظ الألحان العذبة بطاعة مُطلقة، ثم يَشحنها بشَجنه العفوى، وتَسخو عليها موهبته الضافية.
ويومها أيضًا، وضعت يدى بدقَّة على سبب «إعراضى» القديم عن سماع «عدوية»، وتذكرتُ بوضوح مقالة للأستاذ «صلاح عيسى» فى «أهباريته بالأهالى» أيام تألقها المهنى الذى لم يدم كثيرًا، وأذكرُ من تفاصيله مع معناه: «ليس أتفه من (أحمد عدوية) فى الغناء إلا (أحمد رجب) فى الكتابة، صاحب نظرية الفِلَّة فى الفانلة، والدّوبارة فى العِبارة»، أو شىء من قَبيل تلك السخافة.
كانت كتابات «صلاح عيسى» تُبهرنا، ونُسارع لاقتناء أى كتاب جديد له. وباب «الأهبارية» الأسبوعى يُدهشنا، وظننا بسذاجة أن «السخرية من الناس شىء جميل»، وحاولنا تقليدها لتأثرنا بالضرورة بآرائه فى سياقات شتى، وكان «عدوية» ممَّن ظَلمهم بسخريته، واستسهاله، وظلمناه بانسياقنا، وتصديقنا طلقات «مدفعيات اليسار» الفِشنك، التى اتضح لاحقًا أنها لم تكن أكثر من «مسدسات ماء» بتأثير «فاروق حسنى» وزير الثقافة حينها.
أولئك الذين حادوا عن مَساراتهم الهشّة، واستبدلوا مواقفهم التى لم تكن قناعات يومًا ما، ومنحتنا انتهازيتهم فرصة لبلورة المعنى الجليل بأن «سقوط بعض الناس لا يعنى سقوط المبادئ»، وتدرَّجنا نقديَّا لحد أعفانا من خيبات التلقى المجانى، وامتلكنا قدرة مُتصاعدة على تأمل المضامين، والتقاط الخفايا والدَّهلزة، والأهم.. أننا اكتسبنا مرونة المراجعة الدورية، فلا نسلم لأحد بصحة كلامه حتى نستوثق منه، ولا نترك آذانًا لأحد يبخّ فيها ما يشاء، ورحنا نبحث بأنفسنا عن الحقائق فى مَنابعها. وكان «غناء وصوت أحمد عدوية»، من الأشياء التى راجعتها بتجرُّد ذاك اليوم!
وبالتدقيق، اكتشفت أن جُلَّ أغانيه تنتمى للجماعة الشعبية، وتُعبر عنها بشكل حميم، لذا ارتبط به البسطاء وأحبوه بسهولة، ولم تفقد ما تَنطوى عليه من قيمٍ لأنه غنّاها فى ملاهى شارع الهرم، والفنادق الفخمة، وليست مُبتذلة لأنها جاءت فى حقبة السبعينيات التى حملَ فيها السادات على اليسار، وهوجمت رموزُ الثقافة المصرية، وبدأت تلك اليدُ العدوّة تطفئ مصابيحَ الوطن من خفائها الخسيس.
والأرجحُ عندى أنَّ «عدوية» «اتاخد فى الرجلين»، بلا ذنب منه، بجانب أنه إنسان عادى، طلع من تحت أنقاض الحياة، وخاضَ رحلة عِصامية شاقَّة فى الحياة والفن، ولا يعيبُه بنظرى أنَّ «كائنات البتر دولار» تكالبوا على الكباريهات وقت صعوده وتألقه، فقد بقى يغنّى «يا أهل الله يلّلى فوق ما تردّوا عللّى تحت» بكل إيحاءاتها المناوئة للطبقية، و«سلامتها أم حسن» الغارقة فى أجواء ثقافة الحسد والقوة والحميمية الشعبية، و«السحّ إدح امبو» التى بهرتنى معانى كلماتها أول مرة، وهى مصرية قديمة، وتعنى أن الطفل إذا بكى «السحّ»، يجب أن يبادر والداه لتدليله «الدح»، ويسقونه الماء «امبو».
ولم أتردَّد فى تجاوز الصخَب الذى صنعَه الفنان «هانى شنودة» فى أغنية «زحمة يا دنيا زحمة.. زحمة وتاهو الحبايب.. زحمة ولا عادش رحمة.. مولد وصاحبه غايب.. آجى من هنا .. أروح هنا زحماااا.. هنا أو هنا.. زحماااا.. زحمة وأنا رايح له.. وأنا فى وسط الزحام.. عايز يسمع وأقول له.. ما بيوصلس الكلام».
وأعتقد أنَّ «شنودة» شحنَها بتوتُّرات «ضجيج الزحام» و«فوضى الاكتظاظ» التى يُعانيها واقعنا الآن، التى تشعرُ الجموع بانعدام الخصوصية، والحريات الفَردية، وتُجبرهم على الاندماج القَمعى فى القطيع المتنامى بعشوائية جعلته يبدو ككائنٍ خرافى أعمى يتخبَّط فى كل شىء.. فى كل اتجاه.
وهنا لا أدافعُ عن عدوية كمناضل. فلم يمتلك وعيًا فكريَّا يومًا ما، ولا موقفًا سياسيًّا، لحرمانه من التعليم بحكم ظروفه، ومعاناته ويلات الفقر فى صِغره، وكان طبيعيًّا أن يبدأ بغناء السَّهل، والرائج، حتى وجد ضالتَه فى «فنّ الموال» الذى يهدهد قلوب الجماعة الشعبية، ويعزِّيهم بمواجعهم، لامتلاكه حسًّا فطريًّا أرشدَه إلى الفن الملائم لأحزانه هو نفسه، ومكابداته المشتركة مع البُسطاء الذين قاسمهم أيام الشقاء والعَوز.
ولتلمُّسه هموم ذَويه اليومية، أقبلوا عليه جماعات لأنه يموّل أشجانَهم ويُريح قلوبهم، فتجاوز توزيع أسطواناته الأولى مليون نسخة وأقبلتِ الأرباح الطائلة عليه أكثر من الهموم زمان.
كانت مُفاجأتى الأسعد طيبته الشخصية، وخيريته تجاه أهله، وعموم الناس، ورأيت أفعالًا طيبة له هزت مشاعرى مثل أغنيته التى سمعتها مُصادفة فى التاكسى.
حين سلمتُ الحوار إلى الأستاذة «سناء البيسى» جلست مع المخرج لتوضّبَه بنفسها على خمس صفحات، واختارت صورًا مميَّزة، ومن عاداتها المحمودَة أنها تشارك بدأبٍ فى رسم مُجمل صفحاتِ المجلة بحسِّها التشكيلى وخبرتها الذهبية.
رافقنى زميلى المصور البارع «محمد حجازى»- رحمه الله- إلى بيته خلفَ «المحكمة الدستورية»، فى المعادى، وعلى بابه استقبلتنا «سيدة قصيرة جدًّا»، يبدو أنها ولدت بإعاقات جسدية مُركَّبة وجَسيمة، لكنها ترتدى ملابس نظيفة جميلة، وتمتلك ملامحَ بشوشة، وتتحرَّك بعَرَج مؤلم، وتتحدث بثقة مدهشة، فقدَّمت نفسها بأنها «مديرة المنزل».
دفعنى فُضولى بعد قليل لسؤال حماة عدوية التى استلطفتها كثيرًا عن تلك السيدة فى لحظة ملائمة، فقالت:
«أحمد ابنى الله يكرمه، التقاها فى يوم برد قوى، بتكِتك يا عينى فى الشارع، وحيدة وجعانة، ولمّا عرف إن ملهاش حد جابها معاه، ولغاية اللحظة دى يسأل باهتمام عن أكلها ولبسها وراحتها يوميًا قبلنا كلنا، ولأنه عاوز يرضيها ويعطيها قيمتها خلاها مديرة المنزل، علشان يحسِّسها إنها بتعمل حاجة مهمَّة، وعمل لها مرتَّب شهرى بيحوّشه لها كله، ويكسيها، ويجيب لها دهب وهدايا على طول، والحقيقة هى فهمت أمور البيت كويس قوى وبشطارة، وما حدش فينا يقدر يزعَّلها، يبقى يوم ما يعلم به إلا ربنا عنده إذا حد غلط وزعَّلها لأى سبب، حتى لو هى غلطانة يقف فى صفّها دايمًا، ويطيّب خاطرها، الله يكرمه كأنها أخته أو بنته».
حين سألته أثناء الحوار عن السيدة مديرة المنزل، لم يقل أى شىء مما ذكرته حماته، وردَّد مواله الشهير «عجبى عليك يا زمن» بشجنٍ آسر:
عجبى عليك يا زمن.. بترسِّى ناس عالبر
وناس غلابة.. رزقهم من خُرم إبرة يُمر
عايشين كده فى المحن ولا شافوا لحظة تسر
وناس كده ألوان.. شبعان يُزقّ جعان
وناس تواصل ضحكها.. وناس بتمسح دمعها
وناس بتشرب عسل.. وناس بتشرب مُرّ
عجبى على فرعين كان أصلهم واحد
واحد غرز فى الطين واللى طلع واحد
دا موزع الرزق ما بينساش ولا واحد
بدتْ قفلتُه الشجية تحفيزًا للمآقى لتتطهَّر بملح الدموع!
وحين سألته عن أهله امتنع عن الكلام، وتلفَّت حوله كأنه يبحث عن سؤال مختلف، وتطَّوع مَن حوله بالإجابة، وذكروا أنه بنى لهم عمارة وجمعَهم فيها، ولا يزال يواظبُ على مُساعدتهم بعيدًا عن أى أحد فى البيت، ولا يَقبل تدخلًا ولا مشورة فى ذلك الأمر.
أدَهشنى أكثر أنه إلى وقت جلوسى معه كان يصرُّ على مساعدة مئات الشباب على السفر إلى دول الخليج للاسترزاق، واستخرج لهم جوازات السفر على نفقته، ومنحهم ثمن تذاكر الطيران، مستغلًا علاقاته المباشرة بالعرب الذين يسهرون أمامه وهو يغنى، وساعد عشرات الشبان على استكمال تعليمهم الجامعى، بعضهم تخرج فى الجامعة الأمريكية مثل أولاده.
همست لى حماته أنه يهبُّ لنجدة أى أحد دون طلب، ويؤكد عليهم كلَّ يوم ألا يغلقوا باب البيت أبدًا طوال النهار!
كان حوارى معه من ألطف ما صادفت، فإذا استغرب سؤالًا أو أحسَّ أن إجابته صَعبة عليه، يصيح: «تعالى يا ونيسة شوفى الأستاذ بيقول إيه»..
نضحكُ جميعًا بمودَّة، وتغطى حماته وجهها المضىء بطرحتها البيضاء وهى تضحك، وتضحك زوجته وهى تجيب بطلاقة على أى سؤال.
استفسرتُ منه أكثر من مرة عن كلمات أو مقاطع من أغانيه، فلم يكن يتذكرها بشكل مباشر، لا بدَّ أن يغنى الموال من بدايته حتى يصل إلى المقطع الذى قصدته، ويظل يردده وهو يفكر فى سؤالى، ويمكن أن يردَّ بموال، أو بخفة ظل يُنادى ونيسة. لنعاود الضحك ويُشاركنا الضحك، وهو يتنقل بيننا بنظرات مُستطلعة يضيئها حياء طفولى.
قال جازمًا فى إجابته على دور المال الغزير فى حياته بعد حرمانه الشديد فى طفولته:
«المال مَعمول لراحة بنى آدم، لكن الأهم إن أى حد ربنا يفتح عليه ما ينساش أهله وناسه مهما عملوا فيه قبل كده..».
وأطلقَ لصوته العنان وهو يضع يده على أذنه مثل المقرئين:
يا عين يا ليل.. يا عين يا ليل
يلّلى معاك القرش والأيام ضحكت لك
يلّلى معاك القرش.. خلّلى بالك.. دى الأيام ضحكت لك
وصرفته على ناس ما تسواش ضحكت لك
ودُست عالقُرب لما الغُرب ضحكت لك
بكره هتشبع ندم.. يلّلى الغرور ماليك
داير تبعزق وتصرف.. على الردى ماليك
وملت ويا الغلط لما الغلط ماليك
والدنيا ضحكت عليك وفاكرها ضحكت لك
آه.. آه.. آه.. إييه.. إييه.. إييه
حين وصلت الأسئلةُ إلى الحالات «اللى بتاخده فيها الجلالة»، و«التقسيم بمزاج وسلطنة»، ويبدو أن مزاجه فى ذلك اليوم كان رائقًا، غنّى لنا بلا تردد عددًا كبيرًا من مَواويله بصوت أحسستُه أكثر عذوبةً بدون الموسيقى، كأنه يغنّى لنفسه، للاستمتاع، ولاحظت إعجابًا كبيرًا فى عينى زوجته، وسمعت حماته تدعو له بصوت خفيض «ربنا يحميك ويسترك»:
يا ليل.. يا ليل.. يا ليل.. يا ليل
ياما فيك مواجع يا ليل.. يا اااليل
تخون عيشى ليه وأنا بإيدى خبزتولك
تخون عيشى ليه وأنا بإيدى طعمتولك
وتبوح بسرّى ليه.. ما أنا سرك كتمتولك
وخاين العيش يا ربى اشتكيتو لك
ولأول مرة كنت أعرف أنَّ بعض الكبار كتبوا ولحَّنوا له خصيصًا، مثل مأمون الشناوى، وبليغ حمدى، وسيد مكاوى، وآخرين. وتوقَّفت كثيرًا أمام محبَّته لـ«عبدالحليم حافظ» ومحبة العندليب له، تداخل صادق بين الرومانسية والوطنية والشجن الشعبى المريح للقلوب.
ذكر أنَّ حليم كان يطلبُه عادة فى بيته ليغنى أمام ضيوف كبار عنده، وحكى أن حليم رآه فى حفل كبير فغنى معه العندليب «السح إدح امبو»، وبحثت عنها لاحقًا وسمعتها، وأعجبنى أداءُ العندليب لها.
يبدو أنه اكتسب من حوارات سابقة عادة الرَّد بالغناء كأفضل وسيلة للهرب إذا عجزَ الكلام عن إسعافه بالإجابات، ولأنه لا يحب استدعاء السيدة «ونيسة» طوالَ الوقت، ووجد فى مواويله ما يكفيه للرد على أغلب الأسئلة، وحين سألته بتردد عن مأساته الصحية المعروفة، وقد أشفقت عليه حين رأيته يجرُّ قدميْه «يشطحها» أثناء مشيه ويحدث جلبة بنعليه، لكن معنوياته كانت عالية، فغنى لنا ثانية:
يا ليل يا ليل.. يا عينى يا ليل
الصاحب اللى يخون عيشك لا بد يوم تنساه
والخسيس خسيس مهما الزمان علَّاه
والأصيل أصيل يا عينى لو معدنه جاه
والأصيل أصيل يا عينى ومعدنه جاه
والدهب دهب لو فى التراب تلقاه
سألت زوجته عن حقيقة أنها كانت تأكل شيكولاتة بعشرين جنيهًا فى اليوم خلال السبعينيات، وكانت العشرون جنيهًا رقمًا كبيرًا تقريبًا تساوى راتبًا شهريًا لبعض الموظفين، قالت:
«مش صحيح.. أصل الأستاذ مفيد فوزى كان عندنا هنا مرّة، وقدّمنا له شيكولاته، فسأل الحتَّة دى بكام؟، فقلت له بعشرين جنيه بدون قصد، وسألنى بتاكلى منها قد إيه فى اليوم؟ فقلت ممكن آكل واحدة طوال اليوم، قصدى، إنها كبيرة لدرجة إنها تتاكل فى يوم كامل، لكنه كتَب بعدين إنى آكل واحدة كل يوم، يعنى باكل شيكولاته بس بستميت جنيه فى الشهر، ودا كلام مش معقول وما حصلش أصلًا، لأننا مهما كان نعرف نصون نعمة ربنا، ولا نفتريش».
التزم «محمد» ابنه، وابنته «وردة» الصمت طوال الجلسة، فقط كان يضحكان معنا، وسألت عدوية عن رأيه فى غناء ابنه «محمد» فقال بلا تردد بقلب الأب:
«محمد أحسن منى بكتير».
علَّق محمد بتهذيب: «والدى هو الأصل.. ومالوش زىّ فى الموال».
وقالت وردة إنها تحب الغناء، ولا تغنى.
اقترح زميلى «محمد حجازى» أن ننزل إلى الشارع ليصورّه أمام منزله، ووجدنا تحته «محل حلاقة» فقال لنا «عدوية» إنه أجَّر له المحل مخصوص ليستطيع تهذيب شعره فى أى وقت بسهولة، وصوَّره «حجازى» على كرسى الحلاقة، وفى الشارع وهو يرفع يديه كما يفعل أثناء الغناء بعفوية مُدهشة، وكانت الصور لا تقل أهمية وجمَالًا عن الكلام، وكلّ ما عرفته عنه من بساطة، وخفَّة ظل، وأيقنتُ أنه فنان شعبى لاقى نجاحًا فائقًا، وضاعف النجاح جمالُ طباعه الإنسانية، ولا ذنب له فى فساد الانفتاح الذى اكتسح مصر، ولا.. ولا تزامن نجاحه مع رياح «البترو دولار» التى هبَّت على واقعنا، وأثرت سلبًا على كثير من قيمه.
فى طريق عودتنا إلى الأهرام، كنتُ سعيدًا على نحو ما، وشعرتُ تجاه «أحمد عدوية» الطيب بمحبَّة شخصية، واسترحت لتغيير مفهومى الخاطئ، ورددتُّ مواله الذى يشهد فيه لنفسه بثقة:
ولا كل من قال موال الناس تقول له.. الله يا أمير
دا أنا من صغر سنِّى وأنا بغنِّى لبنت الأمير
يادى الزمان الردى اللى كترت فيه المغنواتية
ولا كل من قال موال.. الناس تسمعه زى أحمد عدوياااااا
الكتاب: صاحبة الجلالة لا تمسح البلاط.. من حكايات الصحافة
المؤلف: أسامة الرحيمى