السبت 27 يوليه 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الطريق إلى البلدة.. الحروب تُخاض مرتين يا كونلى

الطريق إلى البلدة
الطريق إلى البلدة

- الصراعات العسكرية لا تخاض فى ساحة المعركة فقط بل فى الذاكرة أيضًا

تعد رواية «الطريق إلى البلدة» أحدث أعمال الروائى النيجيرى شيجوزى أوبيوما، والتى صدرت فى مايو 2024، وحظيت بمتابعة كبيرة من القراء والنقاد. وتكتسب الرواية أهميتها من النجاح الذى حققته أعمال «أوبيوما»، والتى ترجمت إلى أكثر من 30 لغة، مع وصول أول روايتين له إلى القائمة القصيرة لجائزة «البوكر» العالمية، إلى جانب فوزه بعدة جوائز أخرى.
ويناقش مهرجان «هاى» للأدب والفنون، المقام حاليًا فى مقاطعة «ويلز» بإنجلترا، رواية «الطريق إلى البلدة»، إلى جانب أعمال أخرى لنفس الكاتب النيجيرى. ونشرت صحيفة «الجارديان» البريطانية مراجعة لتلك الرواية، تنقلها «حرف» إلى قرائها مترجمة إلى العربية فى السطور التالية.

لم تندلع هذه الحرب بسبب أطماع الرجال الأشرار الذين هاجموا جيرانهم من منطقة «الإيجبو» فى الشمال، وقتلوا ودمّروا منازلهم فقط، كما يعتقد «كونلى» بطل رواية «الطريق إلى البلدة» لـ«شيجوزى أوبيوما»، لكنها اندلعت لأن الحرب هى نتاج طبيعى للمجتمع، وبذرة ظلت تنمو وتروى بدماء البشرية على مدار آلاف السنين.

ويطرح «كونلى» عددًا من الأسئلة، فى محاولة منه لفهم أسباب الهجمات والعنف غير المبرر الذى يحدث حوله، ويجد نفسه محاصرًا فيه ومُجندًا فى صراع لا يرغب فى خوضه.

نجم الأدب النيجيري تشيغوزي أوبيوما يستعين بالتراجيديا الإغريقية | اندبندنت  عربية
النيجيرى شيجوزى أوبيوما

 

فى الصفحات الأولى من «الطريق إلى البلدة»، يدفن الطالب الشاب «كونلى» نفسه فى دراسته، بعدما حمّل نفسه مسئولية الحادث الذى أصاب شقيقه الأصغر «توندى» بالشلل. ينغمس كليًا فى الدراسة لدرجة أنه لم يسمع حتى عن اندلاع الحرب، وعند عودته إلى المنزل اكتشف أن «توندى» قد اختفى فى البلدة المعروفة الآن باسم «بيافرا».
يقرر «كونلى» إعادة شقيقه الذى تركه إلى المنزل، لكن سرعان ما يعتقله حرس الحدود البيافريين، عندما علم قائدهم أن والدة «كونلى» سيدة من «الإيجبو»، قبل أن يعرض عليه فرصة للقتال فى صفوفهم، بدلًا من إصدار أمر بإعدامه.
فى البداية، لم يفكر «كونلى» إلا فى الهروب، لكن تدريجيًا عندما صار صديقًا لأولئك الذين يقاتل إلى جانبهم، كرّس نفسه لقضية «بيافران»، أو على الأقل أقر بالولاء لرفاقه.
وتخللت قصة «كونلى» مشاهد تسبق ولادته، حيث يتنبأ أحد المنجمين بمستقبله وبالحرب القادمة، ويتساءل هل سينجح بطريقة أو بأخرى أم سيستسلم؟
وفيما نتذكر عبارة الروائى الأمريكى فييت ثانه نجوين الشهيرة: «كل الحروب تُخاض مرتين، المرة الأولى فى ساحة المعركة، والمرة الثانية فى الذاكرة»، نتذكر أيضًا ما أنتجته الحروب من آداب صنعها من خاضوها وعاصروها.
وعادة لا تظهر أعمال «أدب الحرب» بعد الحروب بشكل فورى، لأن الصراعات الأهلية خاصة تجبر من عاصروها من الكتاب على الصمت القسرى. على سبيل المثال، نشرت بوتشى إيميتشيتا، وهى سيدة من شعب «الإيجبو»، رواية «الوجهة بيافرا»، تحكى فيها تجربتها مع الحرب الأهلية النيجيرية، بعد مرور ١٢ عامًا على انتهاء الصراع فى عام ١٩٧٠. كما كتب تشينوا أتشيبى، الذى يُعتبر أبرز الأدباء النيجيريين، مذكرات بعنوان «كان هناك بلد»، تعليقًا على الصراع، لم تظهر للنور إلا فى عام ٢٠١٢. 
لكن هناك جيل من الأدباء أطلقت عليهم بارول سيجال اسم «أحفاد منتصف الليل»، وهم الذين لم يختبروا الصراع بتبعاته الصادمة، لكنهم كتبوا عن ما حدث. فى إسبانيا مثلًا، أثارت رواية خافيير سيركاس «جنود سلاميس» الصادرة عام ٢٠٠١ جدلًا واسعًا حول الكيفية التى ينبغى بها إحياء ذكرى الحرب الأهلية الإسبانية.

غلاف رواية  الطريق إلى البلدة


واليوم، أنتج جيل أصغر من الكتاب أعمالًا فى هذا السياق، من بينها «نصف شمس صفراء» لـ«شيماماندا نجوزى أديتشى»، و«تحت شجرة أودالا» لـ«تشينيلو أوكبارانتا»، و«أنا لا أزال معك» لـ«إيمانويل إيدوما»، علاوة على «الطريق إلى البلدة» لـ«أوبيوما».
واندلع صراع «بيافران» فى عام ١٩٦٧، ودارت رحاه بين الحكومة النيجيرية، وولاية «بيافرا» الانفصالية، وهو صراع بدأ بعد إعلان استقلال المنطقة التى تسيطر عليها «الإيجبو». حينها دعمت بريطانيا الحكومة النيجيرية، لكن بعد ذلك انتشرت تقارير إخبارية عن المجاعة فى «بيافرا» بسبب الحصار الحكومى لها، وأثار ذلك غضبًا شعبيًا، وانتهت الحرب بهزيمة «بيافرا»، وموت نحو ٣ ملايين شخص من أهل المنطقة بسبب الجوع والمرض والعنف.
وصلت روايتا «أوبيوما»: «الصياد» و«أوركسترا الأقليات» فى ٢٠١٥ و٢٠١٩ على الترتيب إلى القائمة القصيرة لجائزة «البوكر» العالمية. وتدور أحداث «أوركسترا الأقليات» بين نيجيريا وأوروبا، وهى تعتبر التطور الحديث لـ«الأوديسة»، وتحكى قصة رحلة مُربى دواجن إلى وطنه قادمًا من أرض بعيدة. وعلى نفس منوال «كونلى»، يشق الرجل طريقه عبر منطقة حرب من أجل الوصول إلى هدفه، وفى هذه الأثناء يخوض معارك ويصاب أكثر من مرة ويقترب من الموت، ويجن ويقع فى الحب.
ربما تكون للقصة علاقة بأسطورة «كاستور وبولوكس» اليونانية، التى يخوض «بولوكس» فيها رحلة إلى العالم السفلى لإعادة أخيه، بحثًا عن الخلاص والسعى لاستعادة رابطة الأخوة. وبسبب مشاهد المعارك والعنف الصادم فى «الطريق إلى البلدة»، نوهت الرواية إلى أنها ليست لضعاف القلوب.
وكان من الصعب جدًا كتابة مشاهد المعارك فى الرواية، كما أن مهارات «أوبيوما» لا ترقى فى بعض الأحيان إلى مستوى طموحاته. وعلى العكس من ذلك، فإن وصفه للموتى فى أعقاب المعركة كان مقنعًا، فكتب مثلًا: «كان الموتى يرقدون هناك فى كتلة هادئة. أجسادهم ملتوية على نفسها، والحبر الداكن من إصاباتهم القاتلة على زيهم الرسمى. كان هناك جندى يرقد وجذعه منحن فوق غصن شجرة مشقوق كما لو كان يحتضنه، وظهره ملطخ بالدماء. وبجانب جسده كان يوجد شاب ذو وجه وسيم، شفتاه مرفوعتان للأعلى كما لو كان يبتسم».
ويروى «أوبيوما» بشاعة الحرب التى لا هوادة فيها، وكأنها جرت من مسافة قريبة منه، مستعرضًا مشاهد التبرز والتبول والقىء، والجنود الجرحى الذين تُركوا لمصيرهم فى طريق تقدم القوات الفيدرالية، بينما يسبح الرجال المنوط بهم إنقاذهم إلى بر الأمان عبر النهر، علاوة على مشهد مبتور الأطراف الذى يشنق نفسه على عمود المرمى خارج المستشفى، والطيار الذى يسقط من طائرة هليكوبتر محترقة.
لكن فى أحيان أخرى كانت الكتابة متقطعة، وكان من الممكن تحريرها بشكل أكثر جدية. وظهرت جمل كثيرة كأنها مكتوبة على عجل، مثل: «يجدون منزلًا، نصفه مدمر، ويتحول إلى كومة من الأنقاض»، و«يتقلب وجه فيليكس وكأنه مغطى بشىء مشوه».
ومع تسارع وتيرة قصة «كونلى»، تصبح الكتابة أكثر انسيابية. وفى مرحلة ما، يقترب «كونلى» من الموت ويدخل العالم السفلى، حيث يلتقى بالموتى الجدد، بمن فيهم المدنيون وضحايا الاغتصاب، والرجال الذين أطلق عليهم الرصاص بعدما هربوا من التجنيد. ولأول مرة يلتقى بجنود فيدراليين، وكان الجميع ضحايا لنفس الحرب، خاصة الذين لا صوت لهم، الملايين من الموتى الذين لا تُحكى قصصهم ولا تُسمع.
وما يمكننا استخلاصه من الرواية باستثناء أن الحرب وحشية هو أن القارئ يشعر بالألم على الأرواح التى دُمرت بشكل متهور وتعسفى، وبالألم على الأمهات والآباء المحرومين من أبنائهم، وعلى بلد لا يزال يتعافى بعد أكثر من ٥٠ عامًا من الحرب.
وأخيرًا فإن «الطريق إلى البلدة» تمثل اتجاهًا أدبيًا، يسعى إلى أن يكون الخيال الأدبى أكثر إقناعًا من أى كتاب تاريخى، وجزءًا حيويًا من محاولة الحفاظ على الماضى كذاكرة حية.
- فييت ثانه نجوين: أستاذ وروائى أمريكى فيتنامى، وهو رئيس كرسى «إيرول أرنولد» للغة الإنجليزية، وأستاذ الدراسات الإنجليزية والأمريكية والعرقية فى جامعة جنوب كاليفورنيا.