الإثنين 02 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

المقابر.. بوابة الصعود للسماء

حرف

– قلعنى الحلق والخاتم بعد ما أموت، وسلمهم لأختكِ الصغيرة، هى أحق بهما. حياتها ضيقة. لا تدفنى بالليل أريد تميز كل الوجوه التى أعرفها وأنا أدفن، ضعنى فى التربة التى ستُدفن فيها.

كانت تتحدث بصوتٍ قوىٍّ لم تَغِبْ عذوبته، وإدراكٍ سليمٍ لم تَذْهَبْ حدته. تضع بين يديه وصاياها قبل لحظاتٍ من رحيلها، كانت كمن يستعد للسفر إلى مكانٍ بديل، يمهِّد الطريق لباقى أحبابه. كانت تعتقد أنها عاشت كثيرًا، وأن الموت تأخر، وتود أن يأتى وهى فى كامل وعيها وكلِّ قوَّتها، وقد كان لها ما أرادت. كانت لا تخاف، ولهذا عندما جاء لم ترتعد، لم تغمض عينيها، ولم يفارق وجهها ابتسامة الرضا.

كانت تنتظر أن تشاهد القادم لإطلاق سراح روحها، تحريرها من الجسد الذى يوشك أن يَبْلَى. تود أن تساعده فى مهمته وتجعلها أكثر سهولة.

جاء ضوء النهار صافى البياض، فبدأ الظلام يتضاءل برفق، وأمه… تقبض برقة على معصم يده الضئيل، كأنها تحمل رغيف قمح طازجًا إلى فوهة فرنها البلدى كى تنضجه النار. وبالتفاتة رشيقة إلى الأمام، طاوعها فى ذلك جسدها النحيل، تقتلعه من مكانه، كأنه نبات ضعيف غير ثابت بالأرض.

كانت تحدق فيَّه، كأنه طفل تائه فى صالة سفر، تثنى ركبتيها الفارعتين، فتهبط إلى مستقره فى الأرض، وتشرع بعدها فى معالجة ضعفه. كان يشعر بوهج أنفاسها الساخنة يعبر سماء وجهه، وبعين لامعة تنظر فى عينه المنطفئة.

وهى تقول:

لا تخف… تعال معى.

كان صغيرًا للدرجة التى لا يستطيع أن يدرك ما تحاول تفسيره. تعود الاستقامة إلى متن جسدها الشاهق مثل شجرة كافور، تتأمله طويلًا وهى صامتة لا تتكلم، ثم تصطحبه إلى جولة محفوفة بالخوف فى المقابر الواقعة على أطراف حقل قمح يعود إليها ملكيته.

كانت المقابر، كما عرفها، المكان الذى يتوقف داخله كل شىء عن النمو، تظهر له كأنها بيوت حجرية هزيلة، مملوءة بالعظام والحصى، ينبعث من داخلها روائح كريهة، تعج بالثعابين. كانت أمه تقبض على معصم يده الصغير، كأنها تمسك قشة تخاف أن تعصفها الرياح، أو كأنها تلمس ساق عود قمح ضعيفًا فى انتظار أن يشتد، تخاف أن ينكسر خلال نضوجه.

يعبر، هو وهى، شوارع المقابر الضيقة، شارعًا بعد الآخر، حاول أن يتوقف برهة أسفل شجرة دقن باشا عجوز، فى الطرف الأيمن من المصلى الواسع الذى يتوسط المقابر، لكنها تجتازه دون اهتمام، لتستقر فى النهاية أمام مقبرة أمها، كأنها كانت تطوف الشوارع فى أثر عليل فيه رائحة من أهلها.

تجلس أمام المقبرة... صامتة مرة أخرى لا تتكلم، ثم تبدأ فى التمتمة بكلمات مبهمة، لا يميز منها غير كلمة «آمين». وعلى نحو مفاجئ، كأنها ما كانت تشعر بوجوده، تلتفت تجاهه، وتبدأ فى توجيه الحديث إليه، تحكى تاريخ زراعة شجرة التوت التى تبعد حوالى نصف متر عن باب المقبرة.

تقول:

عمرها سنوات لا أعرف عددها، أبى غرسها كى تظلل موتانا. تمد يدها الطويلة إلى الأرض، تلتقط بعضًا من ثمر التوت المستوى، تقدم له بعضًا منه، وتدفع إلى فمها الصغير البعض الآخر. يرفض وهو يقول:

هذا التوت مروى من دم الأموات.

تبتسم... ابتسامة باهتة، لا يصدر عنها صوت، ثم تقول:

الأموات لا تجرى داخلهم الدماء.

ثم تبدأ فى ازدراء فصوص التوت.

ظلت هذه المشاهد المرعبة حبيسة مخيلته: مقابر كثيرة متراصة، داخلها موتى لا يعرف عددهم، مغلق عليهم بأقفال من حديد، وشجرة توت ضخمة تُروى من دم الأموات.

يسأل نفسه فى براءة:

لماذا توضع أقفال على أبواب المقابر؟ هل يخاف الأحياء أن يهرب الأموات؟

لا يقدم عقله الصغير إجابة. أمه... لا تهتم لأمره، تبدأ بالدعاء لأمها بصوت عالٍ. يعود لها بالسؤال:

لماذا يقيم الأحياء للأموات بيوتًا؟ فقد تركوا خلفهم بيوتًا أفضل.

لا يتلقى إجابة.

تمسك يده الصغيرة، ترفع كفه للسماء، وتطلب منه الدعاء لله. ينظر حوله فى شوارع المقابر، فلا يرى الله. لا يهتم بالدعاء، فلا يعرف ماذا ينفع الدعاء لأموات مغلق عليهم بأقفال من حديد. تنتهى من الدعاء، ثم تنادى على أمها الميتة، وتبدأ بالحديث معها، تحكى لها عن غربة زوجها الذى سافر منذ زمن، وأبنائها الذين ما عادوا صغارًا، عن حقل القمح، وبرج الحمام.

فى عفوية طفل لم يتجاوز السادسة، يسأل:

هل تسمعك جدتى؟

تجيب دون أن تلتفت نحوه:

نعم... تسمعنى.

يسأل مرة أخرى:

هل تعيش مثلنا داخل المقبرة؟

تنظر له بإهمال ولا تجيب. توقف عن سؤالها، وصار يتساءل بينه وبين نفسه: لماذا لا توضع للأموات مصابيح داخل المقابر؟ لماذا لا تُفتح نافذة فى جدرانها الحجرية؟

كان إظلام المقبرة من الداخل يخيفه، ومن يومها وهو خائف من الظلام. حين لاحظ إهمال أمه وتجاهلها أسئلته، توقفت عن الكلام، واتجه لمراقبتها. وحين انتهت من الدعاء لأمواتهم، قبضت على معصم يده بقسوة هذه المرة، وجذبته خلفها خارج المقابر، لنستقر أسفل شجرة توت. تلتقط فصوص توت من الأرض، تدفعها له وهى تقول:

هذا التوت طعمه أقل جودة من توت الشجرة التى تظلل مقبرتنا. يتناوله وهو صامت... لا يجيب.

لا يستطيع أحد أن يتخيل ما فعلته الزيارات المتكررة للمقابر فى عقلية طفل لم يتجاوز السادسة. كان درسًا بليغًا ظل مدينًا له طوال حياته، وكان له الفضل فى ما هو عليه من وعى. كان يتصور أن دراسة الفلسفة هى من تعود إليها الثناء، لكنه اكتشف أنها أصلت ما علمته أمه إياه.

كانت تنظر إلى الموت على أنه صديق لا عدو، كانت تراه النقيض الذى يجعل الحياة تستحق أن تُعاش، وأن من يخشاه هو من لم يعش حياته بجرأة. أمضت حياتها بين أبنائها والأرض، يقول ما يعرفها أنها تسير على حافة الهاوية. لهذا، استقبلت الموت بابتسامة، لا بندم. حين جاء الموت كان يمسك يدها يضمها إلى صدره، بينما تنام بين ذراعيه. يتأمل وجهها بهدوء، ويمسح برفق قطرات العرق التى تسللت إلى جبهتها. لم تعتبر الموت نهاية لكل شىء، بل هو تتويج للحياة، كما تذبل سنابل القمح بعد أن تمنح الحياة حصادها. لهذا عاشت حياتها بلا ندم ولا خوف.

بعدها بسنوات قليلة، وهو فى الحادية عشرة تقريبًا، حاولت إحدى الجمعيات ضمه، كان هادئًا محبًا للمعرفة، يمثل نموذجًا جديرًا بالانخراط. تقرب له بعضهم، تمت دعوته لمناسباتهم ودروسهم، كان يحضر ملتزمًا ومنضبطًا كعادته، حتى كانت المراسم الأخيرة، قبل أن يصبح كامل الأهلية: قضاء أسبوع فى زيارة المقابر. فى أول يوم… كانوا حوالى خمسة عشر فتى، معهم ثلاثة كبار، يقصدون المقابر بعد أداء صلاة الفجر. كان ضوء النهار الغض يخرج بصعوبة، وهم يتجهون إلى المصلى الذى يتوسطها. جلس الجميع أسفل شجرة دقن الباشا، يمسك الواحد بذراع الآخر، تكسو وجوههم الرهبة والخوف من أن يكونوا وسط أموات، ويتحدث كبيرهم عن عذاب القبر ونعيمه، عن الثعبان الأقرع، والضرب بآلات ضخمة.

كان يعرف جغرافيا المكان، لهذا لم يلزم مكانه فى المصلى، تركهم وذهب يتجول فى شوارع يعرفها، وسط بيوت حجرية هزيلة يسكنها أحياء لا يُعذَّبون، حتى انتهى إلى نفس المقبرة التى كانت أمه تجلس أمامها. جلس يحدث جدته، ينتظر أن ترد، كان يتوقع أن تخرج إليه عبر جذر الشجرة، طريق الخروج الوحيد، بعيدًا عن بابها الحديدى المزين بأقفال صدئة. كان تجوله فى المقابر دون خوف مصدر امتعاض، ولهذا اتفق كبار الجمعية منذ اليوم الأول أنه لا يصلح معهم، فلا تتوفر فيه الشروط، وقيل هذا عنه: صبى لا يخاف. شكلت المقابر فى وجدانه دلالات كثيرة، حتى بعد وفاة أمه. لا يعرف لماذا، عندما تعجزه الحياة ولا يجد مكانًا يلجأ إليه، يذهب إلى قبر أمه، وبجوار شجرة التوت، يحدثها بكل الأخبار التى كانت تنتظر وقوعها. يعلم أنها تسمعه، وأنها طلبت ألا يتوقف عن زيارتها.

كانت يلتقط التوت المستوى من الشجرة، يتناوله فى فرح، وهو على يقين أن جذوره مروية بدماء أمه وكلُّ الطيبينَ عاشوا فوق هذه الأرض.