عجائب المتنبى.. ماذا وجد على بن تميم فى صندوق شاعر العربية الأكبر؟

- «عجائب المتنبى» كتابٌ مهمٌّ عن شاعرٍ أعاد الاعتبار لفكرة الاختراع فى البلاغة والأدب
«أنا رجلٌ أخبطُ القبائلَ، وأطوى البوادى وحدى، ومتى انتسبتُ لم آمن أن يأخذَنى بعضُ العربِ بطائلةٍ بينه وبين القبيلةِ التى أنتسبُ إليها، وما دمتُ غيرَ مُنتَسِبٍ إلى أحدٍ؛ فأنا أسلم على جميعهم ويخافون لسانى».. هذه الفقرةُ التى وردت فى شرح ديوان المتنبِّى لعبد الرحمن البرقوقى «1876-1944 ميلادية» هى إجابةٌ عن سؤالٍ وُجِّه إلى المتنبِّى عن نسبه الذى لم يعترف به، واكتفى بإجابته هذه.
وهذه القصة قد وردت فى كتاب «عيون العجائب.. فى ما أورده أبوالطيب من اختراعاتٍ وغرائب» للناقد الدكتور على بن تميم، وقد صدر عن مركز أبوظبى للغة العربية. حيثُ استقى المؤلف عنوان كتابه من بيت أبى الطيب المتنبى:
«إِلَىّ لَعَمرى قَصدُ كُلِّ عَجيبَةٍ
كَأَنّى عَجيبٌ فى عُيونِ العَجائِبِ»
وهو كتابٌ عن شاعرٍ- من شُعراء القرن الرابع الهجرى- عاش ومات مثيرًا للجدل «حريصًا على أن تظلَّ سيرتُه محلَّ فضولٍ وتساؤلٍ وإلهامٍ وحيرةٍ ودهشةٍ وعجبٍ».

وكتاب على بن تميم مهمٌّ ومُغايرٌ؛ لأنه اشتغل على فكرة «الاختراع والغريب» فى شعر المتنبِّى، ومن ثمَّ فى الشعر العربى؛ لأنَّ المتنبى كان مصدرًا للاختراع فى الشعر والتلقِّى معًا، وهذا ما جعلهُ أكثر الشُّعراء العرب- حتى يومنا هذا- دراسةً وبحثًا واختلافًا حوله، لكنَّ الكتاب يتوقَّفُ عند الاجتراحات اللغوية والإضافات البلاغية والصور الشعرية الجديدة وغير المسبُوقة، التى لم يأتِ بها أحدٌ قبل أبى الطيب المعتد بذاته المُتفرِّدة.
وقد رأى على بن تميم فى توطئتِه لكتابهِ «وهى خمسون صفحةً من القطع الكبير» أنَّ المتنبى كان يميلُ بفطرته إلى الاختراع «بمعنى إتقان جعل المعانى بِكْرًا ليِّنَةً لتكُون قادرةً على استفزاز التلقِّى وانفتاح التأويل بمفاتيح الجِدَّة والغموض ممَّا يسهم فى صنع الأسطورة».

وأظن أنَّ الأمرَ كان صعبًا وسهلًا على د. على بن تميم، وهو يهُمُّ بكتابة كتابٍ عن المتنبى، حيثُ كانت الصُّعوبةُ تكمنُ فى مئات الكتب والمصادر والمراجع والرسائل العلمية التى درست المتنبى، وتناولت سيرتَه ومسيرتَهُ الشِّعْرية، ومن ثمَّ عليه أن يختارَ زاويةً جديدةً لينطلقَ منها، فاختار ما يدخلُ فى باب الاختراع والعجيب فى شعر المتنبى، أما السُّهولة فتكمنُ فى شغف مؤلف الكتاب بشاعرِه العربى المُشْكِل الفذِّ، وحبه له، وهنا تشابهٌ بينهما فى حُبهما الخيل:
«ألخَيْـلُ وَاللّيْـلُ وَالبَيْـداءُ تَعرِفُنـى
وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَـمُ».
ومن أبرز ما لفتنى فى الكتاب ما ذكره بن تميم عن الفيلسوف فى شخصيةِ المتنبى، ورجُوع المؤلِّف إلى الكتاب المهم الذى أنجزه مصطفى عبدالرازق «١٨٨٥-١٩٤٧ميلادية»- فيلسوف العرب والمعلم الثانى»، وقد صدرت طبعته الأولى سنة ١٩٤٥ ميلادية، حيث يرى عبدالرازق أنَّ «الأدب العربى- فيما نعلم- لم ينتج غير المتنبى وغير المعرِّى شاعرًا فيلسوفًا، ومن فضل المُتنبِّى على الفلسفةِ أنه بثَّها فى الشِّعر يوم كانت تلتمس لها منفذًا إلى العقُول والقلُوب فى تقيَّة وفى وجَلٍ، ولعلَّ شعر المتنبى كان من أسباب عناية الكُتَّاب والشُّعراء بالدراسات الفلسفية، استكمالًا لفنِّهم، وطمعًا فى اللحاق بذلك الشَّاعر الفيلسوف الذى شُغِلتْ به الألسنُ وسهرت فى شعرِهِ العيون».
إذن توقَّف على بن تميم أمام شاعرٍ فذٍّ فريدٍ سبَّاقٍ فى المعانى التى جاء بها واستنبطها، وكذا الشَّكل الذى «لم يدركه أحدٌ من قبل، والابتداء، ومُفارقة المألوف والإتيان بالقول على غير غرارٍ، وتغيير المُنتج الأدبى والإضافة إليه».
وأرى أنَّ كتابَ على بن تميم رسالةٌ إلى الشُّعراء فى كل عصرٍ بالسَّعى والاجتهاد والبحث عن الأفكار الجديدة، والذهاب نحو اللا مألوف وغير المُعتاد، وغير المُعار أو المُعاد من دون أن يردِّد قول كعب بن زهير بن أبى سُلمى:
ما أرانا نقولُ إلا رَجِيعًا ومُعادًا من قولِنا مكْرُورا

وألَّا يركنَ الشاعرُ- أى شاعرٍ- إلى ما هو مُنْجزٌ قبله، «بل عليه أن يشُقَّ دربًا لم يسبقه إليه أحدٌ، فلا يكونُ من أهلِ المُحاكاةِ والاتباع»؛ فالشَّاعر الشَّاعر لا يُقلِّدُ ولا يتبع أحدًا، بل عليه أن يبتدعَ ويخترعَ، و«يأتى أمرًا جديدًا».
ويذكر د. على بن تميم أربعين بيتًا من شعر المتنبى يمكنُ اعتبارُها شاهدًا على فرادة أبى الطيب وقُدرته الفذَّة على الاختراع، ومن المعروف أنَّ أبا البقاء الكعبرى كان قد أورد أكثر من مئة بيتٍ من شعر أبى الطيب المتنبى، لم يأتِ شاعرٌ بمثلها من قبل فى كتابه «التبيان فى شرح الديوان»- الذى يرى اللغوى والمؤرِّخ العراقى مصطفى جواد «١٩٠٤- ١٩٦٩» أن هذا الكتاب لتلميذه ابن عدلان «٥٨٣-٦٦٦هجرية».
ويمكنُ لأحدٍ ما أن يسألَ على بن تميم: لماذا اخترتَ المتنبى، بعيدًا عن حُبِّك له وإعجابك به؟ فيمكنُ له أن يردَّ: إنَّ أبا العلاء المعرى «٣٦٣- ٤٤٩ هـجرية/ ٩٧٣ -١٠٥٧ميلادية»- وهو من هو- قد ألَّف كتابيْن يشرحُ فيهما شعر أبى الطيب، وسمى أحدهما «اللامع العزيزى: شرح ديوان المتنبى»، وسمَّى الآخر «مُعجِز أحمد».
إنَّ مقدِّمةَ الكتاب وحدها تكفى أن تكُونَ كتابًا مفيدًا للشُّعراء، هدفه حثُّ أهل الشِّعْر على الإتيانِ بالجديدِ والمُختلف والمُغاير، خُصوصًا أنَّ أبا الطيِّب حسب رأى المؤلف «لا تمرُّ قصيدةٌ من ديوانه من دُون اختراعٍ شعرى».
إنه كتابٌ مهمٌّ عن شاعرٍ أعاد «الاعتبار لفكرة الاختراع فى البلاغة والأدب»، وهو أوَّلُ من أطلق على العربية «لغة الضاد»- الحرف الخامس عشر من الحرُوف الأبجدية العربية- كتبه ناقدٌ وأكاديمى يرأس مركزًا للغة العربية فى بلده.
ومن مآثرِ هذا الكتاب- وهى كثيرةٌ- أنه يحضُّ على إعادة قراءة ديوان المتنبى وشرُوحه لمن قرأه من قبل، أو البدء فى قراءته لمن لم يقرأه قبلًا، خصُوصًا من الأجيال الجديدة.
كما أنَّ الكتابَ بفكرته وموضُوعه وقضاياه المتمحورة حول الاختراعِ والاختراقِ والتفرُّد فى الشِّعْر العربى أو الشِّعْر بوجهٍ عام، يحثُّ الشَّاعر على أن يكونَ نفسه حين يكتبُ، وألا يُكرِّر أو يقلِّد أو يعيد ما كتبه السَّابقون عليه، أو يمشى فى الطرق المعبدة التى مهدها الأسلاف قبله.
وهذا الكتابُ ليس مُخَصصًا فقط لقارئ الشِّعر أو كاتبه، لكنَّه مُوجَّه للقارئ العام، ولكُتَّاب الرواية والقصَّة القصيرة؛ لأنَّ حياةَ ومسيرةَ المتنبى تصلحُ موضُوعًا لروايةٍ أو مسرحيةٍ لما فيها من الغرائب والعجائب؛ لأنها سيرةُ شاعرٍ مُختلفٍ فى كلِّ شىء يخصُّه.
وفى ظل تراجُع دُور النشر الخاصة- التى انتشرت عربيًا- عن نشرِ الشِّعْر، يمكنُ لها أن تعيدَ نشرَ ديوان المتنبى أو مختارات منه، أو تنشر ما كتبه الأسلافُ فى كلِّ العصور عن المتنبى، وهم كثيرون مثل طه حسين، ومصطفى الشكعة، ومعروف الرصافى، وعبدالوهاب عزام، ومحمد فتُّوح أحمد، وإبراهيم السَّامرائى، وممدوح عدوان، وريتا عوض، ومحمد كمال حلمى بك، ومحمود محمد شاكر، وسواهم.
وليس أخيرًا، يمكنُ أن يصدر هذا الكتاب مُترجَمًا إلى عددٍ من اللغات الأساسية فى العالم؛ لأنه أولًا مكتوبٌ بلغةٍ حديثةٍ، ويطرحُ موضوعًا مهمًا، وهو الإتيان بالجديد فى الشِّعْر وغير المسبُوق، كما أنه يعرِّف الآخر على أحد أبرز رمُوز الشِّعْر العربى الكبار.