الأربعاء 04 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

«شبابيك».. عن أغنية طرحت فى القلوب جناين صبر

منير
منير

هذه أغنية لكل من حاول سرقة عمره من أحزانه وفشل، لكل من بحث عن مكانه «ورا الشبابيك» فأيقن أنه يطارد خيط دخان، مجرد ظمآن سعى وراء سراب بقيعة يحسبه ماءً، فلما جاءه لم يجده شيئًا.

هذه أغنية كل من باع عمره، ثم خسره فى انتظار الربيع، كان يعتقد أن الصبر ذو فائدة. لكنه أدرك فى نهاية القصة أنه كلما صبر نفدت السنون، فلا ربيع نال ولا عمرًا عاش، وكل من انتظرهم كفروا بالصبر وازدادوا كفرًا!

سواء كان صحيحًا أن الشاعر الكبير مجدى نجيب كتب كلمات هذه أغنية «شبابيك» فى المعتقل، خلال فترة حكم الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر أم لا، يعدو الأمر خيال شاعر، المؤكد أنها تحولت إلى ما يشبه «الصندوق الأسود» لذكريات المصريين.

هذا طبيب كان يسمعها وهو يذاكر للثانوية العامة.

هذا مهندس هانت عليه صعوبات الغربة بفضلها.

وذاك بقال كلما سمع «منير» يشدو بها تذكر جاره فى التجارة، الذى كان «يستفتح» يومه برش المياه أمام محليهما، وفى الخلفية تنساب أغنية «شبابيك» من «المسجل الباناسونيك».

أغلق البقال محله، ومات الجار، وباع أولاده المحل المجاور، وتعطل «المسجل»، لكن كل تلك الذكريات بقيت ويحكيها من عاشوها، هؤلاء الذين جعلوا من «شبابيك» أغنية تجسد سيرة وأعمار المصريين وأشقائهم العرب.

شبابيك الدنيا كلها شبابيك

والسهر والحكاية والحواديت

كلها دايرة عليك

بهجة العيد 

فى إحدى ليالى شتاء بداية الألفية الجديدة، توجه محمود الشريف إلى «مقهى إنترنت» يعمل به صديقه الأقرب، فى منطقة المطرية بالقاهرة. فى خلفية المشهد كانت تنساب نغمات أغنية: «يا ليلة العيد... آنستينا»... فالليلة هى وقفة عيد الأضحى.

«فاكر الليلة دى زى ما تكون النهارده.. الدنيا وقتها كانت بردًا جدًا.. ومن ساعتها و(شبابيك) هى أغنيتى المفضلة».. يتذكر «الشريف» فى حديثه مع «حرف» هذه الليلة.

يضيف: «كان لى صديق فى منطقتى نتشارك سويًا حُب منير وتحليل أغنياته. ذهبت إليه فى هذه الليلة، داخل مقهى الإنترنت الذى يعمل به. هناك جلسنا نتحدث وجاءت سيرة منير كالعادة،

سمعت أغنية «شبابيك»؟

لا... شغلهالى.

يصف «الشريف» ما حدث له عند سماع «شبابيك» للمرة الأولى: «فضلت أشغل الأغنية وأعيدها.. كل ما تخلص أعيدها تانى، وأنا لا أصدق أن هذه الرائعة كانت متوارية عنى، وأنى أسمعها للمرة الأولى، وأنا المنيرى المتمرس».

يتابع: «شعرت كأنما (شبابيك) هى بهجة العيد والعيدية. وقعت فى غرام لحنها الرشيق البديع التفاؤلى أولًا، ثم كلماتها المعبرة المليئة بالأمل، رغم ما فيها من حزن».

والكلام كم كان عليك

واللى كان خايف عليك انتهى من بين إيديك

دى عينيك شبابيك.. والدنيا كلها شبابيك

Die Fenster

من المطرية إلى أحد أحياء العاصمة الألمانية برلين، حيث يعيش آدم إبراهيم رفقة عائلته «المصرية- الألمانية»، بعد أن غادر مصر إلى المدينة العريقة فى ٢٠٠٣.

المزاج الغنائى لـ«آدم» لم تُشبعه فرقة «Rosenstolz»، ولا قوة صوت «Peter Maffay» و«Peter Schilling»، وغيرهم الكثير، بل وجد ضالته ونافذته إلى الغناء والوطن فى أغنية «شبابيك».

يقول المصرى الألمانى، متذكرًا فضل «شبابيك» عليه فى الغربة، خاصة خلال أيامه الأولى التى ذاق فيها مرارة العيش حتى شبع: «محمد منير بأغنيته دى هو اللى هون عليا أيام الغربة الصعبة. سمعتها أكتر من ١٠٠ مليون مرة فى حياتى!».

ابن محافظة القاهرة كانت له طريقة خاصة فى استخدام أغنية «منير» هذه لتخفيف أوجاع الغربة: «كان عندى مشغل أسطوانات بشغل عليه أغنية (شبابيك) قبل ما أنام. بوطيها خالص وبعدين أنام. كمان كنت بخليها تعيد تشغيل نفسها، بحيث لما أقلق فى الليل أسمعها شغالة فى الخلفية».

يضيف: «فضلت أعمل كده سنين كتيرة ورا بعض. مرت الأيام وتحسن وضعى هنا فى ألمانيا حتى تزوجت وكونت عائلة، وطوال هذه المدة كانت (شبابيك) بتسهل عليا آلام الغربة، ومعايا فى وقت الفرح والحزن. أقدر أقول بكل بساطة: الأغنيه دى فعلًا هى خلفية حياتى».

«آدم» يعتبر «شبابيك» من «أعظم الأغانى التى سمعها طوال عمره»، ويفسر كل هذا الحب والافتتان بقوله: «كلماتها سحرية ولحنها عظيم، إلى جانب أداء الكينج محمد منير، الذى أعتبره ثانى أفضل مطرب مصرى فى التاريخ بعد عبدالحليم حافظ».

لذا لم يكن من الغريب أن يورث كل هذا الحب لابنته، على الرغم من عدم معرفتها بأى كلمة فى اللغة العربية: «بنتى الصغيرة ما بتعرفش تتكلم عربى، بس هى بتعرف أغنية (شبابيك) وبتعرف تغنيها كمان، مع أنها مش فاهمة حاجة من كلماتها، لما بتسمعها شغالة بتلاقيها بتقول تلقائى (Die Fenster).. التى تعنى (شباك) أو (شبابيك) بالألمانية». يتذكر «آدم» تفاصيل لقاء جمعه بـ«الكينج» محمد منير، عندما كان يعمل «ويتر» فى أحد الفنادق الشهيرة بالقاهرة، خلال فترة دراسته الجامعية: «فجأة ألاقى منير قاعد على الترابيزة قدامى، قلتله: تحب تشرب إيه يا كينج؟.. وبكل تواضع طلب اللى هو عايزه، ومكنش بيقولى إلا حبيبى».. بعدها سأل «آدم» صوت مصر، كما يحب أن يصفه: «يا كينج أنا عندى سؤال بس بجد.. هيا فعلًا الدنيا كلها شبابيك؟؟»، فرد «منير»: «الدنيا كلها شبابيك. بس أما شباك بيتقفل بيتفتح بعديها شباك تانى. هى دى الدنيا»، ثم ضحك ونظر إليه، وقال: «امشى شوف شغلك وخلينى أشتغل أنا كمان».

سرقت عمرى من أحزانى

سرقته لكن ما جانى

ولا حد شاف فين مكانى 

ورا الشبابيك

إسكندرية  - لندن

«إسكندرية- لندن» وليست «نيويورك» هذه المرة.

بين هاتين المدينتين كُتبت قصة الدكتور أحمد عبدالهادى مع أغنية «شبابيك». ورغم ما بينهما من تباين كبير، ففى العاصمة البريطانية يسكن الضباب، بينما تسكن الحياة فى ماريتنا الساحرة، لم يختلف تأثر «عبدالهادى» بتلك الأغنية.

فسواء فى شوارع سموحة أو على جسر لندن، لا تحلو «التمشية» إلا على أنغام أغنية «شبابيك»، وفق «عبدالهادى»، الذى يعمل جراح تجميل فى أحد المستشفيات الواقعة وسط لندن.

يقول جراح التجميل السكندرى: «الأغنية دى بحبها عشان بتفكرنى بالإسكندرية، لما سافرت لندن واشتغلت هناك بسمعها برضه؛ لأنها بتفكرنى بالوقت اللى كنت بسمعها فى مصر».

ويضيف: «كل الحاجات الحلوة والوحشة بتعدى عليا وأنا بسمعها، خاصة مع كلامها المميز جدًا، واللى كل مرة بتسمعه وتستقبله بطريقة مختلفة، على حسب الحالة اللى أنت فيها».

ويواصل ضاحكًا عن الذكرى التى تنتابه فور سماع «شبابيك»، خلال وجوده حاليًا فى لندن: «أول حاجة بفتكرها هى التمشية فى سموحة بلا هدف»، مشيرًا إلى أن تعلقه بهذه الأغنية لم يختلف فى لندن عما كان فى الإسكندرية، رغم كل هذه المسافة والاختلافات بين عروس الأبيض المتوسط، حيث لا ينام أحد، ومدينة الضباب، حيث يوجد شعب «المعاملة الإنجليزى»، خاصة مع وجود مكان يشبه الإسكندرية قريب من جسر لندن.

غيرت ياما كتير أحوالى

وأنا كنت عاشق وكان يحلالى

أحب بس يكون حلالى

ورا الشبابيك

عندما يأتى المساء

لم تفتن تلك الأغنية- التى أوتيت شطر الحزن- المصريين فحسب، بل تفاعل معها كل أبناء العرب، خاصة الذين تركت أجسادهم أوطانهم وبقيت قلوبهم هناك.

من بين هؤلاء العراقى سنان جون، الذى غادر بلاد الرافدين بتذكرة ذهاب بلا عودة، منذ عام ١٩٨٤، متوجهًا إلى السويد، حيث يقيم حتى الآن، وعندما بلغ السادسة من عمره استمع إلى «شبابيك»، فلم ينسها منذ هذه اللحظة إلى وقتنا الحالى.

يقول «سنان» الذى يعمل «شيف» فى مطعم فرنسى: «استمعت إلى أغنية شبابيك فى بداية الثمانينيات، وكان عمرى وقتها ٦ سنوات. اليوم عمرى ٤٦ سنة وما زلت أسمعها، لأنها تعطيك أملًا فى كل شىء، وتذكرك بكل حاجة حلوة مرت بحياتك».

يكشف عن أول مرة استمع فيها إلى «شبابيك» فيقول إنها كانت فى برنامج «عندما يأتى المساء»، من تقديم حكمت وهبى، مضيفًا: «البرنامج ده بالذات كان محببًا للكل، وكان يُذاع فى بلدى العراق، وفى يوم من الأيام استضافوا محمد منير، فبدأ فى أداء بعض الأغانى ومنها (شبابيك)».

ويواصل: «منذ هذه اللحظة أصبحت من أجمل الأغانى التى سمعتها وأثرها بقى فى ذهنى. السنون مرت الواحدة تلو الأخرى وبقيت هذه الأغنية عالقة برأسى، رغم خروجى من العراق منذ ١٩٨٤ وعدم عودتى إليه مرة أخرى، ونشأتى فى أحضان الغربة». ويشير إلى أن «شبابيك» تُذكره بأيام الصيف، تحديدًا النزول إلى المسبح فى الأيام الحارة، كما أنها تذكره بأصدقاء الطفولة، وأهم من كل ذلك تُذكره بالأمل، متابعًا: «تحس نفسك مرتاح نفسيًا أنت وبتسمعها، لأنها بتذكرك بالأيام الحلوة».

أنا بعت الدموع والعمر

طرحت جناينى فى الربيع الصبر

وقولت أنا عاشق سقونى كتير المر

ورا الشبابيك