الخميس 10 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

سيرة ومذكرات..

حصـاد زكى نجيب محمود

زكى نجيب محمود
زكى نجيب محمود

- وقع «تغريدة البجعة» فى نفس زكى نجيب محمود وهو يكتب آخر مؤلفاته «حصاد السنين»

- وصفه «العقاد» بأنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة

- سيرته الذاتية ترصد تحولاته الفكرية

«السيرة والمذكرات» منطقتى المفضلة فى القراءة من صغرى، فيها وجدت سحر الحياة وسرها، جنونها وحكمتها، فرحها وغضبها، وأيضًا رضا الإنسان وتمرده، تجبره واستسلامه، توهجه وانطفاءه، وفى مساحات متباينة بين الواقع والخيال، الصدق والكذب، الزهو والتواضع، الحب والكره، الحلو والمر، قضيت الأيام والليالى خاصة فى سنوات التكوين، فلم أجد سيرة ومذكرات المشاهير فى مختلف المجالات إلا قصص نجاح مُلهمة، بخلاف أنها جاءت دائمًا مدخلًا لقراءة دفتر أحوال البلد فى حياة صاحب السيرة أو المذكرات، كل هذا مَثل الدافع الأكبر نحو التخصص بالأساس فى هذا المجال وقتما أصبحت ناشرًا، وهنا فى «حرف» نفتح ملفًا نستعرض فيه بعضًا مما قرأت فى «السيرة والمذكرات».

نشأت فى الأساس على قراءة جريدة الأهرام، كانت أول ما قرأت من الصحف اليومية، وهى عادة لم تنقطع حتى الآن على مدار أكثر من أربعين عامًا، ولا يغيب عن ذاكرتى مشهد وصول الجريدة صباح كل يوم واستقرارها فى مكانها على أحد مقاعد صالة المعيشة فى بيتنا الكبير بحى السيدة زينب، مع تنبيه يومى متكرر من أمى، ربنا يبارك فى عمرها وصحتها، بألا نقترب من الجريدة حتى يقرأها والدى، رحمة الله عليه، سياق يدفعك دفعًا وأنت بعد تكتشف الدنيا وما فيها لأن تطالع هذه الأوراق وما تحتويه يجعل الجميع يقف لها انتباهًا وتقديرًا وإجلالًا بهذا الشكل، فإذا ما التزمت التعليمات حتى وصلت لسن القراءة، اكتشفت أنها بالفعل نافذة ثمينة على الحياة.

كانت «الأهرام» فى هذا الوقت من أوائل الثمانينيات وطوال سنوات طويلة بعدها تُغنيك عن قراءة كُتب، أو تصبح إذا عشقت مدخلك لقراءة الكُتب بما تضمه يوميًا من صفحة كاملة مخصصة لمفكر أو أديب أو ناقد أو كاتب صحفى، بخلاف تعدد الرؤى والدراسات والتقارير على طول صفحاتها وأبوابها، من خلال الأعمدة والزوايا الصحفية ومساحات طرح القضايا والآراء ونشر القصص القصيرة والروايات فى حلقات مسلسلة، ترتبط بهذا أو ذاك من المفكرين والكُتاب والأدباء فتذهب تبحث عن مؤلفاته بعدما تعرفت عليه وحاز اهتمامك على صفحاتها، ومن هؤلاء فى حياتى كان المفكر الفيلسوف الدكتور زكى نجيب محمود، تعرفت عليه من خلال مقاله الأسبوعى كل ثلاثاء فى «الأهرام» قبل أن يصبح بعدها أحد أهم المؤثرين فى حياتى وخاصة فيما يتعلق بنعمة العقل والحياة تحت مظلته.

زكى نجيب محمود

من هو ؟

بكل أسف لم يأخذ الدكتور زكى نجيب محمود نصيبه المستحق من الشهرة والأضواء، كأى وكل صاحب مشروع حقيقى انحاز لقيمة مشروعه فزهد الظهور والأضواء إلا قليلًا، ولعل إسهام أساسى فى الموضوع أنه «فيلسوف» بما يوصَم به صاحب الوصف جهلًا قبل أن يكون ظلمًا وعدوانًا من آفة الإلحاد بما تقيمه من حاجز نفسى بين الفلاسفة والجمهور، وهو ما يجعلك تحتاج لأن تُعرِف به كلما ذكرت اسمه فى مناسبة أو أخرى، فهو من مواليد قرية ميت الخولى التابعة لمركز الزرقا بـ«دمياط» فى فبراير ١٩٠٥، وتُوفى عن عمرٍ ناهز وقتها ٨٨ عامًا فى سبتمبر ١٩٩٣، حفظ القرآن بكُتاب القرية قبل أن يلتحق بمدرسة السلطان مصطفى بحى السيدة زينب، بعدما انتقل مع أسرته إلى القاهرة حال تعيين والده بمكتب حكومة السودان بالقاهرة، أتم تعليمه الثانوى ما بين السودان والقاهرة ثم التحق بمدرسة المعلمين العليا، والتى تخرج فيها ليقوم بتدريس الفلسفة حتى سفره إلى إنجلترا فى سبيل الحصول على درجة الدكتوراه فى الفلسفة وحصل عليها من جامعة لندن سنة ١٩٤٧.

مشروعه الفكرى

المشروع الفكرى لفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة زكى نجيب محمود، كما وصفه «العقاد»، مر بثلاث مراحل، الأولى فى مصر وامتدت حتى سفره إلى أوروبا، وفيها انشغل بنقد الحياة الاجتماعية فى مصر وتقديم نماذج من الفلسفة القديمة والحديثة والآداب التى تكشف الجانب التنويرى، وتمثلت جهوده فى هذه المرحلة فى ثلاثة كتب شارك فى تأليفها المفكر الأستاذ أحمد أمين، وهى «قصة الفلسفة اليونانية» و«قصة الفلسفة الحديثة» و«قصة الأدب فى العالم»، وكانا قد تعارفا بمجلة الرسالة التى أسسها الأديب أحمد حسن الزيات عام ١٩٣٢، وبعدها ضم «أمين» زكى نجيب محمود إلى لجنة التأليف والترجمة والنشر التى كان يترأسها، وتضم فى عضويتها عددًا كبيرًا من أعلام العصر وكبار رجال الأدب والفكر والفلسفة.

أما المرحلة الثانية فبدأت بعد عودته من أوروبا وامتدت حتى الستينيات من القرن الماضى، وفيها انشغل زكى نجيب محمود بالدعوة إلى إعادة التأسيس لقيم المجتمع العربى وفقًا للنمط الأوروبى، والأخذ بحضارة الغرب كمثل وقدوة باعتبارها حضارة العصر، بما تشتمل عليه من العلوم التجريبية والرياضيات، وتقاليد تقدير العلم والجدية فى العمل واحترام حقوق الإنسان وآدميته، وهى القيم المفتقدة فى العالم العربى، وفى هذه المرحلة وجه الدعوة إلى الفلسفة الوضعية المنطقية وسخر جهوده لشرحها وتبسيطها، وهى الفلسفة الداعية إلى سيادة منطق العقل، وإلى رفض التراث العربى وعدم الاعتداد به، وعبرت مؤلفاته فى هذه الفترة عن هذا الاتجاه مثل «الفلسفة الوضعية» و«خرافة الميتافيزيقا».

فإذا ما جاءت المرحلة الثالثة عاد مجددًا إلى التراث العربى قارئًا وباحثًا ومنقبًا فيه عن سمات الهوية العربية التى تُشارك فيها الغرب، وانشغل طوال هذه المرحلة بثنائيات الحدس والعقل، الروح والمادة، القيم والعلم، داعيًا إلى فلسفة جديدة برؤية عربية خالصة تبدأ من الجذور ولا تتوقف عندها، ومُناديًا بتجديد الفكر العربى والاستفادة من تراثه، وفى هذا كان يرى زكى نجيب محمود أن ترك التراث كله هو انتحار حضارى، لأن التراث به لغتنا وآدابنا وقيمنا وجهود علمائنا وأدبائنا وفلاسفتنا، وكان يتمنى ألا نعيش عالة على غيرنا، وإنما نشارك فى هذا العالم بالأخذ والهضم والتمثيل، ثم إعادة إفراز ما أخذناه مثلما فعل المسلمون من قبل حينما أخذوا العلم والفلسفة الإغريقية وهضموهما ثم أفرزوهما وزادوا عليهما، كان يرى أيضًا أن السر وراء تخلف العالم الإسلامى المعاصر هو أنه يكتفى بحفظ القرآن الكريم وترديده دون العمل بما يشير إليه من وجوب العلم بالكون وظواهره، فإذا تنبه المسلم إلى أهمية البحث العلمى فى الكون وما يضمه من ظواهر الضوء والصوت والكهرباء والمغناطيسية والذرة وغيرها، وأيقن أنه فرض دينى وأن هذا كله مما يشجع عليه ديننا، لكان المسلم الآن هو صاحب العلم وجبروته، ولكان الآن من راكبى الصاروخ وغزاة الفضاء، ولكان هو الآن صاحب المصانع التى تأخذ من البلاد المتخلفة موادها الخام بأقل ثمن قبل أن تردها إليه مصنوعات بأغلى سعر، فيكون الثراء من نصيبه والفقر من نصيبنا، لكن المسلم لم يعقل ذلك كله وظن أن العبادة وحدها هى ظاهر الأمر الإلهى وباطنه.

زكى نجيب محمود

قصة نفس

كتب المفكر الفيلسوف زكى نجيب محمود سيرته الذاتية بما يواكب مشروعه الفكرى، جاءت هى الأخرى فى ثلاثية على أزمنة متباعدة تكاد تكون متزامنة مع تحولات مسيرة حياته الفكرية كما أوضحنا، الكتاب الأول فى هذه الثلاثية جاء تحت عنوان «قصة نفس»، ونُشِرَت طبعته الأولى سنة ١٩٦٥ قبل أن تتوالى طبعاته الجديدة المُنقحة عن «دار الشروق» اعتبارًا من عام ١٩٨٣، والتى صدرها الفيلسوف الفذ بمقدمة كان مما كتبه فيها:

«صدرت (قصة نفس) فى طبعتها الأولى سنة ١٩٦٥، وكان الكاتب قد بناها على مبدأ فنى ارتآه لنفسه إذ ذاك، وهو أن يروى قصة تلك النفس من الباطن لا من الظاهر، بمعنى أن يكون محور الاهتمام بالخلجات الداخلية قبل أن يكون بالأحداث الخارجية، فتلك الأحداث الخارجية على مرأى من الناس ومسمع، وأما التأثرات الداخلية التى استثارتها تلك الأحداث فى دخيلة النفس، فتحتاج إلى بصيرة نافذة إلى العمق، لكن لما كان جزء كبير من خلجات النفس فى استجابتها للظروف والعوامل المحيطة بها، هو مما يود صاحب تلك النفس أن يخفيه عن الناس، فقد اضطر الكاتب إلى اللجوء إلى الرمز، فلا الأشخاص يذكرهم على حقائقهم وأسمائهم، ولا الأحداث نفسها يصورها دائمًا كما وقعت بالفعل».

لا تستبق الحكم فتأخذ انطباع الشك تجاه مصداقية الرجل أو حرجه فيما كتب فى الكتاب الأول من سيرته، فهو فى سياق حكيه لم يستطع الالتزام بقواعد الرمزية التى قدم لها، والأكثر أنه مع إعادة طبع «قصة نفس» بعد نحو عشرين عامًا من نشرها لأول مرة، تحرر زكى نجيب محمود كثيرًا من قيوده، ولعله أصبح أقل حيرة وأكثر حرصًا على إحكام قوالب فنية تجاهلها نسبيًا فى طبعتها الأولى.

قصة عقل

الكتاب الثانى من سيرة المفكر الفيلسوف زكى نجيب محمود، صدرت طبعته الأولى سنة ١٩٨٣ بالتزامن مع إعادة طبع «قصة نفس» كتاب سيرته الأول، ولا يمكن تجاهل عامل السن وأنت تقرأ «قصة عقل» والذى كتبه الرجل وهو على مشارف الثمانين من عمره، فذروة النضج واكتمال المشروع واضحة فى استعراض سيرة عقله طوال مسيرته الفكرية بعدما وثق سيرة نفسه وتكوينها وحيرتها فى «قصة نفس» قبلها بنحو ثلاثة عقود، دعنا نسمع وجهة نظر زكى نجيب محمود كما جاءت فى مقدمته:

«منذ أن أحسست بغياب الحياة العقلية من (قصة نفس) نشأت عندى الرغبة فى أن أعقب على (قصة نفس) بتوأم لها أسميه (قصة عقل)، ولبثت تلك الرغبة حائرة، تظهر لحظة لتعود فتختفى، حتى أراد لى الله توفيقًا فأخرجتها إلى دنيا الناس».. ويستطرد فى نهاية المقدمة: «كان الفرق كبيرًا بين صورة حياتى كما رأيتها فى (قصة نفس) وصورة حياتى كما رأيتها وأنا أكتب (قصة عقل).. فى الحالة الأولى رأيت (نفسًا) صنعها آخرون فتلقيتها راضيًا بها أو مرغمًا عليها، وفى الحالة الثانية رأيت (عقلًا) صنع نفسه بنفسه، وهو راضٍ كل الرضا عما صنع، ويحمل تبعته أمام الله وأمام الناس، ومع ذلك فإننى لشديد الرغبة فى أن يقف التوأمان معًا جنبًا إلى جنب أمام القراء، ولهذا فقد صحت عزيمتى- بإذن الله- أن أدفع بقصة النفس إلى الحياة من جديد، بعد شىء من المراجعة أتجنب به بعض ما لحظته من أوجه النقص فى تكوينها الأدبى».

حصاد السنين 

لا يُعد «حصاد السنين» ختام ثلاثية سيرة المفكر الفيلسوف زكى نجيب محمود وفقط، بل هو آخر ما كتب بالفعل وعمره وقتها يناهز ٨٥ عامًا قبل أن تُنشر طبعته الأولى عن «دار الشروق» سنة ١٩٩١، وفى مقدمته يقول: 

«أحس الكاتب أنه، قد بلغ الخامسة والثمانين من عمره، وانتابته عوامل الضعف والمرض، أنه قد اقتربت سيرته الثقافية من ختامها، مما أوحى له بأن يكتب هذا الكتاب ليقدم إلى قارئه صورةً للحياة الثقافية كما عاشها أخذًا وعطاء، وهى حياة طال أمدها حتى بلغ- عند كتابة هذه السطور- ما يزيد قليلًا على ستين عامًا، بدأت قبيل سنة ١٩٣٠، وطالت حتى أوشك الزمن على الدخول فى سنة ١٩٩١، ولقد حرص الكاتب أشد الحرص على أن يصور حياته العلمية والأدبية خلال هذه الفترة الطويلة، فى نزاهةٍ يتجرد بها عن الهوى ما كان ذلك فى مُستطاع البشر».

كان «حصاد السنين» هو أول ما قرأت لـ«زكى نجيب محمود»، ومنه دخلت عالمه الفكرى الممتد امتداد الأفق عبر أكثر من أربعين كتابًا تنوعت ما بين المؤلفات الفلسفية والأدبية والترجمات، ومنها عرفت أن سيرته الذاتية قوامها من مؤلفاته ثلاثيته «قصة نفس» و«قصة عقل» و«حصاد السنين»، المكتوبة فى محطات مختلفة من عمره، والمرتبطة فى كل محطة بتحولات فكرية لم يخجل منها يومًا زكى نجيب محمود، بل كان يراها تحولات منطقية فى مسيرة مفكر وفيلسوف ترك عقله دائمًا يسود، وقد أعدت قراءة ثلاثيته السيرية أكثر من مرة فى مراحل مختلفة من عمرى الخمسينى، وصداها فى تكوينى الفكرى والوجدانى ألمسه مؤثرًا وشاخصًا فى «الحيرة» و«اليقين» و«تغريدة البجعة».

أراك مُندهشًا من وقع تعبير «تغريدة البجعة»، ولعلك تسأل نفسك عن معناه، تعرفت عليه لأول مرة من خلال رائعة زكى نجيب محمود «حصاد السنين»، يقول فى الفصل الأول من الكتاب ويحمل «تغريدة البجعة» كعنوان:

«يُقال عن البجعة إنها إذا ما دنت من ختام حياتها، سُمعت لها أنات منغومة تُطرب آذان البشر، ولا يمنع طربها أن تكون تلك الأنات صادرة- على الأرجح- من ألمٍ يكويها، ومن هذه التغريدة الجميلة قُبيل موتها جاء التشبيه عند أدباء الغرب الذى يصفون به عملًا جيدًا أنجزه صاحبه ليختم به حياته، إذ يقولون عنه إنه تغريدة البجعة، وقد أراد هذا الكاتب أن يقولها عن نفسه، لأنه لا يتوقع أن يقولها عنه سواه».

مسحة مرارة تلمسها فى عبارات زكى نجيب محمود وهو يتحدث واصفًا تغريدة البجعة وارتباط المعنى بالمنجز الأخير لأدباء الغرب وبه شخصيًا وهو يكتب «حصاد السنين» بيقين أنه خاتمة أعماله وكلمته الأخيرة، فلم يكن الرجل يستشعر وقتها تقدير شخصه ومشروعه الفكرى حق قدره تمامًا مثلما كان حال عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين فى خواتيم أيامه، والحقيقة أنهما وغيرهما لهم جميعًا كل الحق، فالتقدير لا يكون بمنح الجوائز وتقليد الأوشحة والنياشين وفقط، وإنما التقدير الحقيقى يكمن فى التوقف عند منجزات المفكرين والمبدعين، والاستفادة بما أتت به من رؤى وأفكار وبحوث ونتائج، ودراسة كيفية الوصول بها إلى جموع الناس، آملين أن تلعب دورها فى إعادة صياغة العقل الجمعى المصرى، وهو الطموح الأكبر لمفكرينا فى القرن العشرين، وبكل أسف لم يتحقق بعد.