الثلاثاء 03 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

جلال الدين الأمريكى.. وقائع تشويه أشعار جلال الدين الرومى فى أوروبا وأمريكا

جلال الدين الرومى
جلال الدين الرومى

- ترجمات الشاعر الظاهرة فى الغرب خضعت لتدخلات لنزع صبغته الإسلامية

- مؤسسات غربية حاولت التأثير على المترجمين لإظهاره كشاعر صوفى لا إسلامى

يمكننا وصف جلال الدين الرومى بالشاعر الظاهرة، ليس فقط لأن تأثيره تخطى الحدود الجغرافية، منطلقًا إلى سياق عالمى إنسانى أشمل، بل لأن أشعاره تحولت إلى أيقونات روحانية، يختلط فيها الجانب الفنى الأدبى، بالجانب الروحانى النفسى.

منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ترجمت أعمال «الرومى» إلى اللغات الإنجليزية والألمانية والفرنسية، وانتشر كتابه «المثنوى» فى الولايات المتحدة الأمريكية، واجتذب شرائح واسعة للغاية من القراء، الذين لا يعرفون أى شىء عن الدين الإسلامى من الأساس، لأن هذا الانجذاب، لم يكن مربوطًا بالدين، بل بالحس الإنسانى بشكل عام.

وكانت اللغة هى الأداة الأكثر تأثيرًا فى شعر «الرومى»، ربما لأنها تسير على حبل رفيع بين الحس الأدبى الخالص، والحس الصوفى الأصيل، وربما لأنها جمعت بين الجانبين، فى سياق له حالته الاستثنائية، ولذلك نبه النقاد كثيرًا إلى ضرورة التعامل مع شعره، دون النظر بأى شكل إلى أيديولوجيته الفكرية أو العقائدية.

وظل التعامل مع شعر «المثنوى»، مسار نقاشات عديدة فى المجتمع الأكاديمى الغربى، فى محاولة التدخل أو إصباغ نمط فكرى معين على ترجماته فى أوروبا، أو نزع الارتباط بين الشاعر والنزعة الإسلامية التى يحملها.

محاولات التشويه هذه، ناقشها وحللها كتاب «ترجمة الرومى إلى الغرب.. معضلة لغوية وما وراءها» لمؤلفه أرتابان صدقات، أستاذ الترجمة بجامعة تورنتو فى كندا، الصادر عام 2023، عن دار «روتيلدج» الأكاديمية العريقة، والذى نستعرض ملامح منه خلال السطور التالية.

 

ظاهرة «الروميمانيا»

يستند أرتابان صدقات فى «ترجمة الرومى إلى الغرب معضلة لغوية وما وراءها»، إلى أطروحته للدكتوراه فى جامعة «السوربون»، إذ يكشف من خلال بحث عميق، عن مختلف المشكلات المرتبطة بترجمة كتب «الرومى» إلى بعض اللغات الغربية، ويقدم تأملات دقيقة ومثقفة حول الجوانب السياسية والأيديولوجية واللغوية والثقافية والأخلاقية التى تحيط بعملية الترجمة.

ويتكون الكتاب الذى يقع فى ٣٣٠ صفحة، من ٧ فصول، الأول: «الصعوبات اللغوية»، والثانى: «الترجمة أو استرجاع النموذج الخطابى»، والثالث: «إعادة إنشاء شعرية الرومى»، والرابع: «ترجمة خطاب الرومى»، والخامس: «تأويل ترجمة الرومى»، والسادس: «سياسة استقبال الرومى»، والسابع: «الترجمة باعتبارها عملية أخلاقية».

ويرى المؤلف أن ظاهرة «الروميمانيا»، وهى انتشار اقتباسات وأقوال «الرومى»، بجنون وحماس فى أمريكا الشمالية والغرب، تعود إلى بعض نجوم هوليوود الذين ساهموا فى نشر كلمات «الرومى»، بتدوينها على حساباتهم على «السوشيال ميديا»، ومنهم النجمة الأمريكية مادونا والممثلة البريطانية تيلدا سونتون.

ويكشف عن كيف تم إدخال بعض أشعار «الرومى»، فى موسيقى بعض الفرق الشهيرة، مثل فرقة «كولد بلاى» البريطانية، والتى أصدرت ألبومًا، تضمن فقرات مستوحاة من شعره المترجم، فضلًا عن انتشار الترجمات فى المكتبات الأمريكية، بشكل جعل «الرومى» الشاعر الصوفى الأكثر مبيعًا فى الولايات المتحدة.

ويحلل الكتاب كيفية استقبال أعمال «الرومى» وفكره فى أمريكا الشمالية وأوروبا، وتعقيدات التواصل بين الثقافات بين الغرب والعالم الإسلامى، من خلال تقديم عشرات الأمثلة من النصوص الأصلية والمترجمة، وتحليلًا نقديًا لمختلف أبعاد هذا الاستقبال، مع تحديد الصعوبات فى ترجمة النص، علاوة على استكشاف أداء المترجمين شعره من مختلف العصور واللغات.

ويتطرق إلى القضايا اللغوية والعملية للترجمة، والأسلوبية والشعرية، والعوامل غير النصية، مثل معتقدات المترجم والجوانب السياسية والأيديولوجية للترجمة، فى إطار نظرى واسع، يسلط الضوء من خلاله، على صعوبات التواصل بين الثقافات من وجهات النظر اللغوية والاجتماعية والثقافية أيضًا، إضافة إلى أخلاقيات الترجمة والقواعد التى اتبعتها فى التعامل مع أعماله بشكل عام.

ويتناول المسائل اللغوية والعملية المتعلقة بالترجمات، مثل كيف يمكن، أو لا يمكن، ترجمة النص إلى لغات مثل الإنجليزية، وما الذى يتم فقده فى هذه العملية على مستوى النص، راصدًا أعمال العديد من المترجمين من مختلف العصور واللغات، وكيفية أدائهم فى الترجمة على مر السنين، ومنهم باحثون مستشرقون قدامى، مثل الأمريكى المتصوف آرثر جون آربرى، والبريطانى المتصوف رينولد ألن نيكلسون، وعشاق الرومى المعاصرون، مثل المترجم الأمريكى كولمان باركس، وهو أبرز المترجمين الذين ساهموا فى نشر أشعاره.

معضلة الهوية الدينية

يرى المؤلف أن «الرومى» يعد من بين أشهر المؤلفين فى الغرب، وأحد أكثر المبدعين ترجمةً لأعماله، وخاصة إلى اللغة الإنجليزية، بفضل الجاذبية القوية لقصائده، مع نغماتها الروحية الراقية، والتى استقبلها بحفاوة جمهور أمريكا الشمالية تحديدًا، وأعجبوا بها بشكل يشبه الجنون والهوس.

وبرغم ذلك الحماس والهوس بأعماله، ظل هناك الكثير من العقبات الرئيسية التى تحتم على المترجمين التغلب عليها فى نقل أعماله، ومنها الإشكاليات اللغوية والأسلوبية والشعرية والأخلاقية والتأويلية والاجتماعية والأيديولوجية.

على سبيل المثال، فإن ضبط الجانب اللغوى والأسلوبى والشعرى، عند ترجمة أعمال «الرومى» وإعادة كتابتها بلغة أخرى، يتطلب مجهودًا كبيرًا، لأنه يستخدم أدوات بلاغية يصعب على المترجمين إعادة بنائها، وتبدو تلك عملية النقل بالنسبة للمترجمين الفرنسيين على سبيل المثال، أشبه بالمهمة المستحيلة.

وبالنسبة للمترجمين للغة الإنجليزية، تظهر الجوانب السياسية والأيديولوجية والاجتماعية كعقبات رئيسية أمامهم، فهم فى كثير من الأحيان، يحذفون اقتباسات «الرومى» المأخوذة من القرآن الكريم، ويحذفون أيضًا بعض الإشارات التى ترمز للدين الإسلامى، ويصفونه بأنه صوفى روحانى بشكل عام وليس شاعرًا مسلمًا فى المقام الأول.

ويسلط الكتاب الضوء على تأثير المؤسسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فى الثقافات الإسلامية داخل أمريكا ودول الغرب، والتى تتحكم فى اختيار ونوعية الأعمال التى يتم ترويجها، كما تتحكم فى الاختيارات اللغوية للمترجم نفسه، والتى تجبره فى بعض الأحيان على إدخال بعض التعديلات على أعمال شاعر مثل «الرومى».

تشويه النص

يشير الكتاب إلى أحد أبرز الصعوبات التى تواجه المترجمين أشعار «الرومى»، وهى التعقيدات السياسية والأيديولوجية والاجتماعية ما بين دول الغرب ودول العالم الإسلامى، فعملية النقل تخضع بشكل دائم لتدخلات سياسية.

ويضرب المؤلف أمثلة على التدخلات السياسية والأيديولوجية فى عملية نقل قصائد الرومى إلى اللغات الأوروبية، حيث يجد المترجم نفسه أمام مشكلة أخلاقية، ويتعرض لضغوط من المؤسسات السياسية، من أجل فك ارتباط «الرومى» بدينه وهو الإسلام، وتجريده منه، وإظهار الجانب الصوفى الروحى منه فقط، مضيفًا أنه لا يمكن إنكار التأثيرات الإسلامية فى أعماله، ويكفى فقط أنه تم تأليفها فى بلد وسياق إسلامى.

ويضيف أن هناك طلبًا شعبيًا فى أمريكا الشمالية على ترجمة شعره الملهم روحيًا، خاصة كتاب «قصائد مختارة من ديوان شمس الدين تبريزى»، ولكن لا تخلو ترجمة كتبه من إشكاليات سياسية، نظرًا لاختلاف العلاقات الثقافية بين المجتمعات الغربية والعالم الإسلامى.

ويعرض المؤلف بعض حالات الخلافات والتلاعب السياسى، فى ترجمة أعمال «الرومى»، وكيف تم إجراء تعديلات على النص الأصلى، بشكل أحدث فجوة بين ما يقصده الشاعر وما يتم فهمه، وكيف تتم إعادة الصياغة من قبل المترجمين، بسبب التدخلات السياسية على الطبيعة اللغوية لخطاب «الرومى».

ويلفت إلى أن المترجمين أعمال «الرومى» اختلفوا، بحسب الزمن والسياقات الاجتماعية والسياسية لعصرهم، وكذلك انتماؤهم الأيديولوجى، فى نقل خطاب «الرومى» للقارئ، ووضعه فى مربع أيديولوجى ودينى معين، وهو ما يشكل نوعًا من أنواع التلاعب، ولكن فى حالة المترجم الذى يعمل بنزاهة، يظل النص كما هو ناصعًا دون أى تشويه.

ويوضح التأثير الأيديولوجى والسياسى على ترجمة أعمال «الرومى»، والتى تظهر على ثلاثة مستويات، منها «المستوى النصى»، من خلال الاختيارات والجوانب اللغوية والأسلوبية للمترجمين؛ و«المستوى المؤسسى»، من خلال تدخل المؤسسات السياسية، وهو ما يعطى مجالًا لتحريف بعض كلمات «الرومى».

ويشير إلى أن التحدى المتمثل فى ترجمة شعر الرومى، لم يعد يقتصر على مجرد نقل المفردات اللغوية، بأكثر طريقة صحيحة، ولكن يتعلق أيضًا بالدلالات الموجودة فى نصوصه المستوحاة من القرآن، والتى تعكس طبيعة «الرومى» الإسلامية، وهو ما يحاول البعض إخفاءه عند الترجمة، وهو يندرج تحت بند التشويه من الدرجة الثانية، بحسب نظرية أنطوان بيرمان، الذى وصف فيها تدخل الموقف الأيديولوجى للمترجم، بـ«التشويه».

الحياد الأيديولوجى

على الجانب الآخر، انتقد الكتاب، المترجمين المنتمين إلى التيارات الإسلامية، لأنها تفرط فى إظهار «الرومى» وكأنه عالم دين إسلامى، وهو ليس كذلك، لعدة أسباب، أولها أن جزءًا كبيرًا من المراجع الفكرية لـ«الرومى» مستلهمة من الديانات التوحيدية جميعها، وثانيًا، لأن الاقتباس من نص ما، خاصة النصوص المقدسة مثل القرآن والإنجيل، ليس دليلًا على أن المُقتبس عالم دين.

ويطالب المؤلف هنا بتطبيق مبدأ حيادية الترجمة وحيادية المترجم، لأن الالتزام بالحياد الأيديولوجى يخلق ترجمة عظيمة، ولأن النظرة الذاتية التى يصبغها المترجم على النص الموازى، تؤثر على فحوى النص، وتزيد احتمالية تشويهه لدى القارئ.

يقول المؤلف إنه يكاد يكون من المستحيل على المترجمين، أن يحيّدوا أفكارهم فى عملية الترجمة لأعمال «الرومى»، ولكن يمكنهم على الأقل الحد من الضرر الذى يلحق بالنص الأصلى، من خلال إدراك العواقب المحتملة لتدخلاتهم اللغوية واختياراتهم، وتفسيراتهم الخاصة، وفى الحقيقة «مهمة المترجم»، تتمثل فى أن يظل محايدًا تجاه النص، وحذرًا من القوى السياسية والأيديولوجية، التى تلعب دورًا فى فرض تصوراتها الخاصة.

ويؤكد أن المعلومات التى تتم إضافتها أو حذفها، يمكن أن تؤثر على فهم النص ووصول رسالة «الرومى» الروحية، لافتًا إلى أنه لا يزال الموقف الفكرى والأيديولوجى المتضارب فى الغرب وفى الشرق، لترجمة أعماله قائمًا، ومنقسمًا منذ بداية عمليات الترجمة فى القرن العشرين.

ويحذر من أن بعض المترجمين، لا يستطيعون مقاومة إغراء التمسك بمواقف أيديولوجية معينة، عند ترجمة نصوص «الرومى» سواء بمحو فكرة كونه مسلمًا، أو بادعاء أنه عالم دين، واصفًا هؤلاء المترجمين بأنهم خانوا «الرومى» والقارئ معًا، وفشلوا فى تصوير روحه عند ترجمة أعماله إلى الإنجليزية والفرنسية أو اللغات الأوروبية الأخرى، واختزلوه فى عقيدة دينية أو ليبرالية، وفرضوا تفسيرهم الخاص للنص، وكأنهم يتخذون القرارات بدلًا من القارئ.