الأحد 03 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

زين عبدالهادي يكتب: قلـبى مليان بحكايات.. مفهوم الحياة والموت لدى المصريين

حرف

- مى مختار مسكونة بروح مصرية فى غاية العمق.. الملابس واللكنة والإفيهات والضحكة والملامح والأطعمة والتعامل الواضح والبرىء مع العالم

علميًا القلب يتذكر ويتعاطف وينفعل، كما أنه يمثل نوعًا من الذاكرة للإنسان، فإذا فشل العقل فى التذكر فإن القلب يقوم بدوره فى ذلك، ولأن «حكايات مى مختار» هى حكايات عن الحنين إلى الماضى، هذا الحنين الذى ولد فى رحاب الجمالية، الأرض المقدسة للإمام الحسين، والأزهر، وطبوغرافيا شارع المعز لدين الله الفاطمى، ومقهى الفيشاوى وخان الخليلى وكتابات نجيب محفوظ أديب نوبل الخالد، وجمال الغيطانى مؤسس أخبار الأدب وأحد أهم الأصوات الروائية المصرية فى القرن العشرين، هى ابنة كل هؤلاء.

هذه الدائرة الصغيرة التى يعد أشهر كتابها نجيب محفوظ وجمال الغيطانى، وهناك أجيال كثيرة تنتمى لهذا الحى التاريخى منهم مى مختار، التى تحاول أن تدلى بدلوها فى القصة القصيرة والرواية المصرية متأثرة بحياتها فى هذا الحى التاريخى العتيق، ولكل كتابته ولونه وطريقته وإيمانه فيما يكتب عنه.

تتميز بحس إنسانى وعاطفى نحو مسقط رأسها الجمالية، لكل منا نهر مختلف من الأدب يحاول صياغته بأن تتعاطف معها روحه أولًا، حكايات مى مختار تتضمن خمس وعشرين حكاية، قصصًا قصيرة عن الحياة فى الجمالية خلال النصف قرن الماضى، وهذا هو العمل الثالث لمى وهو أكثر نضجًا بكثير من سابقيه، لقد تماسكت النصوص وأصبح هناك خط واضح لكتاباتها، معجونة بتفاصيل الأحداث والعادات والتقاليد وثقافة الأسرة المتوسطة فى قلب مصر العتيقة، وكذلك لمواظبتها على حضور العديد من الندوات الأدبية، وقراءاتها الكثيرة لكل ما يتصل بالرواية والشعر فى مصر والعالم العربى.

القاهرة المملوكية هى محطتها المفضلة ومهما حاولت الخروج تكتسى حكاياتها عن القاهرة المملوكية فى حياة الأسرة المصرية مكانتها التى تحظى بحس عال فى الكتابة، من الأزهر للحسين للغورية لحارات تمثل علامات تجارية فى تاريخ مصر من العصر المملوكى حتى اللحظة الحالية، إنها تهدى عملها لبيتها القديم وسريرها النحاسى، وسجادة الصلاة وطرحة ستها، ولأول قصيدة كتبتها، وأصوات الطرب الأصيل صوت نازك وأحلام وعبده السروجى وأم كلثوم وبروش ستها الألماظ، وكراسة الرسم ومدرس اللغة العربية وأمين المكتبة، وعمال قهوة الفيشاوى والانكسارات والابتلاءات والانتصارات، هذا التقديم بجانب مجموعة من الشخصيات التى ترى أنهم فى غاية الأهمية فى حياتها، هذا التقديم يفرض على المجموعة صدق ما بعده صدق.

تتحدث مى عن حياة شاهدتها وما زالت، وإذا تطلعت لمى جيدًا ستدرك أنها مسكونة بروح مصرية فى غاية العمق، الملابس واللكنة والإفيهات والضحكة والملامح والأطعمة والتعامل الواضح والبرىء مع العالم، هذا هو قدرها أن تكون مصرية قلبًا وقالبًا دون أى ادعاء أو تطرف، وهذا هو عالمها فى الكتابة، تمتلك من القدرة على الوصف ما يعجز عنه الكثيرون من كتّاب القصة، ندرة فى تسجيل تفاصيل الحياة فى القاهرة فى النصف الثانى من القرن العشرين اعتمادًا أيضًا على حكايات النصف الأول سواء التى حكيت لها أو قرأت عنها، هذا العالم الغزير بأحداثه وتفاصيله المدهشة، لكنها أيضًا تختار شخوصها بعناية فائقة، هؤلاء الناس الذين يعكسون روح الحارة المصرية الذين تتمثل فيهم البساطة المفرطة والبراءة المفرطة وسهولة قراءتهم دون معاناة كبيرة، عالمها البرىء تمامًا المدهش الذى يذكرك أحيانًا بقصص ألف ليلة وليلة.

القصة التى افتتحت بها المجموعة بعنوان «لحاف قطن» توحى بدأبها الدائم فى بناء قاموس للمصطلحات المستخدمة فى بيوت تلك الطبقة، يكاد يختفى اللحاف القطن الآن من الحياة المصرية فقد غطت الأنسجة المستوردة الآن كل شىء، تحكى ذكريات صنعه مع جدتها بتفاصيل لا يمكن أن تكون منقولة من كتب أو أفلام، الحياة المصرية لا تكشف عن أسرارها إلا لمن عاشها بكل تفاصيلها المدهشة. هذه القصة تتكون من مشهدين متداخلين عبر إطار زمنى قصير، المشهد الأول لبطلة القصة الحفيدة وجدتها ومشهد الحفيدة التى أصبحت زوجة ولها ابنة تحاورها كما كانت تحاور هى جدتها، يتداخل المشهدان مكونان نوعًا من موزايك الحكى اللطيف والسلس، وكان ذلك أثناء تجديد الجدة للغطاء الخارجى للحاف الذى له غطاء فى الأصل من الساتان «الحرير» الأخضر الثمين، وهى تصف بسلاسة تحسد عليها عملية تلبيس اللحاف لغطاء من «البفتة» البيضاء حماية لمظهره الخارجى أثناء حفظه فى فصل الصيف وإخراجه فى فصل الشتاء كأنه جديد، سألت جدتها فى براءة: 

«إنت ليه مش بتتغطى باللحاف وشايلاه فى سحارة الكنبة؟». 

هذه الجملة البسيطة على لسان طفلة لا يمكن أن تقال إلا بين المصريين، العامية هنا لا تبوح بأسرارها بسهولة، تلجأ السيدة مختار لهذه الحوارات للتعبير عن واحدة من أهم قضاياها وهو استعادة الروح المصرية الحقيقية فقد غطى الزيف كل شىء، وأعتقد أن ذلك واحد من أكبر همومها وهو أن الحداثة غطت الحياة الأصيلة للمصريين بكل ما فيها من تراث وعادات وتقاليد لا يجب أن نتخلى عنها أبدًا.

مي مختار

ترد عليها جدتها:

«اللحاف سترة ومسيرى أتغطى بيه».

كان رد جدتها عليها ملغزًا، لم تفهم المعنى فى هذه اللحظة، وكانت هى وجدتها أثناء خياطة أطراف اللحاف يترنمان بألحان تلك الأغانى الشهيرة فى نهاية السبعينيات والتى تعود بتاريخها إلى منتصف الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، تنتقل فى نفس المشهد وببراعة إلى مشهد آخر حيث نفس الابنة أصبحت أمًا ولها ابنة وهما تخرجان اللحاف من السحارة، فتسألها الابنة «واخدة اللحاف ورايحة على فين؟»، تتداخل المشاهد بين الجدة وحفيدتها وبين الحفيدة التى أصبحت أمًا وابنتها، «اللحاف سترة»، حين ماتت الجدة تمت تغطيتها باللحاف الذى يستخدم أصلًا فى الوقاية من البرد أو كغطاء يحمى أسرار ما تحته، لكن معنى الموت وعلاقته باللحاف عميق هنا للغاية، فتغطية الميت وكفنه باللحاف طقس مصرى قديم أيضًا إلى حين توديعه لقبره، وتغطية اللحاف للجسد هو ستر له من البرد والعيون المتلصصة، هذا يعيدنا لمفهوم الموت فى التراث المصرى القديم، فالموت هو بعث للحياة من جديد، لذلك يصبح الاهتمام باللحاف وتجديده والحفاظ عليه هو استخدامه فى الحياة والموت معًا، الحفيدة أثناء وداعها لجدتها وبعد وضع اللحاف على الكفن تقول إحداهن للطفلة:

«لحاف ستك ده مفيش منه دلوقتى ده كأنه جديد». 

صحيح أنها لم تهتم بكلام الجارة وقتها إلا أن الجملة اخترقت روحها، هذا اللحاف القديم الذى ورثته عن جدتها، فأثناء دفن جدتها يزيح عامل الدفن اللحاف عن الكفن فتلتقطه الحفيدة وتحضنه بشدة وتستكمل تنفيذ وصية جدتها لها أن تمنحه عن طيب خاطر لزوجة حارس المدفن، قائلة لها:

«وصتنى ستى أيامها الأخيرة اللحاف ده عشانك». 

لقد قام اللحاف بدوره خير قيام فقد ستر جدتها أثناء موتها، وستر زوجة حارس القبر فى حياتها، هذه هى تراثيات الطبقة المصرية الوسطى القديمة، التى كانت تعيش بين ضفتى الحياة والموت، يمكنها اقتناء شىء نادر وتمنحه ببساطة للفقراء، لا أشياء غالية على الموت كما لا أشياء غالية على الحياة.

قصة «يا رايحين الغورية»، تبدأ القصة بكاتب أو كاتبة تكتب مذكراتها عن الحسين، وهو أمر يميز كتابات السيدة مختار أنها حميمية للغاية فى الكتابة، فتفضل القيام فى كثير من الأحيان باستخدم ضمير المخاطب، كإنسان يحكى أو يكتب مذكراته وتطرح كثيرًا من المعلومات والمعرفة عما ستكتبه قبل أن تبدأ الحكاية، ثم تبدأ الطفلة بالإمساك بزمام المبادرة وهى تتبع جدتها، ها هى أمام سور مقام سيدنا الحسين تناديه بأنها تريد أن تنجح فى الامتحان، وهى تتابع بعينيها تمتمات جدتها أمام المقام ثم تمسك بيد حفيدتها وتضغط عليها كأنها تؤكد لها أنها تدعوه لمساعدتها فى الامتحان، مع ارتفاع الدعوات له من جوانب المقام:

«بركاتك يا سيدنا بنتى حبلت وجاية أوفى الندر»

«قلبى موجوع يا سيدنا الواد بيجيلى فى الحلم ويقول لى أنا عايش يا أمه».

تستمر عيناها فى التقاط أحوال الناس فى قلب المقام، تخرج بعينيها فى وصف أقرب لكاميرا متحركة تصف أحوال العباد ولعب الأطفال والسبج الملونة وبائع العرقسوس والحمص والحلاوة، تستمر فى الوصف إلى أن تدخل شارعًا ضيقًا يؤدى لمقهى الفيشاوى، هذه قصة صورة للسوق والغورية، إنها صورة مفعمة بالذكريات والروائح والألوان.

تملك مختار كثيرًا من الحكايات مع جدتها أو عن الآخرين المرتبطين بهم، قصص الموت متناثرة فى المجموعة، والحنين الواضح للماضى، ربما يسكنها هذا الحنين الذى تقف فى خضمه حائرة بين أحوال الموت وأحوال الحياة، بين الذكريات وبين الواقع المرير، المجموعة فى أغلبها تبدو كمذكرات عن زمن مضى، تعرف مختار جميع أهل المنطقة وهم يعرفونها، تنبع قصصها منهم ومن أحوالهم البسيطة، أهنئها وأهنئ دار النشر لهذه المجموعة التى تقترب من تشريح الموت والحياة ببساطة من يعيشونها فى خان الخليلى والجمالية ودون أى ادعاءات بالمبالغة أو التفلسف، هكذا كثير من الناس يملكون هذه الرؤية المتناهية البساطة للحياة الإنسانية.