المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

العندليب الغامض.. تحقيق بالصور والوقائع بعد 47 عامًا من وفاته

عبدالحليم حافظ
عبدالحليم حافظ

حتى سنوات قريبة كانت الصحف المصرية والعربية تحتفى بذكرى وفاة عبدالحليم حافظ احتفاءً أسطوريًا، كنا نجد صوره على أغلفة المجلات الفنية، وداخل الصحف العامة نقرأ ملفات ممتدة الصفحات، وكانت الصيغة المعتادة لكل الصحف هى كشف الأسرار، وكنا نتعجب أى أسرار لا تزال مخبوءة عن عبدالحليم حافظ حتى تكشفها الصحف كل عام. 

عندما اقتربنا من مطابخ الصحف اكتشفنا أن ما يحدث ليس لوجه الفنان الراحل، ولكن لأن عبدالحليم كان رغم رحيله يملك وجهًا لا ينطفئ، اسمه كان كافيًا ليرفع التوزيع، وهو ما كانت تسعى إليه الصحف على اختلاف توجهاتها واهتماماتها. 

ورغم ضخامة الأرشيف الذى يحتله عبدالحليم حافظ، لكن هناك ما يمكن أن يثير أسئلة جديدة، نسعى من خلالها إلى فهم الحالة الأسطورية التى يمثلها عبدالحليم فى حياة أجيال عديدة، وأعتقد أن العندليب يمكن إعادة اكتشافه من جديد، فيصبح مطربًا لأجيال قادمة. 

ولأن عبدالحليم تعدى تأثيره إلى المحيط العربى، فقد كان طبيعيًا أن تهتم به الصحف العربية، وتفتش عن أدق تفاصيله وأسراره، ومن بين هذا الأرشيف الضخم عدة ملاحق أصدرتها مجلة الشبكة اللبنانية بعد وفاة عبدالحليم فى 30 مارس 1977. 

اخترنا من موضوعات هذه الملاحق ما يثير أسئلة أعتقد أنها لا تزال معلقة فى تاريخ المطرب الذى لا يزال يعافر ليبقى رغم مرور 47 عامًا على رحيله. 

هل قتل عبدالحليم حافظ نفسه؟ 

منذ شهرين دخل عبدالحليم حافظ مستشفى «كينجر - كولدج» بلندن، لإجراء عملية جراحية دوالى الدم المترسب فى معدته بسبب عدم أداء الكبد لوظيفته الطبيعية. 

وقد وصف له الأطباء البريطانيون «الكورتيزون»، وهذا الدواء أدى إلى تجمع كمية من الماء فى معدته، على إثر ذلك أبقى المطرب العربى الكبير مدة عشرين يومًا فى المستشفى تحت العلاج الدقيق، فشفى وخرج إلى منزله فى لندن. 

كانت ترافقه فى هذه الرحلة الاستشفائية شقيقته «علية» وشقيقه إسماعيل وابن خالته شحاتة وكان يشرف عليه طبيبه المصرى الخاص شاكر سرور. 

وليلة خروجه من المستشفى إلى منزله فى لندن، كان فرح عبدالحليم بالشفاء لا يوصف، ولكى يتوج فرح الشفاء بتفاؤل الاستمرار فى المستشفى على أن يسهر فى ملهى «شهرزاد» مع صديقه عبدالرحمن الخودة. 

وقد أخفى أمر هذه السهرة عن طبيبه الدكتور سرور الذى راح يفتش عنه تلك الليلة دون أن يجده، فقد أوعز عبدالحليم للجميع عدم إبلاغ طبيبه الخاص بهذه السهرة، لأنه كان بالغ التفاؤل بشفائه. 

وسهر عبدالحليم حافظ حتى الفجر، كان يغنى فى الملهى فهد بلان، وكانت ترقص هناك ناهد صبرى، وبدأ عبدالحليم فى غاية السعادة، إنه متعطش للسهر والطرب، بعد المدة الطويلة التى أمضاها تحت العلاج فى المستشفى. 

وكان فى الملهى بعض الأمراء العرب، فرحبوا بعبدالحليم، وألحوا عليه كى يغنى، فاعتذر قائلًا: أنا لسه خارج من المستشفى. 

وكانت ليلة ممتعة، اتشح فيها عبدالحليم بالرداء المغربى، وقد بلغ من حبه للانطلاق والسهر أنه لم يغادر الملهى إلا فى الخامسة صباحًا، كان الطقس باردًا، ولما أصر عليه الأصدقاء أن يضع شيئًا على رأسه لاتقاء البرد وهو خارج من الملهى، رفض قائلًا: سيبنوى أستمتع بالدنيا. 

على إثر تلك السهرة انتكست صحة عبدالحليم، فنقل إلى المستشفى حيث راحوا يعالجونه بالكورتيزون، وتحسنت صحته من جديد، ولما اطمأن طبيبه الخاص إلى هذا التحسن الذى لمسه لدى مريضه، تركه فى لندن وعاد إلى مصر. 

وما هى إلا أيام قليلة حتى استدعى الدكتور سرور من جديد إلى لندن، كما استدعى محاميه مجدى العمروسى، لقد ساءت صحة عبدالحليم مجددًا، وقيل إن هناك سببين وراء هذه الانتكاسة التى قضت على حياته. 

السبب الأول أن الأطباء البريطانيين أدخلوا إبرة فى كبده للفحص، فنتج عنه نزيف داخلى. 

والسبب الثانى أن الأطباء بعدما زودوه بالدم الذى فقده، فحصوا معدته بالأشعة، فأدخلوا سلكًا رفيعًا من فمه إلى معدته، ويقال إن هذا السلك جرح المعدة، فعاد النزف مرة أخرى، وكان خطيرًا، وهذا ما استدعى وضع عبدالحليم فى غرفة العناية الفائقة تحت المعاينة الدقيقة. 

لقد أدخل إلى هذه الغرفة فى الساعة السادسة والربع من مساء الخميس ٣٠ مارس، وبعد عشرين دقيقة فارق الحياة، لقد توفى فى الساعة السابعة إلا سبع دقائق. 

ثروة عبدالحليم حافظ 

اهتمت مجلة الشبكة بما تردد عن ثروة عبدالحليم حافظ، فنقلت عما وصفته بأنها مصادر شبه رسمية أن ثروته ٥٠ أو ٦٠ مليون جنيه مصرى. 

تقول «الشبكة» فى الوقت الذى أشارت فيه جهة شبه رسمية، وفى بيان غير رسمى بالطبع، ويعتمد على التقدير فقط، بأن ثروة الفنان الراحل عبدالحليم حافظ تبلغ ما بين الخمسين والستين مليون جنيه مصرى، أكد عدد من أقرب أقرباء عبدالحليم أن هذا الرقم مبالغ فيه جدًا. 

أما ثروة عبدالحليم الواضحة، والتى يعرفها هؤلاء الأقرباء فهى كما يلى.

- ثلاث شقق فخمة فى عمارة السعوديين التى كان يسكنها فى العجوزة. 

- شقتان فاخرتان فى شارع قراقوش بحسن صبرى. 

- ثلاث سيارات تقدر قيمة كل منها بـ٢٠ ألف جنيه إسترلينى. 

- فيلا بالعجمى فى الإسكندرية. 

- شقة فى الإسكندرية «بعقد إيجار». 

- عمارة من خمسة طوابق فى مدينة المهندسين بالقاهرة، تحتها استديو. 

- فيلا فى لندن يقدر ثمنها بـ٥٠ ألف جنيه إسترلينى. 

- فرش شقة فى بيروت قرب فندق كارلتون كانت تملكه مذيعة التليفزيون ليلى رستم، أما الشقة نفسها فكانت بإيجار سنوى قدره ستة آلاف ليرة لبنانية. 

- ثلث شركة صوت الفن، فهو شريك بها مع الموسيقار الدكتور محمد عبدالوهاب والمصور السينمائى الحاج وحيد فريد. 

- أرصدة مالية لا يعرف مقدارها إلا أمناء السر فى القاهرة وجنيف ولندن وربما فى مصارف أخرى أما فى بيروت فلم يكن يملك عبدالحليم أى رصيد. 

- ممتلكات شخصية من هدايا ذهبية ثمينة كالخواتم والسلاسل والهدايا الأخرى، ويقال إن ثلاث خزنات كاملة خصصت فقط لساعات اليد التى يملكها. 

وكان الراحل قد كتب وصيته الأولى منذ عشرة أعوام، ثم جددها منذ عام واحد، على يدى محامى شركة صوت الفن الأستاذ مجدى العمروسى، وهى تتضمن بالطبع أن يرثه أهله الأقربون وهم أشقاؤه الثلاثة، محمد شبانة وإسماعيل شبانة وشقيقته علية، وخصص أشياء أخرى لابن خالته شحاتة الذى كان يلازمه مع زوجته، ولبعض أقربائه فى قريته الحلوات. 

ومن المفهوم أيضًا أن عبدالحليم خصص قسمًا من ثروته لبناء مستشفى للبلهارسيا فى بلدته، ولبناء بعض المؤسسات الخيرية أيضًا، وقد ذكر أن عبدالحليم غير وصيته للمرة الثالثة فى لندن على يد محاميه مجدى العمروسى أيضًا، وبوجود شقيقته علية وشقيقه إسماعيل، الذى رافقه فى الرحلة الأخيرة وابن خالته شحاتة. 

ولأن ما نشرته المجلة لم يكن منطقيًا كما قالت هى، فقد كلفت مراسلها فى القاهرة شفيق نعمة ليتحدث مع محامى حليم مجدى العمروسى، الذى قال لهم: ثروة عبدالحليم عادية جدًا، وأقل بكثير من التقديرات الخيالية التى تداولتها الأقلام والألسن، وللتوضيح أقول إن شقة لندن التى قيل إن عبدالحليم يملكها فى العاصمة البريطانية والتى قدروها بما يزيد على المائة ألف جنيه إسترلينى، هى فى الحقيقة شقة عادية تخضع لحق الاستعمال لمدة عشر سنوات فقط، والشقق هناك لا تباع ولا تسجل كتمليك للأجانب، أما فيلا العجمى فإنها مستأجرة لمدة ١٥ سنة بمبلغ ١٣ ألف جنيه، وبموجب عقد موقع من الحراسة على شركة المعمورة، أما شقة بيروت التى قيل إنها ملك له ومفروشة بما يزيد على المائة ألف ليرة لبنانية، فإنها فى الواقع مستأجرة بموجب عقد وبقيمة ستة آلاف ليرة لبنانية سنويًا تدفع سلفًا، وقد اشترى مفروشاتها من المذيعة التليفزيونية ليلى رستم بمبلغ عشرة آلاف ليرة لبنانية لا غير. 

وأنهى العمروسى حديثه بأن المبالغة كانت فى تقديرات الناس وحدهم، الذين أوصلوا التركة العادية إلى مبالغ خيالية ذكر أنها تفوق الخمسين مليونًا من الجنيهات المصرية. 

وفى مقالة عذبة رائقة كتبها رئيس تحرير المجلة، كشف فيها عن ثروة عبدالحليم الحقيقية. 

قال: كنت أعرف أنه مليان ولكنى لم أكن أقدر أن ثروته تعد بالملايين، وسواء اختلف أهل الإحصاء فى تحديد الأرقام أو لم يختلفوا، فإن الحقيقة التى لا تقبل أى جدل أو تأويل، هى أن عبدالحليم حافظ كان مليونيرًا. 

مليونير بالجنيهات المصرية وليس بالليرات التركية، وبالدولار الأمريكى وليس باللير الإيطالى، وبالإسترلينى الإنجليزى وليس بالكوزيرو البرازيلى، مليونير وجيه هو الذى كان فقيرًا معدمًا يقطع ترعة الحلوات حافى القدمين، ممزق القميص أسود الأظافر، ولو أن الطفل البائس كان يملك جنيهين فقط أجرة طبيب وثمن دواء لما تغلغلت البلهارسيا فى كبده، وترعرعت فى معدته وقتلته بعد أربعين سنة من المرض والعلاج والعذاب. 

ولكن كيف استطاع عبدالحليم حافظ أن يجمع ثروته الطائلة؟ 

هذا السؤال طرحه على أحد الفنانين المغرورين اللئام الذين يعتبرون الفن وسيلة لثلاثة أهداف: كسب المال ونيل الشهرة والدق بالنسوان. 

فتمثلت نفسى أقول له: حتى تصبح غنيًا مثل عبدالحليم يقتضى أولًا أن تملك صوتًا عذبًا مثل صوته لا مثل صوتك الأجش، ووجهًا جذابًا مثل وجهه لا مثل وجهك الثعلبى، وذكاءً خارقًا مثل ذكائه لا مثل ذكائك الخبيث. 

ويجب أن تكون مثقفًا ثقافة موسيقية وعلمية رفيعة تمارسها فى المعاهد والجامعات والكونسرفاتورات لا فى الأزقة والشوارع والمواخير. 

وينبغى أن تكون طموحًا إلى مصادقة الكبار والنبلاء والأشراف، حتى إذا وصلت إليهم حافظت عليهم وصنت ودهم واحترمت مقامهم، فلا تطعنهم فى ظهورهم ولا تجرحهم فى كراماتهم ولا تنهش فى أعراضهم حتى لا يغضبوا عليك ويلعنوا أصلك ويطردوك طرد الكلاب. 

وفوق ذلك يتحتم عليك أن تكون فى الأصل فنانًا أصليًا لا فنانًا مزورًا، فنانًا يمارس الفن لمجرد الفن المرسل أولًا، ثم للاحتراف المشروع، ثم للكسب الشريف الذى لا تزحف إليه على بطنك وتعفر جبينك وتتاجر بمن معك لتنال مأربك. 

لقد كافح عبدالحليم حافظ طويلًا حتى أصبح الحليم الذى تعشقه الملايين، ولم يكافح بفنه وحده، بل بدفء لسانه وحسن تصرفه وعظيم احترامه لأصدقائه الأقربين قبل أصحابه الأبعدين. 

كان العندليب فنانًا حقيقيًا بكل شىء، بصوته وعلمه وخلقه، ولهذا أصبح مليونيرًا فى حياته ومدرسة فى مماته.

«ليندا فريدريك»... آخر نساء حليم 

وقعت الشبكة على سر عاطفى كبير كان يخفيه عبدالحليم حافظ عن الصحفيين حتى لا يثيروا حوله اللغط. 

هذا السر هو حبه فنانة إنجليزية تعمل فى حقل التمثيل وتدعى «ليندا فريدريك» شقراء، أنثى رائعة الجمال، ومتناسقة فى المظهر والجوهر مع العندليب. 

أحبها فى لندن عام ١٩٧٤، عندما شاهدها على شاشة التليفزيون البريطانى، وسأل صديقه وسميره ورفيق لياليه عبدالرحمن الخوجة عنها، فقال له إنها تسهر كل مساء فى نادى «كازانوفا»، الذى تربطها بصاحبه «جوليان بورتز» علاقة حميمية. 

وذهب عبدالحليم الذى نادى كازانوفا، وتعرف بليندا ودعاها مع صاحبها جوليان إلى مطعم «يلدزلار» فى لندن. 

وتوطدت الصلة بين المطرب العربى العاطفى والممثلة التليفزيونية البريطانية، فأحبها وعاهدها على الود، ووعدها بالتنقل الدائم بين لندن والقاهرة كلما سنحت له ظروفه الفنية والصحية بذلك. 

وياما شهدت ليالى لندن «حليم وليندا» يرتعان فى ضبابها ومرابعها وشوارعها الطيولة، وهما يتعانقان عناق العنادل ويتهادلان هديل الحمائم ويتناغيان مناغاة العشاق. لكن ليندا كانت تدرك أن عبدالحليم فنان غريب عنها كتب على جبينه «عازب»، لذلك كان لابد أن تقع فى غرام الفنان البريطانى «بيتر سيلزر» فتزوجته، وعند ذلك فقط انقطعت صلة عبدالحليم العربى بليندا الإنجليزية، ليندا الجميلة التى تعيش فى لندن فى الضباب فى العاصمة التى لفظ فيها فناننا الخالد آخر أنفاسه.

جسد عبدالحليم خريطة رسمتها العمليات الجراحية

الصور المنشورة مع هذا الكلام لعبدالحليم حافظ عمرها ثلاث سنوات، التقطتها عدسة الشبكة للفنان الذى أفل نجمه فى رأس الجبل بعاليه، حين كان يمرح فى أحضان الطبيعة اللبنانية قبل أن يحيى تلك الحفلة الغنائية الخالدة فى مربع البيسين. 

يومها كان اللغط حول مرض عبدالحليم، فانبرى من يدعى أن العندليب الأسمر ليس مريضًا ولا حاجة، بل إنه يتاجر بصفقة رابحة اسمها المرض ليكسب عطف الجمهور قبل كل حفلة غنائية ينوى إحياءها. 

وتضايق عبدالحليم من هذا الادعاء، وقال: هل يوجد فى الدنيا إنسان «يفوّل» على نفسه بالمرض حتى يكسب عطف الناس؟ هل هناك مخلوق سليم الجسم والعقل يلصق بنفسه تهمة المرض؟ إن صحيح الجسد يتباهى بعافيته، والناس يفرحون لمطربهم إذا كان قويًا وسعيدًا، فكيف أضعف ذاتى لأستدر عطف المستعطفين؟ 

ولم يكتف عبدالحليم بهذا الدفاع المنطقى، بل جمع قميصه الحريرى وقال: انظروا. 

ونظرنا فإذا صدره وظهره كخريطة جغرافية رسمتها العمليات الجراحية، أكثر من أربع- خمس عمليات شقت جلد جسده؛ لتستأصل من داخله العلل الخبيثة التى كانت تنهش حياته نهشًا، ولما ذهلنا لهذا المنظر الغريب، قال لنا: أرجوكم ألا تنشروا الصور التى التقطتموها لجسدى المثخن بالجراح، حتى لا يحسب الناس أنى أقوم بدعاية صادقة هذه المرة لمرضى، بل لأمراضى. 

ثم أضاف عبدالحليم: احفظوها فى أرشيفى إلى الوقت المناسب، فقد يأتى يوم تنشرونها فيه بعد أن يقتنع كل الناس أنى أداويهم بغنائى وأنا عليل، عندئذ طلب المصور من عبدالحليم أن يأخذ له عدة صور أخرى وبأوضاع مختلفة حتى يحفظها فى أرشيف الشبكة للذكرى والتاريخ. 

والوقت المناسب الذى تكلم عنه عبدالحليم جاء اليوم، ولكن بصورة رهيبة، جاء بعد أن قتلته علته ونقلته إلى رحمة ربه مأسوفًا على شبابه الغض.